“واسأل القرية” “الحشد”صياغة سيميائيّة لمفهومي الحذف والاتّساع – إبراهيم طه
3) المعنى التداوليّ في مقتضى الحال
يرى الغزالي والآمدي (ت 631 هـ) أنّ دلالة اللفظ إمّا أن تكون لفظيّة وإمّا غير لفظيّة. “واللفظيّة إما أن تعتبر بالنسبة إلى كمال المعنى الموضوع له اللفظ أو إلى بعضه، فالأول: دلالة المطابقة وهي دلالة اللفظ على المعنى كدلالة لفظة البيت على مجمو ع الجدار والسقف. والثاني: دلالة التضمّن وهي دلالة اللفظ على جزء من أجزاء المعنى المتضمّن له، كدلالة لفظ البيت على الجدار أو السقف. وقد تكون المطابقة أعمّ من التضمّن لجواز أن يكون المدلول بسيطًا أحاديّ البنية لا يتجزّأ. وأمّا غير اللفظيّة فهي دلالة الالتزام، وهي أن يكون اللفظ له معنى، وذلك المعنى له معنى يلزمه خارج عن ذاته. ومن ذلك قولهم السقف يدلّ على أنّ هناك جدارًا يحمله، وإلا كيف يكون السقف بغير ذلك؟ وكأنّ لفظة سقف التزمت بلفظة الجدار. فعند فهم مدلول اللفظ من اللفظ ينتقل الذهن من مدلول اللفظ إلى لازمه، ولو قدر عدم هذا الانتقال الذهنيّ لما كان ذلك اللازم مفهومًا”. والفرق بين دلالة التضمّن والالتزام هو “في التضمين لتعريف كون الجزء داخلًا في مدلول اللفظ. وفي الالتزام لتعريف كونه خارجًا عن مدلول اللفظ، فلذلك كانت دلالة التضمّن لفظيّة بخلاف دلالة الالتزام”.[67] وبالمعاينة المتأنّية نجد أنّ بعض المعاني الموصولة بلفظة القرية، بصفة أو بأخرى، مطابقة وبعضها متضمّنة وبعضها ملتزمة. يسير المعنى المعجميّ للفظة القرية من البعضيّة إلى الكلّيّة. ما يعني أنّ مجموع هذه المعاني يغني عن تقدير أيّ محذوف. فلفظة “أهل”، على النحو الذي يقدّرها النحويّون والبلاغيّون، مضمرة في لفظة “القرية” باعتبارها جزءًا من تعريفها المعجميّ.
لقد استقرّ في أذهان العامّة أنّ المكان يشمل أهله وبهذا يكون دالًّا عليهم. فالقرية تشمل الأهل ولا ينعكس. ثمّ هل المقصود سؤال الأهل فقط في سياق هذه الآية؟ أم كلّ من كان حاضرًا وشهد الحادثة مع أخي يوسف بما في ذلك القريب والغريب وعابر السبيل؟ إذًا كيف سيكون حجم التعبير بذكر كلّ هؤلاء؟ إنّ القرية في هذه الآية ترتقي إلى درجة الأسماء التي تستبدل مسمّياتها كأسماء البشر مثلًا. والتسمية تعني أمرين متعالقين الحشد والإيجاز. تحشد أكبر قدر ممكن من المركّبات وتوجزها في لفظة. لو لعن أحدهم “الدنيا” أمامك وسألته عن معنى قوله لأسهب في الجواب، لأنك في الحقيقة تسأله عن معاني لفظة “الدنيا”. وما هي الدنيا بالضبط؟ يتحدّث شفيع السيّد في المجاز المتعلّق بالمكان في القرآن الكريم ويمثّل لذلك بقوله تعالى “فليدع ناديه” (العلق: 17)، أو كقول المعاصرين “أصدر القصر الجمهوري”. يشير السيّد بذلك إلى أنّ المعاني في مثل هذه الصياغات اللغويّة هي تراكميّة تثبت بالتداول المستمرّ المنقول جيلًا بعد جيل المتداولة عند السلف والخلف على حدّ سواء. ويرى السيّد أنّ توظيف المكان بديلًا عن أهله أو ساكنيه يجمع بين المجاز والاختصار: “ولعلّ قيمة المجاز هنا تكمن أصلا في الاختصار، والاكتفاء عن ذكر عدد من الأسماء بذكر المكان الذي يضمّها ويحتويها، وقد يُضاف إلى ذلك ما يخلعه الإبهام وعدم التعيين لأسماء أشخاص بذواتهم على المعنى المراد من أهمّية في بعض الأحيان”.[68] ومن معانى القرية تلك اللاصقة باللفظ من باب التطابق وتلك التي يقرّها المنطق بالتضمّن والالتزام:
- اجتماع الناس بصورة دائمة في موضع يمارسون فيه حياتهم كمجموع لضرورتين مركزيّتين الطعام والأمن لأنه “مدنيّ بالطبع “على نحو ما يؤكّده ابن خلدون (732 – 808 ه) في المقدّمة[69]،
- بفضل هذا الاجتماع يصير الموضع كيانًا سياسيًّا مدنيًّا يحكمه من أهله حاكم أو قاض أو مسؤول يكون مرجعًا لكلّ سائل،
- وإذا كانت القرية كذلك، كيانًا سياسيًّا يظلّ الناس فيه يجتمعون وفق منظومة من الضوابط والأعراف، فهي ليست معزولة عن التواصل مع الآخرين، يفد إليها الغرباء لحاجاتهم المختلفة. ما يعني أنّ في القرية أهلًا آخرين يقيمون فيها بصفة مؤقّتة،
- وحيث يجتمع الناس تكون الحيوانات البيتيّة الأليفة والشجر والنبات بقدر ما يحتاجه الناس،
- والقرية بمفاهيم بسيطة، أو بمعناها المطابق القريب، عبارة عن مساكن من حجر ومدر أو غيره.
تحدّث العرب عن تلازم المعاني واجتماعها في المفردات، إما بصفة حقيقيّة أو متخيّلة، بمفاهيم مختلفة كالاكتفاء والتضمين والإيجاز. يقول الزركشيّ في البرهان في علوم القرآن إنّ الاكتفاء يعني: “أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفي بأحدهما عن الآخر”.[70] ويؤكّد الزركشيّ أن “ليس المراد الاكتفاء بأحدهما كيف اتفق، بل لأنّ فيه نكتة تقتضي الاقتصار عليه” ولذلك نرى أنّ لفظة القرية في هذا المقام والسياق هي أشمل من لفظة أهل ولذلك تكفي “القرية” لتعني الأهل. القرية كلٌّ والأهل بعضها. والذهاب إلى الكلّيّة أبلغ من البعضيّة في هذا المقال المحتكم إلى مقامه. إنّ معنى لفظة “أهل” حاضر في لفظة “القرية” وليس محذوفًا، وإلا كيف نهتدي إلى المحذوف إن لم يكن المعنى حاضرًا بدليل أو قرينة؟ إذا كان الدليل أو القرينة شرط الحذف، مثلما يؤكّد النحويّون العرب بإصرار، إذًا هذا الدليل في ذاته المثبت في اللفظ قد يُغني عن تقدير محذوف. فالألفاظ قد تحشد من المعاني ما يجعلها جامعة تقرّها اللغة ذاتها على مستوى النظريّة والتداول. إنّ استنباط معنى لفظة معيّنة من لفظة أخرى هو في أصل اللغات. وهو أمر مألوف ومأنوس حتى في لهجات العامّة من الناس. وقد يظهر على أشكال عديدة أهمّها البيان والمجاز. إذا كانت هناك لفظة قد حذفت، فما علّة هذا الحذف وما هي علاقته بسياق الآية ثمّ ما هي حاجة المعنى إليه؟ نحن في هذه المقالة نقترح استبدال لفظة “إختصار/حذف” كما يقترحها سيبويه وكلّ من أتى بعده، بلفظة حضور. والحضور في هذه الحالة يقوم على أساس تعالق الجزء بالكلّ، أو التحاق البعض بالكلّ. فالقرية تشمل الأهل ولا ينعكس، مثلما يجيز المنطق اللغويّ. والقرية لا تتسمّى باسمها هذا إلا إذا كانت مأهولة بأهل. وما سمّيت القرية قرية إلا لاجتماع الناس فيها. فالقرية إذًا هي في جوهر تعريفها جغرافيا وناس يسكنونها. وهكذا الوطن أيضًا. وكلّ من أصرّ على الحذف ذهب إلى أنّ السؤال لا يعمل في القرية إلا من باب المجاز فقد فعل ذلك باعتبار القرية حيّزًا جغرافيًّا فقط. وهي بطبيعة الحال ليست كذلك في تعريفها المعجميّ. وهكذا قد تُسأل القرية لأنها لا تكون قرية أصلًا إلا بأهلٍ فيها يُسألون. وهكذا يتضمّن الحقل الدلاليّ للفظة القرية معنى الأهل. يرى ابن جنّي في الخصائص أنّ بعض الكلام لا يُحذف إلا لوجود الدليل عليه أو “الحال الشاهدة”[71]. ويتحدّث الراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن عن أثر السياق في تحديد المعاني القرآنيّة ويأتي بآية “واسأل القرية” مثالًا على ذلك. يقول: “القرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعًا، ويُستعمل في كلّ واحد منهما، قال تعالى: “واسأل القرية”، قال كثير من المفسّرين معناه أهل القرية. وقال بعضهم بل القرية ها هنا القوم أنفسهم، وعلى هذا قوله: “وضرب الله مثلًا قرية كانت آمنة مطمئنّة”.[72]
ومن الأمثلة المشهورة على تلازم المعاني في القرآن الكريم ما يناقشه ابن تيمية في باب الحقيقة والمجاز: “”وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ” (يوسف: 82)، قالوا المراد به أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه فقيل لهم لفظ القرية والمدينة والنهر والميزاب وأمثال هذه الأمور التى فيها الحالّ والمحالّ كلاهما داخل في الاسم ثم قد يعود الحكم على الحالّ وهو السكّان وتارة على المحلّ وهو المكان، وكذلك في النهر يقال حفرت النهر وهو المحلّ وجرى النهر وهو الماء ووضعت الميزاب وهو المحل وجرى الميزاب وهو الماء وكذلك القرية، قال تعالى:[…]: “أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ” (الأعراف: 97). فجعل القرى هم السكان. […]. فهذا المكان لا السكّان لكن لابدّ أن يلحظ أنه كان مسكونًا فلا يسمّى قرية إلا إذا كان قد عمر للسكنى مأخوذ من القرى وهو الجمع ومنه قولهم: قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه[73]. ونظير ذلك لفظ “الإنسان” يتناول الجسد والروح ثمّ الأحكام تتناول هذا تارة وهذا تارة لتلازمهما؛ فكذلك القرية إذا عذّب أهلها خربت وإذا خربت كان عذابًا لأهلها فما يصيب أحدهما من الشرّ ينال الآخر كما ينال البدن والروح ما يصيب أحدهما. فقوله: “وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ” (يوسف: 82) مثل قوله: “قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً” (النحل: 112). فاللفظ هنا يراد به السكّان من غير اضمار ولا حذف. فهذا بتقدير أن يكون في اللغة مجاز فلا مجاز في القرآن، بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف والخلف”.[74] وقد صوّب الفرّاء هذا الرأي، أي التنقّل ين الضمائر في آية “وكم من قرية أهلكناها”: “ردّ الفعل إلى أهل القرية وقد قال في أولها (أهلكناها) فجاءهم، ولو قيل، كان صوابًا. ولم يقل: قائلة، ولو قيل لكان صوابًا”.[75]
ومن أبرز الأشكال البلاغيّة التي تتلازم فيها المعاني في اللفظ الواحد هو التضمين وهو على وجه التحديد، إشراب اللفظ الواحد معنيين منفصلين. وهو غير التضمين المعروف في بلاغة الشعر، وفيه يقول الرمّاني (296- 386 هـ): “تضمين الكلام هو حصول معنى فيه من غير ذكر له بإسم أو صفة هي عبارة عنه”.[76] والتضمين عنده على وجهين: “أحدهما ما كان يدلّ عليه الكلام دلالة الإخبار، والآخر ما يدلّ عليه دلالة القياس”.[77] أما تضمين الإخبار فهو على نوعين: (1) ما توجبه بنية الكلمة، (2) وما يوجبه معنى العبارة من حيث لا تصحّ العبارة إلا به ومن حيث جرت العادة بأن يعقد به. والتضمين على العموم هو أن يؤدّي اللفظ معناه ومعنى لفظ آخر وهو من أشكال التوسّع. وهو عند بعضهم: “إشراب لفظ معنى لفظ آخر، وإعطاؤه حكمه؛ لتصير الكلمة تؤدّي معنى الكلمتين”.[78] وهكذا لا يمكن أن تكون القرية معزولة عن أهلها حتى على مستوى اللغة وليس فقط على مستوى الواقع، ولو من باب التضمين، على نحو ما يعرّفه البلاغيّون. وهذا ما تستسيغه الذائقة العامّة أيضًا. كلّ من تحدّث عن حذف في هذه الآية لم ينكر أنّ القرية تشمل الأهل، أو أنّ الأهل هو من معاني القرية، لكنهم تحدّثوا كما يبدو عن فصل وعزل للمعاني المختلفة في اللفظ الواحد. وهذا بطبيعة الحال ما لا يقبله السياق بأيّ حال من الأحوال.
وتأكيدًا لهذا التلازم بين القرية وأهلها وردت لفظة القرية بديلًا عن أهلها في كثير من آي القرآن الكريم. في سورة الأعراف: “وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ” (163). في هذه الآية إشارة واضحة إلى طاقة هذه اللفظة (القرية) على حشد المعاني والمزج بينها. فقال “القرية” بجانبها المكاني “التي كانت حاضرة البحر”، ثمّ أوردها بمعناها البشريّ فقال “إذ يعدون في السبت…”، فإلى من تعود الواو في الفعل “يعدون” ولم تُسبق بلفظة “أهل” أو ما شابهها؟ ما يعني أنّ لفظة “القرية” في ذاتها تقبل هذه الصياغة المزجية على النحو الذي نراه في هذه الآية. في القرآن الكريم تظهر لفظة قرية في سياقات عديدة وفي معظمها تشكّل معادلًا لفظيًّا لسكّانها بحيث يستخدم الواحدة مكان الأخرى من باب البدل المطابق ويمزج بوضوح عند الإشارة أو الإحالة إليها بين ضميرين العاقل وغير العاقل[79]. يقول الله تعالى في سورة الأعراف: “وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ” (4). جاء الحديث في بداية الآية عن قرية أهلكها ربّها ثمّ في آخر الآية يصير الحديث عن بشر “بياتًا” أو “قائلين”. يقول الطبريّ في تفسير هذه الآية: “فإن قال قائل: فإنّ الله تعالى ذكره إنما أخبر أنه “أهلك قرًى”، فما في خبره عن إهلاكه “القرى” من الدليل على إهلاكه أهلها؟ قيل: إنّ “القرى” لا تسمّى “قرى” ولا “القرية” “قرية”، إلا وفيها مساكن لأهلها وسكّان منهم، ففي إهلاكها إهلاك مَنْ فيها من أهلها”.[80] يقول الطبري في هذه المسألة الإحالة إلى القرية بضميرين مختلفين: “وقيل: “فجاءها بأسنا “خبرًا عن” القرية” أنّ البأس أتاها، وأجرى الكلام على ما ابتدئ به في أول الآية. ولو قيل: “فجاءهم بأسنا بياتًا”، لكان صحيحًا فصيحًا، ردًّا للكلام إلى معناه، إذ كان البأس إنما قصد به سكّان القرية دون بنيانها، وإن كان قد نال بنيانها ومساكنها من البأس بالخراب نحوٌ من الذي نال سكّانها. وقد رجع في قوله: (أو هم قائلون)، إلى خصوص الخبر عن سكّانها دون مساكنها، لما وصفنا من أنّ المقصود بالبأس كان السكّان، وإن كان في هلاكهم هلاك مساكنهم وخرابها”.[81] وعلى هذا الأساس ينفي الطبريّ ذهاب الكثيرين إلى أنّ هناك حذفًا في هذه الآية. يقول: “وكان بعض أَهل العربيَّة يزعم أَنَّ في الكلام محذوفًا، لولا ذلك لم يكنِ الكلام صحيحًا، وأَنَّ معنى ذلك: وكم من قرية أَهلكْناها، فكان مجيء بأسنا إِيَّاها قبل إِهلاكنا. وهذا قول لا دلالة على صحَّته من ظاهر التَّنزيل، ولا من خبر يجب التَّسليم له، وإِذا خلا القول من دلالة على صحَّته من بعض الوجوه التي يجب التَّسليم لها كان بَيِّنًا فساده.[82] أمّا حين يصرّح القرآن الكريم بلفظة “أهل” صريحة منسوبة إلى لفظة “قرية/قرى” فهذا يعني بالضرورة أنّ هناك اختلافًا في المعاني بين الصياغتين. في كلّ الآيات التي تذكر لفظة “أهل” مصحوبة بلفظة “قرية” يأتي الحديث عن البشر بصفة حصريّة لا عن المدر والحجر.[83] ومثال ذلك ما نجده في سورة يوسف نفسها: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ” (109). في هذه الآية تصريح بلفظة أهل لضرورات الحال، فالحديث عن رجال من أهل القرى لا عن القرى كلّها. أمّا في الآية: “وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا” (الفرقان: 40) فإن التركيز هو على الجانب المكانيّ في القرية، ومطر السوء كان باديًا على تفاصيلها الجغرافيّة على تربتها وشجرها وعمرانها وكلّ العلامات المكانيّة الأخرى (spatial signs).
والقرية في سياق هذه الآية لا تشمل الأهل فحسب بل تشمل المزيد من المعاني الملحقة، مثلما أشرنا، وهي كلّها حاضرة في تعريف القرية. لكنّا نصرّ على المعاني المتضمّنة والملتزمة فيها لأنّ حاجة السياق إليها ماسّة. إذا كانت الآية قد اتّسعت بفضل الحذف المفترض للفظة “أهل”، مثلما يقول سيبويه ومن تبعه من النحويّين والبلاغيّين والمفسّرين، فإننا في هذا الباب ندّعي أنّ هذه اللفظة غير محذوفة بل هي جزء من المعاني التي تلتزم بها لفظة القرية مثلما تلتزم لفظة السقف بحائط لا يرتفع إلا به. ويمكن القول إن علاقة القرية بالأهل هي مطابقة ومتضمنة وملتزمة بنفس الوقت لأن القرية لا تكون قرية إلا بأهلها. وهكذا تكون لفظة القرية واسعة المعاني وشاملة في أصلها وتعريفها. لفظة القرية هي لفظة حاشدة في ذاتها وفي السياق العامّ الذي وردت فيه الآية كلها على نحو ما سنبيّن لاحقًا. إنّ الاحتكام الفطريّ الصارم لاعتبارات الحقيقة والمجاز جعلهم يصنّفون المفردات في كيانها المعجميّ بصفة مستقلّة عن أنماط التعبير والسياقات التي قد ترد فيها. فقالوا إنّ الفعل “سأل” لا يكون إلا فيمن يُسأل وكان قادرًا على الردّ. علمًا بأنّ السؤال قد لا يكون في حاجة إلى ردّ في ثلاث حالات: (1) إذا كان السائل لا يبتغي ردًّا على سؤاله في الأصل، وهذا قد يحدث في حالات كثيرة معروفة، (2) إذا كان المسؤول يمتنع عن الإجابة وهو قادر عليها، (3) وإذا كان المسؤول غير قادر على الردّ. لذلك قد يُسأل المدر والحجر دون أن تكون ثمّة حاجة لجواب. يربط ابن يعيش في شرحه لكتاب الزمخشريّ بين السؤال وضرورة الردّ في حديثه عن هذه الآية ذاهلًا عن كلّ ما تقدّم بقوله: “إذا حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه، وأعرب إعرابه، والشاهد المشهور في ذلك قوله تعالى “واسأل القرية”، والمراد أهل القرية، لأنه قد عُلم أنّ القرية من حيث هي مدر وحجر لا تُسأل، لأنّ الغرض من السؤال ردّ الجواب وليس الحجر والمدر ممّا يجيب واحد منهما”.[84] هذا تفسير قولهم إنّ السؤال لا يعمل في القرية. وكأنّ السؤال يجب أن يتبعه جواب، وهو بغير جوابه لا يكون سؤالًا. وهذا الفهم بطبيعة الحال يتنافى مع طبيعة اللغة والمنطق والواقع. لأن الإنسان نفسه قد يُسأل في الحقيقة ولا يجيب، أو قد تكون الإجابة في غيابها. وهذا ما يحدث معنا جميعًا في حياتنا اليوميّة في الحقيقة. ولذلك أخطأ كلّ من اعتقد أنّ السؤال في الآية لا يعمل في القرية إلا من باب المجاز. إذا كان السؤال لا يلتزم بجوابه فقد يُسأل إذًا من لا يجيب وإن كنا نعلم أنه لن يجيب أو لن يكون قادرًا على الإجابة. يعلّل المفسّرون الذين يجيزون أن تكون آية “واسأل القرية” كاملة على الحقيقة على تفسيرين: (1) أنّ المعنى كان واضحًا تمامًا لدرجة أنّ الجماد يعرف الجواب إن هو سُئل، (2) أو: أنّ المخاطّب نبيٌّ يوحي له قادر على أن يجعل الأرض تخبره بالحقيقة. إذا كان الجماد “يعرف” الجواب ألا يُسأل؟! وإذا كان المخاطَب نبيًّا فالجماد قادر على إجابته وهو ملزم بها (انظر الملاحظة الهامشيّة رقم 12). وفي التعليلين إذًا لا حاجة لتقدير محذوف.
لا نبالغ إذا قلنا إنّ كلّ المعاني المعجميّة المطروحة، المطابقة والمتضمّنة والملتزمة، تلتقي مع تقسيمات بيرس وتصنيفاته لأنواع العلامات. وهي حاضرة بصفة أو بأخرى في آية “واسأل القرية”. إنّ القرية في سياق الآية لا تقتصر على العمارات والأبنية ولا على أهلها بل تشمل كلّ شيء فيها وكلّ شيء يمكن أن ننسبه إليها من أيقونات (Icons) ومؤشّرات (Indexes) ورموز Symbols))[85]. وهي لذلك لفظة حاشدة بالمفهوم السيميائيّ. أما المعنى الأيقونيّ في لفظة “القرية” فهو “مصر” كما يقول المفسّرون[86]. ومصر هي أيقونة مكانيّة حقيقيّة تُحدّد بآليّات الرسم الخرائطي (Mapping). ومصر علاوة على ذلك كلّه هي من أسماء القاهرة بلغة القاهريّين المعاصرين. أما مؤشّرات اللفظ فتشمل حاكم القرية وزوّارها الوافدين وما قد تشمله كلّ قرية من حيوان أو نبات يسخّره أهل القرية الدائمين لحاجاتهم. أما الرموز التي قد تحملها القرية فقريبة من الدلالات العامّة والإيحاءات، لا المعاني، كأن توحي القرية في سياق الآية وسياق السورة كلّها أو ترمز إلى الضخامة واتّساع مداها وكثرة أهلها، لعلّ هذا يكفي لأن يؤكّد صدق ما يقوله إخوة يوسف لأبيهم. وقد ترمز إلى مصداقيّة أهلها وإلا ما كان إخوة يوسف يحضّون أباهم على سؤالها. وقد تتعدّد الإيحاءات بتعدّد القرّاء.
أكمل قراءة الدراسة