-
- “واسأل القرية” “الحشد”صياغة سيميائيّة لمفهومي الحذف والاتّساع – إبراهيم طه
- المعنى التداوليّ في التخاطب
وهو يشمل طرفي الخطاب، المخاطِب (أبناء يعقوب) والمخاطَب (يعقوب) في وضعيّة معيّنة. والخطاب الذي نعنيه هو التواصل اللغويّ بينهما المحكوم بالسياق.[51] يسير عالم السيمياء الإيطاليّ أمبرتو إيكو في أعقاب دي سوسير ويعتقد أنّ المشار إليه (Signified) يجب أن يظلّ خارج نطاق السيميائيّة. وبالعودة إلى “البيت الذي يحترق”، إذا قلت لأحدهم إنّ بيته يحترق فسيكون ردّ فعله أن ينطلق مسرعًا للتأكّد من صحّة ما قلته له، أمّا أن يحترق البيت بالفعل أو لا يحترق فهذه أمور لا تشغل بال السيميائيّ (عالم السيمياء). المهمّ في الأمر هو توفّر الشروط التي تجعل هذا الرجل يفهم اللغة، أي يفهم الرسالة في قولك. ولذلك لا يؤمن إيكو بقضية الحقيقة وبطلانها وهو لذلك لا يُشغل نفسه بمطابقة العلامة للواقع. ومن هنا، من هنا بالضبط، لا يعنينا إذا كانت القرية تُسأل في الواقع أم لا ما دام المخاطِب قادرًا على إيصال ما يقصده للمخاطَب بصرف النظر عمّا يحدث أو لا يحدث في الواقع. وما يقصده المخاطِب في آية “واسأل القرية” هو تأكيد صدقهم فيما ذهبوا إليه. والمخاطَب يعلم هذا القصد أيضًا وهو لن يذهب لسؤال القرية، لامتحان السؤال في الحقيقة، لعلمه قصد المخاطِب من الحضّ على سؤال القرية. لقد تنبّه العرب من قبل إلى هذا “الجدل” بين بيرس ودي سوسير وإيكو وناقشوا المسألة بشيء من التوسّع. يقول حازم القرطاجنّي في “منهاج البلغاء” في حديثه عن “موجودات خارج الذهن”: “لما كانت المعاني إنما [تتحصّل] في الأذهان عن الأمور الموجودة في الأعيان”.[52] أمّا ابن سنان الخفاجي فيجعلها أربعة أنواع (المعاني المجردة، المتخيّلة في الذهن، التي تحتويها الألفاظ والكلمات باللسان، وتلك التي تحويها رسوم الكتابة). رغم كلّ الخلافات بين البلاغيّين العرب في مسألة المعاني وطول النقاش فيها إلا أنهم يتّفقون بصفة مبدئيّة على هذا التقسيم الثنائيّ من أنواع المعاني: ما هو موجود في الأذهان وما هو موجود خارجه في الواقع (الأعيان). ولعلّ التقسيم الثلاثيّ المعروف للمعاني، المطابقة والتضمّن والالتزام، يثبث أنّ ثمّة معاني موصولة أساسًا بذهن المخاطِب والمخاطَب وقدرة كلّ منهما على تحديدها بصفة أو بأخرى. ولا شكّ في أنّ كلًا من المخاطِب والمخاطَب في هذه الآية يدرك المعاني المقصودة بدون جهد لأنها مستقرّ في الأذهان أصلًا بفضل السياق والتراكم.
يقول ابن مضاء القرطبيّ في الردّ على النحاة وهو يحاججهم بقوّة وجرأة في مسألة الحذف والإضمار والتقدير: “وهذه المضمرات التي لا يجوز إظهارها لا تخلو من أن تكون معدومة في اللفظ موجودة معانيها في نفس القائل، أو تكون معدومة في النفس كما أنّ الألفاظ الدالّة عليها معدومة في اللفظ، فإن كانت لا وجود لها في النفس، ولا للألفاظ الدالّة عليها وجود في القول فما الذي ينصب إذن؟ وما الذي يُضمر؟ ونسبة العمل إلى معدوم على الإطلاق محال. فإن قيل إنّ معاني الألفاظ المحذوفة موجودة في نفس القائل، وإن كان الكلام بها يتمّ، وإنها جزء من الكلام القائم بالنفس المدلول عليها بالألفاظ، إلا أنها حذفت الألفاظ الدالّة عليها إيجازًا كما حذفت ممّا يجوز إظهاره إيجازًا لزم أن يكون الكلام ناقصًا، وأن لا يتمّ إلا بها، لأنها جزء منه، وزدنا في كلام القائلين ما لم يلفظوا به”.[53] وابن مضاء في نفيه لمسألة الحذف يؤكّد، بصفة أو بأخرى، عنصرين من عناصر السياق الذي يحدّد معاني الكلام: نفس القائل والألفاظ التي تدلّ على هذه المعاني. وقد اجتمعت هاتان الصفتان في هذه الآية. فقد وردت هذه الآية على لسان إخوة يوسف عليه السلام وقد حشدوا كلّ ما باستطاعتهم من قدرات لغوية فطريّة لعلّ أباهم يصدّقهم وهم في أمسّ الحاجة إلى ذلك. ولذلك إنّ عمل السؤال في القرية وإن كانت غير قادرة على الردّ هو من باب التوكيد على صدقهم في القول كما يقول ابن جنّي وتبعه السيوطي (849 – 911 ه) في ذلك نصًّا وروحًا. وكذلك قوله سبحانه: {وَاسْأَلِ لْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} فيه المعاني الثلاثة [الاتّساع والتشبيه والتوكيد]. وأما التوكيد فلأنه في ظاهر اللفظ إحالة بالسؤال “على من” ليس من عادته الإجابة. فكأنهم تضمنوا لأبيهم – عليه السلام – أنه إن سأل الجمادات والجبال أنبأته بصحة قولهم، وهذا تناهٍ في تصحيح الخبر. أي لو سألتها لأنطقها الله بصدقنا، فكيف لو سألت مَن مِن عادته الجواب”.[54] يذكر البلاغيون ضرورة تقدير المحذوف؛ حتى لا يُحمل الكلام على ظاهره، وحتى يكون امتناع ترك الكلام على ظاهره ولزوم الحكم بالحذف راجع إلى الكلام نفسه، لا إلى غرض المتكلّم.[55] ولأنّ لفظة “أهل” “جزء” من لفظة “القرية” فقد أضمرت حتى يُحمل الكلام على ظاهره بالشموليّة التي تتميّز بها لفظة القرية عن لفظة الأهل، وهذا هو غرض المتكلّم نفسه كما بيّنا. يحتاج المخاطِب إلى كلّ ما في الحشد من طاقات على اتّساع الكلام كما يقول سيبويه. ومن الواضح أنّ المتكلّم يضطلع بدور بارز في كتاب سيبويه، ويعتبره مصدرًا أساسيًّا في الحكم على صحّة الكلام. ليس هذا فحسب، بل يلعب حكمه دورًا مهمًّا في التأويل أيضًا. لكنّ قواعد النحو لا تحيل إلى المتكلّم وقصده بقدر ما تحيل إلى عناصر اللغة نفسها. رغم ذلك لا يمكن للّغة أن تتصرّف كنسق مستقلّ.
لقد تناول النحويّون والبلاغيّون العرب أركان التداول اللغويّ فأبدوا اهتمامًا بارزًا بالسياقات، أو الأحوال والمقامات، وأقدار المتكلّمين والسامعين وثقافاتهم[56]. يقول الجاحظ: “ينبغي للمتكلّم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكلّ طبقة من ذلك كلامًا، ولكلّ حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات”.[57] أمّا المتكلّم فهم أبناء يعقوب عليه السلام في حالة تدفعهم دفعًا إلى حشد أقصى طاقاتهم وقدراتهم اللغويّة لإثبات صدقهم وتأكيده. وهم يعلمون قدرة أبيهم على الفهم. فذهبوا إلى الموجز الحاشد من الكلام. وهو، كما يقول قدامة بن جعفر، لا يصلح إلا لـ”ذوي الأفهام الثاقبة الذين يجتزئون بيسير القول عن كثيره وبجمله عن تفسيره”. أمّا الإطالة في الكلام فتلائم “العوامّ ومَن ليس من ذوي الأفهام ومن لا يكتفي من القول بيسيره، ولا ينفتق ذهنه إلا بتكريره وإيضاح تفسيره”[58]. الحقيقة أنّ قدامة بن جعفر يؤكّد في هذا الكلام أنّ الإيجاز الحاشد، على نحو ما نجده في آية “واسأل القرية”، يحتاج في فهمه واستيعابه إلى جهد لا يقدر عليه إلا من كان ذا فهم ثاقب. على هذا الأساس، أساس التماثل في القدرات، يلتقي المخاطِب والمخاطَب في المعنى. فالمخاطِب من جهة أولى وفقًا للحال يحتاج إلى أمرين: (1) كلام موجز يصل بسرعة إلى السامع، (2) وكلام محتشد بأقصى المعاني وأشملها لحاجة الموقف إليها. ومن جهة ثانية يبدو أنّ نبيّ الله يعقوب في حاجة إلى الحقيقة الصادقة الكاملة التي قد تقرّبه من ولديه يوسف وبنيامين بعد ما كابد من أجلهما ما كابد.
“إنّ حذف المضاف لا يجوز إلا في المواضع التي يسبق إلى فهم المخاطَب المقصود من اللفظ فيها كقوله تعالى: “وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَ”. وأمّا في المواضع التي يُحتاج في معرفة المحذوف منها تأمل كثير، وفكر طويل، فلا يجوز حذفه لما فيه من اللَّبْس على السامعين. وهذا من المواضع البعيدة، والدليل على ذلك انه قد مر هذا القول على إسماع قوم فهماء عارفين بالنحو واللغة”.[59] لا يعوّل ابن مضاء القرطبيّ كثيرًا مثلما تقدّم على مسألة الحذف وهي من إرهاصات نظريّة العامل التي يدعو إلى إعادة النظر فيها بقوّة. إذا كان ابن مضاء في إقراره لمسألة الحذف في آية “واسأل القرية” قد اشترط الحذف بقدرة المخاطَب على فهم المقصود، فالسؤال كيف يفهم المتلقّي فهم المقصود على نحو لا يجوز فيه لبس ولا يرافقه جهد خاصّ و”تأمل كثير وفكر طويل” إن لم يكن المضاف حاضرًا بقوّة في المضاف إليه؟ ومعنى قولنا “حاضر بقوّة” أنّ المتلقّي لا يشعر بغيابها. وإذا كان لا يشعر بغيابها فما علّة الإصرار على أنها محذوفة؟ وهو لا يفعل ذلك إلا لأنّ اللفظة محتشدة بالمعاني من باب المطابقة والتضمّن والالتزام وبالدلالات من باب الإيحاء والتداعيات على أنواعها. وما هذا الإصرار على وجود محذوف في هذه الآية إلا لاعتبارات شكليّة نحويّة تركيبيّة قد يحتاجها النحويّ لاعتبارات الدرس ولا يحتاجها البلاغيّ بأيّ حال من الأحوال. إنّ المعنى إن لم يكن موصولًا باللفظ من باب المطابقة، مثلما يحدث في اللغة المعياريّة المعجميّة، فلا بدّ أن يكون موصولًا بقدرة المخاطَب على الفهم. وإذا ارتهن المعنى بالمخاطَب وقدراته فاللغة إذًا لا يمكنها أن تكون نشاطًا موضوعيًا ومنجزًا معزولًا عن اعتبارات ذاتيّة. والسامع قد يولّد المعنى من المعنى، كما يقول عبد القاهر الجرجاني: “الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلا بالخروج على الحقيقة، فقلت: خرج زيد، وبالانطلاق عن عمرو فقلت: عمرو منطلق، وعلى هذا القياس. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل […]. أو لا ترى أنك إذا قلت: هو كثير رماد القدر أو قلت: طويل النجاد أو قلت في المرأة: نؤوم الضحى، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن يدلّ اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى، على سبيل الاستدلال، معنى ثانيا هو غرضك، كمعرفتك من كثير الرماد أنه مضياف، ومن طويل النجاد أنه طويل القامة، ومن نؤوم الضحى في المرأة أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها”.[60] ومسألة معنى المعنى على النحو الذي يطرحه الجرجاني تقرّ بوجود معنى وسيط بين الغرض أو الدلالة واللفظ. وهذه الوساطة تؤكد على أنّ المعنى الحرفي للألفاظ قد لا يؤدّي بذاته الغرض من الكلام. ولذلك وجبت الاستعانة بقدرة السامع على الاستدلال. وهكذا تتبدّى نقطتان مركزيتان في مسألة “معنى المعنى” مثلما تظهران عند عبد القاهر الجرجانيّ، وهما: (1) ضرورة اشتراك المتلقّي في تحديد الغرض النهائيّ من الكلام باعتبار الألفاظ قاصرة أحيانا عن أداء الدلالة وحدها. وقدرة المتلقي على الاستدلال هي شرط قبلي لتجاوز “المعاني الأوائل” للوصول إلى “المعاني الثواني”. (2) والسياق الذي يشكّل مرجعية حضارية مشتركة لكلٍّ من المرسِل والمرسَل إليه، تمكّن كليهما من فكّ شيفراتها. فالمتلقي الذي لا يعرف معنى قولهم “نؤوم الضحى” لن يصل إلى المقصود من هذا القول، وهكذا يفشل الخطاب بينهما.
يوظّف النحويّون والبلاغيّون العرب جملة من المفاهيم التي تدلّ على دور المخاطَب في فهم ما يذهب إليه المخاطِب، منها الاستغناء والاكتفاء وعلم السامع. وكلّ هذه المفاهيم معروفة جيّدًا في التفكير النحويّ العربيّ، وفيها إشارات ذكيّة لوعي النحويّين قدرة اللغة على أن تكون في أنماط تعبيريّة مختلفة، دون أن تلتزم دومًا بضوابط شكليّة صارمة وأركان تركيبيّة ثابتة ومحدّدة. وهذا ما يُفهم من كلام سيبويه في حديثه عن الاختصار والاتساع: “أن يكون المُخاطَب فاهمًا للمعنى، ولا يفهم المخاطَب ذلك إلا إذا كان هذا التَّجوُّز أو كسر الاختيار من العرف اللغوي؛ أي: من سليقة المُتكلِّم والمستمع معًا وكفاية كل منهما اللغوية” وهكذا تبدو جذور التوجّه التوليديّ التحويليّ عند سيبويه[61]. يتحدّث المبرّد عن استغناء المتلقّي عن بعض الكلام لتمام المعنى بما في ذلك الأفعال، يقول: “ونظير هذا الفعل الذي يضمر إذا علمت أنّ السامع مستغنٍ عن ذكره”.[62] ويكون الحذف إذا “علم المخاطَب ما تعني”.[63] وهذا ما يؤكّده البلاغيّون أيضًا. يقول قدامة بن جعفر في كتابه نقد النثر : “الحذف هو الإيجاز والإختصار والإكتفاء بيسير القول إذا كان المخاطب عالما بمراده فيه”.[64] يدرك المخاطَب المعنى، معنى لفظة أهل الافتراضيّة (virtual)، عبر متابعته لمقام القول وهو يدرك حاجة المخاطِب إلى هذا الحشد فيلتقي به على نفس موجة الخطاب. حتى سيبويه نفسه قد التفت إلى هذه النقطة حين جعل الحذف/الإيجاز مردودًا إلى “علم المخاطَب بالمعنى”.[65] ولعل مفهوم الملكة أو القدرة (Competence) على النحو الذي يحدّده تشومسكي يقرّ الدور الطبيعي الفطريّ للمتلقّي في التواصل اللغويّ. إذا لم يكن معنى “الأهل” معجميًّا، حاضرًا في لفظة القرية بصفة أو بأخرى، مثلما تقدّم، فكيف يفهم المتلقّي معنى اللفظة دون التصريح بها؟ يؤكّد فرستيغ أنّ مفهوم الاتّساع قد ينتقل بالكامل من سلطة المتكلّم إلى سلطة المؤوّل المتلقّي، وعندها يمكن اعتبار هذا الأمر من الآثار السلبيّة التي قد تنتج عن الاتساع.[66]