المعنى التداوليّ في الحال (السياق)

“واسأل القرية” “الحشد”صياغة سيميائيّة لمفهومي الحذف والاتّساع – إبراهيم طه

  1. المعنى التداوليّ في الحال (السياق)

يقول الغزالي (450 – 505 ه): “فاعلم أنّ كلّ من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرّر المعاني أولا في عقله، ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى”[41]. يؤكّد الغزالي في المستصفى دور الذهن في تقعيد المعاني والأفكار ويرفعه مقامًا عاليًا مقارنة بالألفاظ والموجودات. وقد رأينا هذا الموقف عند بعض اللغويّين والسيميائيّين المحدثين  كدي سوسير وأمبرتو إيكو(Umberto Eco 1932 – 2016). وهذه المعاني المستقرّة في الأذهان تظهر على شكل أعراف لغويّة تواصليّة عامّة (Communicating conventions)، وفيها يلتقي طرفا الخطاب، المخاطِب والمخاطَب. وهذه المعاني لن تصير، في محصّلتها النهائيّة، جزءًا من أعراف لغويّة عامّة إلا بالتراكم المستمرّ. والمعنى التراكميّ التداوليّ يقوم على أمرين إذًا: (1) اتّساع اللغة في ذاتها ومرونتها الطبيعيّة، (2) اتّفاق الناس بشأنها حسب الأحوال والسياقات. في أذهان العامّة ألفاظ كثيرة جامعة وحاشدة منها ما كان علامة مكانيّة كالكون والدنيا والوطن والدولة والمدينة والقرية والحافلة، ومنها ما كان علامة زمانيّة كالقرن والسنة والشهر واليوم، ومنها ما كان علامة تاريخيّة وحضاريّة. وبعد كلّ ذلك لماذا الإصرار على اللفظة إذا كان المعنى قادرًا على الانفصال عنها في سياقات مختلفة؟ استمرارًا للمثال الذي قدّمه إيكو بشأن البيت الذي يحترق، إن قلت لأحدهم إنّ بيته يحترق وهو بعيد عن بيته فهم أنك تحضّه على الإسراع لاحتواء الأمر[42]، كما يقول إيكو، وقد لا يكون هذا هو قصدك في الأصل، كأن تريد الشماتة أو المزاح الثقيل مثلًا. وإن قلت الجملة نفسها وهو في بيته وبيته لا يحترق فيكون لقولك هذا معنى آخر، كأن تعني مثلًا بأنّ أسرته ذاهبة إلى التفكيك والخراب. ومثلما نرى قد يحتمل القول نفسه معاني عديدة وفق السياقات، ما يعني أنّ المعاني قد ترتهن بالسياقات بصفة حصريّة لا بألفاظها. والسياقات تتشكّل من مجموع مركّباتها المختلفة كالمخاطِب والمخاطَب والزمان والمكان.

يحدّد فان دايك (Teun A. Van Dijk) عناصر السياق في التداوليّة اللغويّة (Pragmatics)، بوصفها المركّب المركزيّ الثالث في أيّ نظريّة سيميائيّة، وهي تتلخّص في مجمل التفاعلات بين العلامات والرموز ومستخدميها في سياقات معيّنة.[43] والسياق العامّ يشمل ثلاثة أشكال من السياقات: سياق المقام، سياق الإرسال وسياق التلقّي. أما سياق المقام، أو الحال، فهو الظرف الذي قاد المرسِل لاستخدام هذا التركيب بعينه دون سواه، وهو مقتضى الحال، من باب “لكلّ مقام مقال”. فلكلّ مقام مقال يليق به ولكلّ حال مقتضاه من التعبير  يحتاج إليه بصفة حصريّة. وإن اختلّت العلاقة الدقيقة بين المقام والمقال أو بين الحال والمقتضى فشلت عمليّة التواصل أو أصابها شيء من الخلل. والظرف الذي يحتضن هذه الآية بتركيبها اللغويّ هو ظرف حركيّ دراميّ ما يعني أنّ هناك شخصيات فاعلة تتحرّك في إطار موقف خاصّ يحكمه كثير من مظاهر الرغبة والتوتّر والتوسّل والخطأ والندم. يتحدّث الجرجاني في نظرية “النظم” عن سياق التراكيب اللغويّة وتعلّق الكلم بعضها ببعض، أو  ضمّ أجزاء الكلام “على طريقة مخصوصة”. ونظم الكلام على هذا النحو مردود لاعتبارات سياقيّة كثيرة.[44] إذًا هذا ما يجعل التركيب لغة نصّ لا لغة مجرّدة. إنّ موافقة المقال للمقام هي ما تجعل اللغة كلامًا حسب تعبيرات دي سوسير. وحين تصير اللغة كلامًا تتبنّى هويّة خاصّة. فإذا افترضنا أنّ السؤال لا يعمل في “القرية” مباشرة بل في أهلها – كما يقول سيبويه وعلى هذا الأساس قدّر محذوفًا – ولأنّ هناك محذوفًا قد انتقل حكمه إلى ما تبعه من لفظ وهذا هو وجه المجاز كما يقول الجرجاني – إذا افترضنا ذلك فإنّ هذا يعني في المقام الأول تجاهلًا كليًا للخصوصيّة التي يكتسبها التركيب اللغويّ في انتقاله من صرامة النظريّة إلى مرونة الممارسة. يحتاج المرسل في هذه الآية، أبناء النبي يعقوب، إلى هذا الحشد، حشد كلّ ما يمكنه أن يساعد في تقديم رواية مقنعة. والمتلقّي حين يسمع هذا الكلام “واسأل القرية” لا يذهب ذهنه إلى البيوت بحجارتها ومكوناتها بصفة حصريّة بل يذهب أولًا إلى أهل القرية، كلّ أهلها المقيمين والوافدين.

إنّ ما فعله أبناء نبيّ الله يعقوب، عليه السلام، هو الجري على العرف اللغويّ المتّبع في ذاك الوقت والمستمرّ إلى يومنا هذا، وهو الإطلاق. وإطلاق المعاني متروك للأحوال أو المقامات أو ما نسمّيه اليوم بالسياقات. وهو يعني مدّ المعنى إلى أقصى حدّ ممكن. يرى السكّاكيّ [555 – 626 ه] أنّ الحال يلعب دورًا حاسمًا بما يقتضيه من صياغات لغويّة وما تشمله من حذف وزيادة وإثبات، فلا يترك بعض الكلام ولا يُثبت إلا حسب “المقتضى”.[45]  ومقتضى الحال في الواقع الذي يُفرض فيه مقام الكلام، نمط التعبير، أحوال المرسِل والمرسَل إليه. والسياق العامّ للكلام يشمل أمورًا كثيرة على نحو ما يفصّلها الجاحظ في البيان والتبيين، كأحوال المتكلم وأقدار المستعمين وأقدار المعاني والحالات والمقامات.[46] يتحدّث الجوينيّ [419 – 478 ه] في البرهان في أصول الفقه عن أثر السياق في تقييد الكلام المطلق وضبط معانيه. “إذا كانت الصيغة المطلقة مقصودة للمتكلّم، فلا بدّ من قرائن التقييد، وهي تنقسم إلى قرائن مقال [أي سياق الكلام] وإلى قرائن أحوال [أي السياق التداوليّ]”.[47] وهل السؤال هنا بالمعنى الحقيقي بمعنى الطلب والحضّ، أم بمعنى آخر تمامًا على نحو ما قدّمه إيكو في مثاله “البيت يحترق”؟ هل يعقل أن يطلب أبناء يعقوب عليه السلام من أبيهم السفر إلى مصر، مع وهنه وما أصابه من غمّ وهمّ ومرض، ليسأل الناس في القرية كلّهم عمّا حدث لبنيامين؟ أم أنهم، إخوة يوسف، لم يقصدوا السؤال أصلا، وكلّ ما فعلوه أنهم حاولوا إقناع أبيهم بصدق روايتهم؟ ما داموا في ورطة أمام أبيهم فسوف يبذلون كلّ ما بوسعهم للنجاة بما في ذلك توظيف الإطلاق، وهو كلّه من المبالغات، وكأنهم بقولهم “واسأل القرية” يحاولون القول واسأل القرية كلّها بمن فيها وبما فيها بأرضها وسمائها وبيوتها وزرعها، لعلّهم بذلك يقنعون أباهم بصدق ما يقولون. إذًا معنى قولهم في الآية صدّقنا يا أبانا وإنّا لصادقون. ولذلك نعتقد أنّ هذا التعبير أبلغ تعبير في السياق الذي قيل فيه هذا الكلام على لسان إخوة يوسف. إذا كان هذا الفهم معقولًا فالتعبير “كامل” حسب مقتضى الحال، والآية كلّها جاءت على إيجاز الحشد. والإيجاز أبلغ من الحذف. إنّ السياق الذي قيل فيه هذا الكلام يقتضي اللجوء إلى هذا الشكل الموجز الذي يقوم على التعميم والشمولية والإطلاق كما بيّنا. الحذف يعني وجود لفظة ثبّتت في الأصل ثمّ لضرورات التعبير حذفت وأسقطت. وهكذا يُفهم من كلامنا أنّ قول الله تعالى “واسأل القرية” يختلف تماما في معناه عن قولنا “واسأل أهل القرية”، على النحو الذي قدّره النحويّون والبلاغيون من السلف. ولذلك يتّضح أنّ الأخذ بمقولة “لكلّ مقام مقال” يساهم في فهم الكلام فهمًا دقيقًا. ومقتضى الحال أو المقام، السياق العام الذي ولد فيه المقال، يفرض على صاحب القول، إخوة يوسف، أن يحضّ على سؤال كلّ من يمكنه أن يُسأل وما لا يُسأل حتى يثبت براءته.[48]

بعد اعتراض ابن مضاء القرطبيّ (513 – 592 ه) على مسألة الحذف المتكلّف الذي لا طائل منه، يسعى بعض المعاصرين أيضًا إلى دحض مفهوم الحذف في القرآن الكريم واللغة العربيّة، ولعلّ كريم حسين ناصح الخالدي وفضل حسن عبّاس من أبرز هؤلاء[49].  يتحدّث الخالدي في البديل المعنويّ من ظاهرة الحذف عن الالتفات إلى المعاني لا إلى المباني عبر تأكيده على دور السياقات. إنّ إفادة السياق يخصّص للسامع المعنى المقصود بيسر من غير تقدير ويبدو كريم حسين ناصح الخالدي محقًّا في تفسيره لشيوع ظاهرة التقدير والإضمار والحذف في النحو العربيّ حين جعلها مردودة لاعتبارات تعليميّة. وهذا من بين الاعتبارات التي جعلت كثيرًا من النحاة يغالون في تقديس نظريّة العامل وينحون منحى شكليًّا صارمًا في توصيفهم للنحو وبهذا يبتعدون عن التوجّه الدلاليّ للنحاة الأوائل حين انشغلوا بوسائل التعبير عن المعاني.[50]

 

أكمل قراءة الدراسة 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*