الاتحاد 19.06.20
علينا أن نسأل دائمًا ما هو التناقض الرئيسي الآن، وكيف لا تعيق التناقضات الثانوية خوضنا المعركة الأساسية. فإذا كانت القضية الأساسية اليوم هي إنهاء الاحتلال، وهي إظهار أكبر حضور ضد الضمّ وسط تل أبيب تحديدًا، فشركاؤنا بذلك كل من يناهض الاحتلال والضمّ بغضّ النظر عن الفروقات الأيديولوجية.
شغلتني ردحًا من مرحلة سابقة مسألة مدى ثبات الانتماء أو الهوية الوطنية لدى أبناء شعبنا، حتى وصلتُ إلى قناعة راسخة بأن هويتنا الوطنية أثبت من المؤسسة التي تحاول تشويه هذا الانتماء!
الهوية، بهذا الصدد، تنقسم إلى شقّين، ثابت بشكل مطلق، وآخر أكثر مرونة. أما الشقّ الثابت فهو كوننا عربًا، وقوامه اللغة، التاريخ، الثقافة، والقناعة الجماعية بانتمائنا التاريخي. فلغتنا مستمدة من إرث غائر العمق وأبرز معالمها القرآن الكريم، والموروث اللّغوي عبر الشعر والأدب والثقافة والموسيقى وكونها ثقافة الشرق المركزية. نحن متصالحون مع التاريخ وجغرافية المنطقة كما يليق بأهل الوطن بكلّ أصقاع الأرض.
هذا الشقّ من الهوية لم تقوَ عليه المؤسسة حين كان التدجين أشدّ وطأة في مرحلة الحكم العسكري، حيث فرضت المؤسسة على تلاميذ المدارس، كل المدارس، الاحتفاء بـ”استقلال” إسرائيل وتعليمهم “عيد استقلال بلادي غرّد الطير الشادي” وحيث كان “المخبرون على الستائر”.
أما الشقّ الثاني وهو ما وصفته بالمرونة، فهو الانتماء الوطني الفاعل، أي الشعور الوطني الفلسطيني وممارسته، وأبسط الممارسات مجرّد التصويت للأحزاب الوطنية، وتتعمّق الممارسة حتى التضحية الوطنية ابتداءً بالمشاركة بفعاليات أوليّة مثل المشاركة بالمظاهرات وانتهاءً بالاستعداد للتضحية الدائمة مثل الناشطين الحزبيين الدائمين أو المستقلين المشاركين دائمًا بالنشاطات الوطنية، هذا الجانب مرن ومتغيّر من شخص إلى آخر ومن مرحلة الى أخرى.
انتماؤنا وثقافتنا أشبه بمحيط طبيعي، والمحيط لا يغرق داخل برك ماء اصطناعية أو حتى طبيعيّة حديثة العهد. لسنا نحن أصحاب الهوية قيد الإنشاء والتأليف، ولسنا بحاجة إلى “نفي المنفى” في وطننا، ولا لـ”بوتقة الصهر”. هي الصهيونية بالذات، من تؤمن أن اليهود لا يستطيعون العيش بين ظهرانيْ شعب آخر؛ الصهيونية هي المنغلقة بنيويًا، بينما نحن تداخلنا مع الشعوب في وطننا وشرقنا انسيابيّ، فلو قلتَ لفلسطينيّ ألف مرة أن صلاح الدين الأيوبي أو محمد علي باشا ليسا عربيّين، بل أحدهما كردي والآخر ألباني، لما غيّرتْ هذه المعلومة أي موقف، وبقي الشعور أنهما جزءٌ طبيعيّ منّا، من تاريخنا وذاكرتنا الجماعيين.
في بلادنا هنا تم انتخاب “ينيّ ينّي” رئيسًا لأوّل وحدة وطنيّة للفلسطينيين بعد النكبة، وهي الجبهة الشعبية (1958)، وينّي ينّي هو رئيس مجلس محلي كفر ياسيف المنتخب ديمقراطيًا حتى وفاته.
علينا أن نعتزّ أننا نحن المتصالحون مع تاريخنا أو الطبيعيون والمنسابون في وطننا ونحن المتكئون على عُمق التاريخ والجغرافيا، هكذا نحن، وهكذا أيضًا نريد أن نكون!
هذه القراءة لعمُق انتمائنا رافقتني كثيرًا عند التفكير بمسألة الشراكة العربية اليهودية، سواء كانت أوساطًا غير صهيونية حيث يكون التوافق مطلقًا كما بالحزب الشيوعي، وهنا التوافق المطلق لا ينفي “امتياز اليهودي بالدولة”، وبالمقابل لا يمكن التقليل من تضحيته الأخلاقيّة داخل مجتمعه المشبع بالعنصرية والعداء. أو عند التحالف مع أوساط من “اليسار الصهيوني” وهنا سؤال الهوية أعمق ومركّب أكثر.
هذا الأمر أعلاه مورس على أرض الواقع بكل الوضوح، فإذا سُئِل أي باحث عن الحزب الذي عزّز الانتماء الوطني، لغةً، ثقافةً، شعرًا، توعيةً سياسيّة منهجيّة ونضالات ميدانيّة لكان الجواب هو الحزب الشيوعي، وبالوقت ذاته لو سُئِل من أكثر الأحزاب سعيًا لتعزيز الشراكة اليهودية العربية لكان الجواب كذلك: الحزب الشيوعي. لا تناقض، فكرًا وتجربةً! بل إنّ الحزب الشيوعي كان يخوض الانتخابات البرلمانيّة والنقابيّة برئاسة رفيق يهودي، والهيئات كانت طيلة أربعين عامًا ذات أغلبية يهودية، وهو الذي رعى شعر المقاومة وفجّر أيار 58 وقاد يوم الأرض الخالد وصنع الأيام الكفاحية وشاد المؤسسات الوطنيّة على أساس قومي!
بعد يوم الأرض ومع الصعود الوطني ورد في المؤتمر الـ18 للحزب الشيوعي فقرة فارقة:
“في ظروف إسرائيل فإن الفرز المفصلي ليس بين الشيوعيين والصهاينة، بل هو فرز طبقي سياسي، بين الكادحين وأصحاب الرساميل، بين قوى السلام وقوى الحرب والضمّ، بين قوى ديمقراطية وقوى تقود إلى الفاشية. هناك صهاينة يتخذون مواقفًا سليمة في قضية سياسية أو اجتماعية عينية. ومن هنا الإمكانية والحاجة إلى العمل على وحدة الصفّ بغضّ النظر عن الفروقات الأيديولوجية..” (المؤتمر الـ18 ص 117). هذا الموقف تأكد مجددًا وبتحليل عميق بالمؤتمر الـ25 للحزب الشيوعي ص 91-92.
علينا أن نسأل دائما ما هو التناقض الرئيسي الآن، وكيف لا تعيق التناقضات الثانويّة خوضنا المعركة الأساسيّة. فإذا كانت القضيّة الأساسيّة اليوم هي إنهاء الاحتلال، وهي إظهار أكبر حضور ضد الضمّ وسط تل أبيب تحديدًا، فشركاؤنا بذلك كل من يناهض الاحتلال والضمّ بغضّ النظر عن الفروقات الأيديولوجيّة
هذه المواقف التاريخية كانت حاضرة أيضًا أثناء التحضير للمظاهرة الكبرى ضد الاحتلال والضمّ، وهذه المظاهرة قدّمت دليلا إضافيًا على التكامل الجدلي بين الانتماء وبين الشراكة، فهذه المظاهرة هي التي أدخلت كلمة أبرتهايد بعيدة الدلالات إلى القاموس الإسرائيلي بقوة، وهذه المظاهرة كانت حدثًا مؤسّسًا لفرض العلم الفلسطيني بالسياق الإسرائيلي، حيث عشرات المقالات والمقابلات الصحفية تمحورت حول العلم الفلسطينية وشرعيته المفروضة على المجتمع الإسرائيلي. حتى أنه لأول مرة دافعت جهات يهودية واسعة عن الحق برفع هذا العلم الوطني لأبناء شعبنا.
إن التأثير السياسي من خلال النضال المشترك يتفاعل ويتعمّق أسرع بكثير من طرح المواقف بالأكاديميا أو الندوات أو الصالونات. ووجدت تعبيرًا رائعًا لهذا بخطاب نلسون مانديلا إلى مؤتمر الحزب الشيوعي الجنوب إفريقي، وقد نشرته مجلة الدرب (نيسان 1996) حيث قال: “التحالف بيننا ليس زواجًا سهلًا! نحن منظمتان مختلفتان مع أهداف بعيدة المدى ليست بالضرورة متقاربة.. تحالفنا مع حزبكم قائم أيضًا على المشاعر الدافئة التي خلقت خلال النضال المشترك ضد الأبرتهايد.. عديدون ينتقدون علاقتنا ولكنهم يبوؤون بخيبات أمل متكررة لأن هذه العلاقات صُقلت في النضال!”.
***
أذكر خطاب توفيق زيّاد الملتهب ضد الرافضين للمشاركة بالمظاهرات مع وجود النساء كتفًا إلى كتف بجانب الرجال، حيث قال بما معناه: “اللي فش عنده ثقة.. فلا يشارك!” وأكتب بذات الحدّة: من لا ثقة له بثبات انتمائه القومي، فنحن نتفهم أن يبقى في مواقعه المريحة يعزّز ويرمم انتماءه وأن يتظاهر فقط مع عرب، أما نحن الواثقون الراسخون بانتمائنا القومي العربي والوطني الفلسطيني فنتظاهر بأوسع المظاهرات ومع أوسع دائرة مختلفين حول القضايا الأساسية، وأهمها اليوم النضال ضد الاحتلال والضمّ!