“واسأل القرية” “الحشد”صياغة سيميائيّة لمفهومي الحذف والاتّساع – إبراهيم طه
الحشد واتّساع المعاني والدلالات
لقد تحدّث العرب عن المعاني الكثيرة في اللفظ القليل تحت أسماء مختلفة كالإجمال وتضمين القياس وجوامع الكلم، غير أنهم خلطوا بين المعاني والدلالات (Meanings & Significances)[23]، ما يسمّيه الجرجاني المعاني الأوائل والثواني.[24] أمّا الحشد عندنا فموصول أساسًا بوفرة المعاني المحتملة في اللفظ نفسه. وعلى هذه المعاني المحتملة تتأسّس الدلالات اليسيرة. ولا يغني الواحد منهما عن الآخر. إنّ هذه المعاني المحتملة في اللفظ الواحد أو التركيب الواحد ينبغي أن توصل إلى دلالات وهذه محكومة باعتبارات الحال وشروطه. والحشد بهذا المفهوم قد يلتقي مع جوامع الكلم وتضمين القياس في بعض الأفكار على النحو الذي يشرحه الرمّاني. غير أنّ ما قدّمه الرمّاني في شرحه لتضمين القياس في الآية الكريمة “بسم الله الرحمن الرحيم” يقوم أساسًا على التأويل الذي قد يستعصي على كثيرين. وما قدّمه من مثال على تضمين القياس يتجاوز المعاني إلى كثير من الدلالات التي تحتاج إلى قارئ فهّامة حتى يهتدي إليها. وهذا الفهم الواسع أو الأفكار التي “تضمّنتها” البسملة ليست معاني أصلًا وهي لذلك ليست ميّسرة بصفة متساوية لجميع الناس. فقد يصل إليها بعضهم وقد تتعذّر على كثيرين. يبدو أنّ الرمّاني يفهم التضمين على أنه اجتماع المعاني والدلالات في اللفظ أو التعبير الواحد[25]. أمّا التضمين فمقصور على إشراب اللفظ الواحد معنيين اثنين. إنّ تعريف الرمّانيّ لتضمين القياس قريب من قولهم “جوامع الكلم”، وهي ما تقع فيه المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، وهذا يكون في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. وهي من التسميات المألوفة والمأنوسة التي لحقت بالإيجاز ، والتي وردت أصلًا في حديث نبويّ، وهي تعتمد على آليات بلاغية عديدة كالإشارة والإيماء والإيحاء والتلخيص[26].
إنّ مفهوم الحشد الذي نقترحه في هذه الدراسة يرى أنّ الآية قد وردت كاملة بغير حذف ولا إضمار. وليس فيها انزياح عن أصل، لا على مستوى النحو (اللفظ) ولا على مستوى البلاغة (المعنى). أما من حيث النحو فالآية نمط تعبيري كامل مستوفٍ لكلّ أركان الجملة الفعليّة من فعل وفاعل ومفعول. أما من حيث المعنى فالمعنى كامل وواسع بغير حذف مقدّر. وكلّ من قدّر حذفًا جعله من باب الاتّساع الذي يحقّقه المجاز. وليس في الآية مجاز، فجاءت كلّها كاملة على الحقيقة. واتّساعها المعنويّ مردود إلى كمالها التركيبيّ الصياغيّ لا إلى نقص أو حذف مفترض فيها بعكس ما قاله بعض الأسبقين.[27] وهكذا يكون الاتّساع على نحو ما سنناقشه في هذه الدراسة بفضل احتشادها بالمعاني المختلفة. ومردّ هذا الاحتشاد إلى أمرين: اللغة في ذاتها والسياق الذي يقتضيها، والسياق يشمل كلّ نشاط يمارسه طرفا التخاطب بصفة أو بأخرى. يطرح الخالدي نظريّة يسمّيها “تعدّد الأنماط” وهي تعفينا من الاعتقاد بالمحذوفات والتقديرات والمضمرات. وهذا يعني أنّ اللغة العربيّة تتعدّد أنماطها التعبيريّة إلى ما لا ينتهي، وهي قائمة بالأساس على نوعين أساسيّين: (1) الكلام أو النمط المستوفي لكلّ متطلّبات بناء الجملة، (2) والنمط الآخر الذي يستغني عن نظريّة العامل “الذي يكون فيه المقام، والسياق،المخاطِب، والمتكلم في حالات خاصّة”.[28] ونظم الكلام في هذا النوع يتمّ “بطرائق مختلفة يكون فيها التأليف تامّ المعنى لا نقص فيه ولا حذف بخلاف ما يذهب إليه دعاة الحذف”.[29] وكنت قد مثّلت في كتابي (2012) بأمثلة سريعة لمفهوم الحشد الذي يعني احتشاد اللفظة بالمعاني والدلالات، على نحو ما جاء في الآية الكريمة: “إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا” (الأحقاف: 13). نجد في هذه الآية “أنّ الاستقامة، في لفظة “استقاموا”، تحشد كلّ الطاعات التي تتحقّق بالأمر والنهي وتحشرها في حدود اللفظة الواحدة وهي أكبر من أن تعدّ وتحصى في هذا السياق. وفي مقابل الاستقامة، يمكن الحديث بنفس القدر عن معاني الفساد وأشكاله ومظاهره، يقول تعالى: “وكانَ في المدينةِ تسعةُ رهطٍ يُفسدونَ في الأرضِ ولا يُصلِحون” (النمل: 48). وما هو الإفساد؟ معنى الإفساد قريب ومعروف بصفة تقريبيّة لا تفصيليّة في هذه الآية. وهو كما يبدو إسم جامع لكلّ ما يغضب وجه الله تعالى. وهكذا تصير لفظة “فساد”، وما يلحقها من اشتقاق وتصريف، مفردة حاشدة لمعانٍ عديدة جدًا، وهي تبعًا لذلك تشكّل موضع الإيجاز في سياق هذه الآية”[30].
ترى هذه الدراسة أنّ ثمّة تناقضًا جوهريًّا بين إصرارهم على إظهار أو تقدير محذوف في آية “واسأل القرية” وربطه بمسألة “الاتّساع” في اللغة. كيف تتّسع اللغة إذا قدّرت محذوفًا واحدًا يقيّد الآية بمعنى واحد ضيّق؟! إلا إذا كانت السعة عندهم تعني جواز حالتين أو صياغتين شكليّتين. المشكلة هنا أنّهم حين تعاملوا مع معنى هذه الآية قد أظهروا مضمرًا متروكًا لا يحسن إظهاره وهي لفظة “أهل”. وكأنّهم بهذا الإصرار على إظهار المضمر في هذه الآية يصرّون على أنّ المعاني محصورة في الألفاظ وحدها. وهكذا يدخلون في حالة ارتباك وتناقض مع توجّههم النحويّ العامّ الذي لا يغفل، بصفة أو بأخرى، دور البنى العميقة الباطنة للّغة في تحديد المعاني وبالتالي التواصل (Communication). ما ندّعيه هو أنّ هذه الآية قد وردت كاملة منجزة غير منقوصة بدليل المعاني الكاملة فيها بصياغتها المثبتة. ولذلك لا بدّ أن يكون التوجّه في هذا المقال كيفيًّا بالأساس غير كمّيّ. ما يعني أنّ المعاني لا تتحدّد في هذه الآية بعدد الألفاظ الظاهرة فيها أو المحذوفة منها. إنّ التأكيد على دور السياق العامّ أو الحال في تحديد السياق اللغويّ، أو مقتضى الحال من تعبير، يعني أنّ التوجّه العامّ يقرّ أهمّيّة القدرات الإدراكيّة الخاصّة لكلّ من الباثّ والمتلقّي في ذاك السياق المحدّد. وفي المحصّلة النهائيّة لا يمكن أن تبقى الدراسات اللغويّة توصيفيّة/كمّية/شكليّة (descriptive/Quantitative/Formal). والدراسة الكيفيّة للمعاني، على النحو الذي سنفصّله في هذا المقال، تفترض أنّ الألفاظ هي عنصر واحد فقط من جملة العناصر والمعايير التي تشكّلها.
ونحن في هذه الصياغة المقترحة نطمح إلى نقل مركز النقاش من أشكال الاتّساع اللفظيّ النحويّ إلى الاتّساع الدلاليّ بجملة من المفاهيم السيميائيّة، وفي هذا الانتقال توسيع لمفهوم الاتّساع على النحو الذي أكّده بعض النحويّين والبلاغيّين والمفسّرين. وهكذا تسعى هذه الدراسة إلى تجميع الكثير من الآراء المبثوثة في بطون الكتب العربيّة، التي تشكّك في ضرورة الإصرار على كثير من مسائل الحذف في اللغة العربيّة، وإعادة صياغتها على نحوٍ يركّز على وفرة المعنى وقلّة اللفظ، أو بكلمات أخرى على نحوٍ يُضعف تعلّق المعنى باللفظ. والمنظومة السيميائيّة التي نستعين بها لتحقيق هذه الغاية ترى في مفهوم السياق، بكلّ تفريعاته، جزءًا مركزيًّا في النظريّة السيميائيّة الحديثة. تتأسّس الدراسة في توجّهها العامّ على آراء بعض النحويّين والبلاغيّين والمفسّرين الذين يعتقدون بأنّ الآية قد تكون على الحقيقة أيضًا وليس على المجاز وحده وهم قلّة قليلة.[31] ونحن في هذه الدراسة نسعى إلى تأكيد الحقيقة في الآية ونفي المجاز عنها وتكريسه بمفاهيم سيميائيّة منهجيّة تقترح مصطلحًا جديدًا وهو الحشد على نحو ما تقدّم ذكره. فمفهوم الحشد على النحو المقترح يشمل كلّ أشكال العلامات المركزيّة حسب تصنيفات بيرس وتفاعلاتها في المجال السيميائيّ العامّ (Semiosphere)، مثلما حدّده يوري لوتمان (Lotman Yuri) عام 1982، والتي لا تغفل أيّ مركّب من مركّبات العمليّة التواصليّة بما في ذلك السياق الخاصّ.[32] وهكذا بالتالي تُفيد الدراسة من كلّ الفروع الثلاثة لعلوم اللغة تحت المظلّة السيميائيّة. وهي ترى أنّ العلامة اللغويّة تقيم شبكة ثلاثيّة من العلاقات والتعالقات: (1) مع المعاني المجرّدة والموضوعات الحسّيّة (Semantics)، (2) مع مستخدمِي العلامة من مخاطِب ومخاطَب في سياق محدّد (Pragmatics)، (3) ومع علامات لفظيّة أخرى في نفس التركيب اللغوي أو في تراكيب أخرى (Syntactics).
الحشد بهذا المفهوم الواسع، الذي يشمل السياق بكلّ أشكاله، يجعل الفصل الدقيق بين الحقيقة والمجاز أمرًا معقّدًا عند ضبط المعاني والدلالات في هذه الآية. لقد أسهب العرب في الحديث عن السياق، أو الحال والمقام، وما يقتضيه من نظم. يقول العسكريّ: “وقوله: ولا يكلّم سيّد الأمّة بكلام الأمّة، ولا الملوك بكلام السّوقة. لأنّ ذلك جهل بالمقامات، وما يصلح فى كلّ واحد منهما من الكلام. وأحسن الذى قال: لكلّ مقام مقال”[33]. ويقول الجاحظ في ذلك: “ومن علم حقّ المعنى أن يكون الاسم له طبقًا، وتلك الحال له وفقًا”[34]. ويعظّم القزويني من مطابقة الكلام للحال بقوله: “والبلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته”[35]. والسياق بمفهومه الشموليّ الذي نعنيه يشير إلى الحال ومقتضاه، وحالة المرسِل والمرسّل إليه. والحال هو الواقع المحدّد أو السياق الذي يقتضي نمطًا تعبيريًّا بعينه بمواصفات خاصّة تشكّل بالتالي سياق التركيب اللغوي. وهكذا يشمل السياق الذي نوظّفه في هذه الصياغة: (1) السياق التداوليّ أو الحال/الموقف Context of Situation/Non Linguistic Context))، وهذا بدوره يشمل: (أ) سياق الإرسال، ما يعنى الوضعيّة العامّة التي كان عليها المرسِل حين بثّ قوله، مثلما كان إخوة يوسف حين قالوا “واسأل القرية”، (ب) وسياق التلقّي: الوضعية العامة للمتلقّي وقدراته على استيعاب الشيفرات اللغويّة والحضاريّة، (2) مقتضى الحال من تعبير أو ما يسمّى بسياق الكلام/القول (Linguistic Context) ويشمل مبنى القول والترتيب والتقديم والتأخير والحذف والزيادة وما إليها. ومن ضرورات السياق أن تقدّر الألفاظ والتراكيب على الحشد، حشد لكلّ من وما يمكنه أن يُسأل من “القرية الثابتة” و”العير المتحرّكة”. والسياق الذي وردت فيه هذه الآية يُظهر إخوة يوسف وهم في أمسّ الحاجة لإثبات صدقهم أولًا وتأكيده ثانيًا بقولهم “وإنّا لصادقون”، خصوصًا أنّ أباهم قد أخذ عليهم موثقًا من الله بعد أن كانوا قد كذبوا وخدعوه من قبل. ولذلك كلّه تؤكّد هذه الدراسة أنّ آية “واسأل القرية” هي تركيب لغويّ حاشد يحتكم إلى ضرورات السياق بأشكاله التي سيلحق تفصيلها، وهي لذلك خلوّ من الحذف.
في المجال السيميائي لهذه الآية، حسب لوتمان، ثلاث قوى مركزيّة فاعلة تتجاذب بقوّة وتتنافر، تخطّط وترسم وتبرمج (Modeling activity) لاعتبارات وجوديّة ينتظمها صراع البقاء (Survival) بمفهومه الروحيّ أو المعنويّ العامّ ومفهومه الفيزيائيّ الخاصّ[36]. وهذه القوى هي: يوسف، إخوته، وأبوهم يعقوب. في هذه البيئة الخاصّة نشطت هذه القوى وتفاعلت فيما بينها سيميائيًّا[37] مدفوعة كلّها برغبات وآمال باتّجاهات مختلفة. وليست آية “واسأل القرية” إلا جزءًا بسيطًا من نشاط سيميائيّ مركّب تدخل فيه أفعال بشريّة سيكولوجيّة عديدة تسعى، كلّ وفق فهمها وحاجتها، إلى شكل من أشكال “البقاء”. وهذا النشاط كلّه عبارة عن نظام كامل من الإحداثيّات (Coordinate system) المتفاعلة في بيئة خاصّة لاعتبارات أنتروبولوجيّة فطريّة غريزيّة (تحتيّة) واعتبارات معنوية معقّدة (فوقيّة). هكذا تتوفّر الشروط الأساسيّة لنشاط سيميائيّ عضوي واضح (Biosemiotic activity)[38]. في هذا المجال ينشأ الخطاب اللغويّ وبه يتأثّر بالضرورة لا بالمشيئة، فليس هناك نشاط كلاميّ ينشأ في فراغ. وحين يُردّ الكلام إلى الحال، أو المقال إلى المقام، تصير قوّته السيميائيّة التواصليّة محكومة بضوابط هذا الحال ومعاييره المختلفة[39]. والحال هنا بفروعه المركزيّة يشمل:
- الحال/المقام/السياق العامّ: ما حدث ليوسف منذ البداية، لحظة قصّ على أبيه يعقوب رؤياه المعروفة، حتى لحظة التقائه بأهله مجدّدًا بعد سنين طوال وما حصل بينها من كيد وقطيعة وفراق وحزن وندم ورجاء[40].
- أحوال التخاطب: (أ) المخاطِب، وما يميّزه: الشعور بالغيرة والذنب، القلق الصادق والترقّب والتوتّر (الخوف من عدم تصديقهم من قبل أبيهم وهم الذين خذلوه غير مرّة في نفس القضيّة)، الرغبة في التصحيح، والرغبة الملحّة في أن يصدّقهم أبوهم. (ب) أحوال المخاطَب، ويتحكّم به: الشعور بالحزن الشديد، الشعور الذاهل بأنّ أبناءه قد خذلوه وتركوه وشأنه بغير معين من أهله، التشكيك برواية الأبناء وتكذيبهم، الرغبة الشديدة في معرفة الحقيقة والرغبة بانتهاء القضيّة على نحوٍ يجمعه بولديه.
- مقتضى الحال: من تعبير أو سياق الكلام (نظم الكلام = تعالقات المفردات بمفاهيم الإسناد)، ومن ميزاته البارزة: الخطاب المباشر، الجمل الإنشائيّة/السؤال البلاغيّ، التوجّه الانفعاليّ إلى القلب قبل العقل، الإيجاز (بعضهم يردّه إلى حذف مفترض) ونحن نردّه إلى الحشد، تنويع المسؤول بين ثابت ومتحرّك…