من أنا؟
إسمي إبراهيم طه ابن نورة علي الصالح وقاسم المختار. وهكذا لم يعرفني أقاربي وأترابي في الحارة التي ولدت فيها ودرجت على بيادرها إلا “إبراهيم القاسم” منسوبًا لأبي منذ فتحت عينيّ على الدنيا. وفي الدائرة الأوسع يعرفونني إبراهيم قاسم المختار منسوبًا لجدّي بعد أبي لمزيد من العَلَمية والتعريف. ومن انتسب لأبيه وجدّه كان أبو زيد خاله… أنا خلقت في إسرائيل. وإسرائيل هنا هي تاريخ وليست جغرافيا. وقد اعتدنا أن نؤرّخ بها مثلما نؤرّخ بالإنسان. يقول الناس خلقت في إسرائيل وهم يقصدون الزمان أي بعد 1948 ولا يقصدون المكان نفسه. ويقولون خلقت في الإنجليز والقصد زمن الانتداب البريطاني… إسرائيل تكبرني باثني عشر عامًا. كانت البداية في أول خريف 1960 في منتصف القرون الوسطى بالضبط. هكذا كانت كابول في ذاك الوقت ومثلها من القرى كثير. والبداية كانت في الحارة القديمة في كابول في أعلى التلّة، بجانب الجامع القديم. والجامع القديم لا يبعد عن بيتنا إلا بضعة أمتار. هناك كنا نلعب وهناك قدّام الجامع حبوت حتى حباني الله بالقوّة والمنعة والفتوّة. وهناك درجت خطواتي الأولى وتعثّرت ونهضت ثمّ تدرّجت في مدارج العمر إلى أن بلغت مبلغًا أرتضيه وأشكر الله تعالى عليه.
ومن الحارة القديمة إلى “الوعرة”، وعرتنا التي نسكن إليها وتسكن فينا، كرم كبير من العنب البلدي الذهبي والتين بأنواعه وألوانه والزيتون الصوري والسوري وسهليّة كبيرة نزرع فيها من الحبوب العدس والحمص والفول والفاصولياء واللوبيا ومن الخضراوات البندورة البلدية الزهرية والحمراء والباذنجان العجمي والخيار البلدي البعلي، والبامية على رأسها كلها. ما كنا نعرف المياه الجارية في المواسير. فكنا نستقي من الآبار، منها ننشل كفايتنا للطعام والغسل والغسيل. وما كنا نعرف الكهرباء الجارية في أسلاك. كان عندنا قنديل صغير نضيء به عتمتنا في الليالي المظلمة. وما كنا نعرف الغاز الجاري في المواسير أيضًا، فكنا نستعين بالحطب والجلّة للتدفئة وطهي الطعام في القدور النحاسية. كلّ تلك الكماليات كانت ستلهيني عن التمرّغ على تراب البيادر وقضاء النهارات الطويلة بحثًا عن عشّ هنا أو هناك لنتزفّر. وبعض النهارات الأخرى نقضيها نسرح ببعض رؤوس المعزى، السوداء والشاميّة، نسرح بها ومعها نركض وراءها نرعاها وترعانا وهي كالسعادين لا يحلو لها إلا التطاول على الأشجار العالية. وكانت الوفرة ستبطرني وتحرمني لذّة الوقوف في أول سوق عكا القديم، أبيع العنب والتين والبامية. أحمل سلّتين من القش وأقف صبيًا غرّا في سوق عكا القديم وأبيع… على هذه المدارج تدرّجت، من السقاية والتحطيب والرعي والبيع تدرّجت. هي المدارج التي علّمتني الغوص والبحث في العمق وهي هي التي دلّتني على معاني الصبر والجلد. لولا الكبد ما تعلّمت الجلد وما أتقنت فنونه.
كانت عندنا تينة “خيالية” زرعناها في عِرق بلاطة. ظلّلتني بظلّها وأنا أقرأ ما تيسّر من كتب عزّت في زمن لا يعترف بكلّ هذه الكماليات، ولا حتى الكهرباء، في زمن كان السعي فيه إلى لقمة العيش أولى من كلّ هذا الترف. فكانت هذه التينة شاهدة على قراءاتي “ذهب مع الريح”، “الأرض الطيبة”، “زوربا اليوناني”، “الشحاذ”، “قنديل أم هاشم”… هنا بدأ عالمي الثقافي يتشكّل، هنا بدأ يتطيّب بحلاوة التين والعنب ومرارة الشقاء والكدّ والكبد يتطعّم. يتطيّب ويتطعّم.
كان هذا بعض البداية. والبداية حلوة بمرارتها ومنعّمة بفقرها، لا تخلو من هدأة بال رغم ما فيها من شدّة وعُسرة… من ثقب الباب الضيّق اعتدت الولوج إلى هذه الحياة. من ثقب الإبرة تعلّمت النظر إلى فضاءات الكون منذ كنت “أعبر” الإبرة لجدّتي “حمدة” وأمي رحمهما الله. من هذا المنظور الخاصّ الضيّق كابدت لأجد طريقي إلى هذا العالم الواسع الذي يعظُم باستمرار ويظلّ يضخم ويعظم.
موجز أكاديمي
إبراهيم طه أستاذ السيميائيات الأدبية والأدب العربيّ في جامعة حيفا منذ عام 1989. نشر حتى الآن عشرة كتب بالعربيّة والعبريّة والإنجليزيّة في مختلف القضايا الأدبيّة. بالإضافة إلى هذه المؤلّفات، نشر إبراهيم طه حتى الآن عشرات الأبحاث باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، في الدوريّات الأكاديميّة العالميّة المختصّة، في مجال الدرس الأدبيّ التنظيريّ والتطبيقيّ على حدّ سواء. وهو صاحب نظرية معروفة تعالج مسألة البطولة في النصّ السردي من منظور سيميائي عضوي نُشرت في كتابه (Heroizability, 2015). وهي النظرية التي أهّلته لدرجة الأستاذية الكاملة (Full Professorship). بالإضافة إلى أبحاثه الأكاديمية، ينشر إبراهيم طه المقالات النقديّة في المنابر الأدبيّة المختلفة في البلاد وخارجها.
عمل إبراهيم طه أستاذًا زائرًا في جامعتي أوبسلا في السويد في خريف عام 2004 وهايدلبرج في ألمانيا في ربيع/صيف 2007 حيث درّس مادة السرد العربي الحديث. واشترك في عشرات المؤتمرات الأكاديمية في إسرائيل والعالم.. وقد أشرف، ولا يزال، على كتابة العشرات من أطروحات الماجستير والدكتوراة في مختلف الدراسات الأدبية.
المؤلّفات
- البعد الآخر: قراءات في الأدب الفلسطينيّ المحليّ (الناصرة: رابطة الكتّاب والأدباء الفلسطينيين في إسرائيل، 1990).
- من التماسّ إلى الانزياح: مقدّمة لشعر فهد أبو خضرة (الناصرة: دائرة الثقافة العربية في وزارة المعارف والثقافة، 1993).
- الإيجاز في الموروث البلاغيّ والقرآن الكريم (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2012).
- البعد الرابع: مساومات سيميائيّة مع الأدب الفلسطينيّ والعربيّ (الناصرة: مجمع اللغة العربيّة، 2016).
- فتنة الأدب والنقد: مقالات في الأدب الفلسطيني وملاحظات في الظاهرة الأدبية (باقة الغربية: مجمع القاسمي، 2019).
- القبض على الدلالة: مقدّمة للنقد السيميائي التوليفي في الخطاب العربي (الناصرة: مجمع اللغة العربيّة، 2020) (تحت الطبع).
- חיוכו של מאהב אופסמיסט (תל אביב: הוצאת הקיבוץ המאוחד, 1999). (بالعبرية).
- The Palestinian Novel: A Communication Study (London: RoutledgeCurzon, 2002).
- Arabic Minimalist Story: Genre, Politics and Poetics in the Self-colonial Era (Wiesbaden: Reichert Verlag, 2009).
- Heroizability: An Anthroposemiotic Theory of Literary Characters (Berlin: de Gruyter, 2015).