“واسأل القرية” “الحشد”صياغة سيميائيّة لمفهومي الحذف والاتّساع – إبراهيم طه
إجمال: الاتّساع في الحشد
تلتقي هذه الدراسة في المحصّلة النهائيّة مع الدعوة العمليّة لإعادة النظر في نظريّة العامل في تدريس النحو العربيّ التي أخذ صداها ومداها يتّسع كثيرًا في الآونة الأخيرة. لكنها ليست دراسة نحويّة بل سيميائيّة وإن كان الفصل التامّ بين هذين المجالين من مجالات المعرفة غير وارد. وبالعودة إلى آية “واسأل القرية” تبيّن أنّ المعاني قد تنفصل عن اللغة وتتّصل بالسياق بما يشمله من بيئة زمكانيّة وقوى بشريّة تتنازعها رغبات وآمال وآلام. وقد بيّنا صحّة قولهم “لكلّ مقام مقال” ولكلّ حال ما يقتضيه بمفاهيم سيميائيّة عربيّة وغربيّة، قديمة ومعاصرة. واقترحنا استبدال الحديث عن حذف في هذه الآية بحديث عن حشد. لأنّ التضييق قد يكون في تقدير محذوف والاتّساع الدلاليّ في النمط التعبيريّ المنجز الذي وردت فيه الآية. وهكذا لا يمكن الحديث عن اتّساع في اللغة في ظلّ الحديث عن محذوف واحد إلا إذا كان الاتّساع يعني التجوّز، وهذا ما لا نراه في آية “واسأل القرية” وفق الحال الذي اقتضاها. في الآية اتساع فطريّ فجاء النحويّون لاعتباراتهم النحويّة وتبعهم البلاغيّون والمفسّرون فقيّدوها بمحذوف واحد يحمل معنى واحدًا فضيّقوها. إذا كان المحذوف من باب الاتّساع ينتقل إعرابه إلى ما يلحقه من لفظ فهذا يعني أنّ المحذوف باقٍ في وظيفته الدلاليّة باعتبار الإعراب دالًّا على الوظيفة السيميائيّة. علاوة على ذلك، إذا كان النحاة العرب يصرّون على أنّ الدليل، أو القرينة، هو شرط الحذف وهو يغني عن المحذوف فلمَ الإصرار إذًا على تقدير محذوف يُفهم المعنى بدونه؟ وإذا كان المعنى حاضرًا رغم الحذف فالحذف إذًا افتراضي شكليّ لا يقدّم ولا يؤخّر. شغل النحو القديم بالشكل كثيرًا أي باللفظ في حين أنّ البلاغة عنيت بالمعنى. ونحن ندّعي في هذه الدراسة أنها يتماسّان بوضوح فلا يمكن الحديث عن النحو الوظيفيّ بغير الحديث عن المعاني والدلالات الموصولة بأنماط التعبير وسياقات الكلام، وبنفس القدر بالضبط لا يمكن الحديث عن البلاغة بغير الحديث عن الألفاظ وسياقاتها التركيبيّة النحويّة، وهذه كلّها رهينة واقع الحال أو المقام وفقًا للتوجّه السيميائيّ العضويّ.
وفي المحصّلة الأخيرة، نؤكّد أنّ هذه الآية لا بدّ أن تُحمل محملًا حقيقيًّا، عندها يدرك المتلقّي أنها تخلو من الحذف لثلاثة أوجه: (1) لوعي المتخاطبين بقدرة اللغة على الاتّساع، ولهذا فسؤال الأهل في ذاته غير مقصود في الأصل. (2) لعلم المتخاطبين أنّ سيدنا يعقوب عليه السلام غير قادر على الذهاب بنفسه ليسأل وهو شيخ كبير قد أصابه من الوهن ما أصابه بعد أن نال منه الأسى والحزن ما نال. ولذلك يعلم طرفا الخطاب مسبقًا أنّ السؤال غير قابل للتحقيق. (3) لعلم المتخاطبين بأنّ القرية في تعريفها المعجميّ والمتداول على حدّ سواء تشمل الأهل ولا ينعكس. إذا كان كلّ المشاركين في هذه اللعبة السيميائيّة يدركون أنّ المقال في هذه الآية يحتكم بالضرورة إلى ضوابط نفسيّة وحاجات معنويّة ورغبات آنيّة مؤقّتة وأحلام بعيدة المدى فلا بدّ أن يكون المقال موافقًا للمقام. والمقام، على النحو الذي تقدّم تفصيله، يقتضي سعة الآية واحتشاد ألفاظها بما يستجيب مع هذه الضوابط والحاجات والرغبات، ويرفض بإصرار كلّ محاولة لتقدير محذوف من شأنه أن يضيّق المعنى. ليس لأنّ اللغة لا تضيق ألفاظها ومعانيها بل لأنّ سياق الآية يفرض هذا الشكل من التعبير. ولتوضيح الأمر ذهبنا إلى المقارنات بين الآيات التي تُثبّت فيها لفظة “أهل” ملحقة بالقرية أو القرى والآيات التي تكتفي بذكر القرية أو القرى غير مصحوبة بالأهل في القرآن الكريم، بما في ذلك سورة يوسف نفسها. وقد أظهرت هذه المقارنات أنّ حالات الإثبات والحذف الافتراضيّ كلّها أنماط تعبيريّة شرعيّة “كاملة” ومستقلّة وفقًا لمقتضيات الأحوال.
أكمل قراءة الدراسة