كلمة متقدّمة
“ما ذلّت لغة شعبٍ إلا ذلّ، ولا انحطّت إلا كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمِر لغته فرضًا على الأمّة المستعمَرَة، ويركبهم بها ويُشعرهم عظمَته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عملٍ واحد: أما الأولُ: فحبْسُ لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا. وأما الثاني: فالحكمُ على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا. وأما الثالثُ: فتقييدُ مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تَبَعٌ”. والكلام للشاعر مصطفى صادق الرافعي في كتابه “وحي القلم”.
ليس مقالي هذا في علوم اللغة المنضبطة بحزمة اصطلاحية صارمة. وهو ليس في العلوم على العموم. ليس هذا هو مقام المقال أصلا. هو مقالٌ مسكونٌ بهمّ من هموم الوعي والفكر. المقال عن لغة الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل، عن اللغة الشريانية الحاضنة للوعي، هذه التي تعكس عمقه وتمثّل مداه إلى أقصى حدود التمثيل. والوعي مدوّنة الحركة ووثيقتها. فاللغة إذًا، في مساريها النظري والتداولي، قرينة الحركة. اللغة هي أنجع أدوات التنصّت على حركة الوعي العام بامتداده التعاقبي التراكمي. هي أنجع المقاييس المباحة والمتاحة لقياس النبض الجماهيري في حركته المستمرّة. اللغة هي أبلغ أدوات التنسيق والتنظيم، بها تنتظم الأنساق المعرفية كلها، لأنها لا تماري ولا تجامل ولا تخاتل، لأنها ببساطة متناهية هي الوجود نفسه بالبثّ الحيّ المباشر بالصوت الملوّن والصورة المجسّمة بأبعادها الطولية والعرضية والرأسية.. أليس هذا هو ما يقوله الشاعر المصري الرافعي في ربطه بين اللغة والواقع؟!
* * *
كنت قد نشرت مقالات عديدة منفصلة في الاتحاد، بعضها عن اللغة وبعضها عن الهويّة. وما أليق الجمع بينها في صياغة توافقية تكاملية. الحديث عن اللغة لا بدّ أن ينسرب من الحديث عن الهوية ومنه ينسل. لكنهما لا يكونان على انفصال بأيّ حال لأنّ التعانق بينهما بيولوجي وكيميائي عضوي. في متوالية من ثلاثة مقالات متعاقبة انشغلت بموضوعة الهويّة. فيها حاولت أن أضبط النقاش في هذه المسألة وأنسّقه في مخطوط ثلاثي الأضلاع “القوميّة والوطنيّة والمدنيّة”، أعني القوميّة العربية والوطنية الفلسطينية والمدنية الإسرائيليّة، هي كلّ هويّتنا الحضارية والسياسيّة المنجزة. هُويّتي هذه لا يمكنها أن تنفصل عن لغتي. من هنا، من هذا الموضع بالضبط يبدأ الحديث عن اللغة العربية الفلسطينية في إسرائيل، أو هو ينبغي أن يبدأ. إذا كانت هويّتنا الحضارية والسياسيّة المنجزة ثلاثية في أبعادها فلا بدّ أن تكون لغتنا ثلاثية أيضًا على قدر الهويّة، على مقاسها بالضبط لا أزيد ولا أقلّ. لغتنا إذًا:
(1) عربيّة قوميّة، عروبتها موصولة بحبل ممدود من لغة القرآن الكريم، أبلغ منابع العربية وأعذبها، ومن عمرو بن كلثوم حتى محمود درويش. هي لغة الأمّة العربيّة والإسلامية. هي اللغة العربية العربية النقيّة الطاهرة الخالصة. بها نكتب أدبًا وبها نوثّق امتدادنا التاريخي والثقافي الضارب في عمق أمّتنا العربية. بها نوسّع دائرة العروبة بإضافات نوعيّة في كلّ مجالات المعرفة والثقافة والعلوم والفكر والأدب. ما تفرزه قرائح أدبائنا هنا يعبّئ مخزون الثقافة العربية ويثريه بإبداع على قدر كبير من الرقيّ والرفعة. بهذه اللغة العربية القومية نمارس عروبتنا ونصونها بعروبيّتنا المنحازة إلى الحقّ. باللغة العربية القومية نسجّل للتاريخ تاريخَ أمّةٍ بشعوبها وشعابها ونعطي الحضارة الكونية حضارةً أصلانية عريقة.
(2) عربية وطنية فلسطينيّة ، بها نرسم تخوم الذاكرة الوطنية التي تشكّلت وتكاملت في كروم التين والزيتون وكروم العنب والصبر. لغتنا العربية الفلسطينية مبعثرة على امتداد جغرافيا الوطن من شماله إلى جنوبه. بها يفهم بعضنا بعضًا وبها نتفاهم. اللغة العربية الفلسطينية هي لغة الأمّ وهي اللغة الأمّ. هي لهجاتنا المتناغمة في نبرها وطنينها وخفقها وموسيقاها وإيقاعاتها التي هي فرعٌ من أصل. لكنّ هذه اللهجات المتداولة في مجموعها ليست على رصيف اللغة العربية أو هوامشها ما دامت تعبيرًا عن وطنيّة. بها ننتقل من عموم العروبة إلى خصوص الحالة الوطنية. ولمّا كانت لغة الأمّ الفلسطينية لا تنفصل عن لغة الأمّة العربية كان لا بدّ أن تتلاقح هاتان اللغتان لغايتين هما تضامّ وتضادّ، هما التحام وانفصام. باللغة العربية الوطنية الفلسطينية يؤكّد محمّد نفاع التحامه بالعروبة وانفصامه عنها.
(3) عربية مدنيّة إسرائيليّة، بها نمارس البطاقة الزرقاء، وبها نعمل في المصانع والشوارع، وبها نذهب إلى البنوك ومكاتب الضريبة والتنظيم ومكاتب التأمين. والمدنيّة من مستلزمات الدولة وتوابعها. ومن أشراط الدولة المدنية لغةٌ لقضاء الحاجة وتسيير المصالح وتدبير الأمور. العربية المدنية التي نسمعها في حياتنا اليومية، والتي تستفزّنا وتخيف بعضنا، هي من أبرز إفرازات الحالة الإسرائيلية. هي هذه التي تجمع جمعًا هجينًا بين لغتين ساميّتين شقيقتين. هي هذه التي يسمّيها بعضهم “العربرية”. ولمّا كانت العبريّة، في هذه العربيّة المدنيّة، هي لغة الهيمنة كان لا بدّ أن تقام المجامع العربية عندنا كي تضبط عربيّتنا المدنيّة هذه وتقنّنها حتى لا تميل كلّ الميل. اللغة العربية المدنية الإسرائيلية هجينة مطعّمة مخصبة، هي ناتج فعل التأثير الحضاري والسياسي. هي لغة أقلّية قومية (Minor Language) يحكمها منطق التبعيّة للغة المهيمن. وحالة التبعية (Subaltern)، مثلما حدّدها أنطونيو غرامشي وإدوارد سعيد وميشيل فوكو، هي تأكيدٌ لتفاعل التابع والمتبوع بأعراف التراتب الهرمي التي تؤدّي إلى ضغط مستمرّ من فوق إلى تحت، من لغة المتبوع إلى لغة التابع. كانت “العربرية” الهجينة أبرز تحصيلات هذا الضغط المستمرّ. وهذه، بوصفها علامة سيميائية للضلع الثالث من هويّتنا الحضارية والسياسية، لا بدّ أن تُدرس بأدوات توفّرها نظريات ما بعد الاستعمار (Postcolonial Theories). لكنّ النقاش حول قوّة اللغة العربية المدنية وتأثيرها المميت على مصير اللغة العربية كلّها هو رهاب يُفضي إلى إرهاب.
كلمة متأخّرة
اللغة العربية القومية والعربية الوطنية الفلسطينية كلتاهما فعل انتماء، رغم تنافر التفاصيل، واللغة العربية المدنيّة هي فعل بقاء. للانتماء أعرافه وضوابطه وللبقاء أعرافه وضوابطه.. في آخر مقالاتي عن الهويّة سألت السلطة في إسرائيل سؤالا بلاغيًا، بضمير الغائب والضمير الغائب معًا لأني لا أرجو منهم جوابًا، وقلت ما معناه بقدر ما أذكر: وماذا تتوقّع منّا بالضبط إذا كانت جماهيرنا قد حسمت أمرها في صيانة عروبتها والثبات في وطنها والإصرار على حقّها في مدنيّتها؟! من هنا بالضبط، بعيدًا عن كلّ خطاب رعوي فوقي، وبعيدًا عن المرافعات النخبوية المعلّبة، أطمئن نفسي وأؤكّد لها أنّ اللغة العربية الفلسطينية في إسرائيل لن تُسوّى ولن تُصفّى. لغتنا العربية بمجموع أنماطها الثلاثة مطعّمة ضدّ التسوية والتصفية. ولذلك لا أفهم هذه الولولة ولا أعقل هذا النواح، لا الصائت منه ولا الصامت، على موت عربيّتنا. عربيّتنا لا تزول ولن تزول إلا بزوال عروبتنا. وهما لا ينفصلان. لا تزول عربيّتنا لا من الخارج ولا من الداخل. لا بقوّة القوانين المفروضة في البرلمان ولا بقوّة الشارع. قانون القومية فعلٌ لصوصي خسيس وضيع وهو محاولة بائسة يائسة للإغارة على لغتنا، صحيح، لكنه لا يخيفني. لا أخاف من قانون ورقي صلابته أوهن من صلابة البيض النيّئ. ولا أفزع من “عربرية” هي ممارسة حيّة ومباشرة للهويّة المدنيّة وهي من أشراط البقاء وشروطه. “ميري ريجيف وليبرمان وبينيت معروفون بقدراتهم المتميّزة على المناكدة والمناكفة والتمسّح بذيول الديمقراطية.. من هنا بالضبط، أقول بكلّ وضوح وهدوء أنا لا أخشى على اللغة العربية من هؤلاء ولا من غيرهم رغم شحوب الظرف وامتقاع المواقف. وهذا ليس شعارًا. لن تموت العربية بقرار قبلي ولا بعدي من هؤلاء”. قلت هذا الكلام ذات مرّة وأعيده للتذكير.. وبنفس القدر لا أخاف من التكفيريين السلفيين. تكلح اللغة إذا استكثرنا عليها اشتقاقًا هنا أو هناك أو أقررنا فيها لفظًا مستجدًا يُتيحه منطق الشيوع. تحيا اللغة بالفكر المتنوّر والجرأة المحسوبة. لا أريد أن أعود إلى حاصل الجدل الذي دار بين عملاق العربية طه حسين وبين يوسف إدريس، وكان غريرًا وقتها في أول الطريق. كان إدريس ينطق من حناجر المصريين المبحوحة وطه حسين ينطق من حناجر اللغة العربية الراقدة فوق رفوف المكتبات المتربة. التكفير اللغوي المتّكئ على منطق سلفي لا يخلو من إيلام، نعم، لكنه عاجز عن جرّ اللغة إلى حالة صقيع…