التنسيق الأمني بين الهُويّة الأصلانية والبطاقة – أ.د ابراهيم طه

 

قبل المقدّمة: ثلاثة مركّبات

قرأتُ مؤخّرًا بعض المقالات التي تتعرّض، بصفة أو بأخرى، لهويّتنا الحضارية والسياسية العامة. وهي التي حرّضتني على المشاركة في النقاش بمنظومة اصطلاحية تتساوق مع خصوصيّة هويّتنا العامة وتتناسق مع الأطروحات العينيّة التي قرأتها. نقاشي في هذا المقال مرسوم ومصمّم على أسس المنطق التثليثي. أولا: الهيكلة البنيوية للهوية وهي من ثلاثة مركّبات متعانقة. ثانيًا: التسويغ النظري والفعلي للهيكلة البنيوية. وما يسوّغ هذه البنية هي ثلاث دعامات تثبّتها على منطق المرونة. ثالثًا: على مستوى الفهم والإدراك. ما يجعل الهوية مفهومة، في تركيبها البنيوي وحركتها الميدانية، هي ثلاثة مبادئ تمنطقها بالعقل وتحصّنها بالإدراك المحسوب.

أفتتح حديثي بالقول إنّ هويّتي غير مفصولة عن شخصي. ويجب ألا تنفصل. هويّتي الحضاريّة والسياسيّة تبدأ، أول ما تبدأ، بالتعريف الشخصي. إسمي الشخصي إبراهيم قاسم المختار، ابن نورة وقاسم من كابول. بلغت من عمري، الذي أجهل نهايته، ستين عامًا. وأرجو أن يمنحني الله تعالى ستين مثلها، أجمل منها وأفضل. أعمل محاضرًا في جامعة إسرائيلية منذ ثلاثين عامًا. وهذه السلسة من الأسماء والجغرافيا والتواريخ تكشف انتمائي القبْليّ. هُويّتي الحضاريّة والسياسيّة العامة، التي تترتّب على شخصي، هي من ثلاث: القوميّة والوطنية والمدنيّة.

  • القومية: عربيّة، عروبة مسحوبة من لغتي القرآنية وآدابي وعلومي وتاريخي. أصونها بقدر ما أستطيع بعروبيّتي: أنحاز إليها بقراءتي للقرآن الكريم وإرثي الأدبي والعلمي الذي نباهي به الأمم، مثلما أتشيّع لها بكتابتي التي أمارس فيها فعل انتماء.
  • الوطنية: فلسطينيّة، أراها في كروم التين والزيتون وكروم العنب والصبر. وأعبّر عنها بلكنتي الخاصّة ولهجتي التي أميّزها عن بعد من بين آلاف اللهجات. وأمارس فلسطينيّتي في عاداتي وتقاليدي ومأكلي ومشربي. أصونها بقدر ما أستطيع كلّ يوم في بيتي ومع أهلي وجيراني في أفراحهم وأتراحهم وعاداتهم وأصولهم.
  • المدنيّة: إسرائيليّة، تكرّسها بصفة يومية بطاقةٌ زرقاء أعمل بها في الجامعة وأذهب إلى البنك ومكاتب الضريبة والتنظيم ومكاتب التأمين وبها أصوّت للكنيست، وبها أحترم قوانين الدولة التي لا تحترمني. وهي لذلك كله لا تفارق محفظتي. ومن كثرة الأعمال التي تصرّفها البطاقة الزرقاء وتيسّرها قد يُصاب بعضهم بالهلع والقلق على المركّبين السابقين.

القومية تاريخ أمّة، تاريخ ناس وشعوب وقبائل وما ينتجونه من حضارة عامة. والوطنية جغرافيا خاصة بفئة من الأمّة وما يتبعها من عادات وتقاليد وأخلاقيّات وسلوكيّات تميّزها. والمدنيّة من مستلزمات الدولة وتوابعها. والدولة هي سلطة مدنيّة، هي نظام حكم ونظام إدارة. وأول أشراط الدولة بطاقةٌ لتصريف الأعمال (وجواز سفر طبعًا، استعماله معدوم في هذه الأيام). قوميّتي ومواطنتي في حالة صراع سياسي عنيف وحادّ ومرير مع بطاقتي الزرقاء لأنها من إفرازات النكبة. والنكبة حقيقة تاريخية. وهي ليست موقفًا أو تفسيرًا. كما أنّ دولة إسرائيل هي حقيقة تاريخية وليست موقفًا أو تفسيرًا.

كلّ واحد منّا يحمل في دمه المتدفّق في شرايينه هويّةً أصلانية وفي محفظته يحمل بطاقة. الهوية الأصلانية من أربعة ألوان حدّدها صفيّ الدين الحلّي في بيض الصنائع وسود الوقائع وخضر المرابع وحمر المواضي. والبطاقة من لون واحد. الهُوية الأصلانية شيء والبطاقة شيء آخر. الهوية الأصلانية ممتدّة على عقود وقرون، والبطاقة لم تتجاوز السبعين إلا قليلا. الهوية الأصلانية شيء والبطاقة شيء آخر. لكنّ هذه “الأخروية” لا تعني المواجهة الدموية ولا تعني القطيعة على مستوى الفعل المعيشي والممارسة اليومية المباشرة بغضّ النظر عن المواقف والمشاعر. الهويّة الأصلانية، بشقّيها القومي العربي والوطني الفلسطيني، تقيم علاقة فريدة من نوعها في العالم كله مع البطاقة الزرقاء. العلاقة بين الهوية الأصلانية والبطاقة هي علاقة “تنسيق” مستمرّ على نحوٍ يؤمّن استمرار العيش البيولوجي والفيزيائي للطرفين. ولذلك هو “تنسيق أمني” لتأمين البقاء وضمان العيش، حتى وإن ظلّ الجدل السياسيّ الصاخب العنيف بين قطبي التنسيق موصولا غير ممنون. تأسيسًا على هذا المنطق، منطق “التنسيق الأمني”، تتفاعل الأضداد فيما بينها من باب للضرورة أحكامها.

المقدّمة: ثلاث دعامات

حديثي عن الهوية الجمعية العامة يعتمد منطق الاستدلال الاستقرائي. وهو منطقٌ يُفيد من فعلين: مراقبة متأنّية للسلوك الجمعي المتراكم والمتواتر وإنصات مرهف لصوت الجماهير. أرى وأسمع فأوصّف. من هنا صار حديثًا توصيفيًا. ما يعني أنّ اتجاه النقاش يبدأ من تحت إلى فوق. صحيح أنّ النخب والأحزاب والتنظيمات تطمح  إلى إنزال أو حتى تنزيل أطروحاتها من فوق إلى تحت. هذه هي مهمّتها ووظيفتها أصلا. غير أنّ حركة الجماهير أسرع أحيانًا وحنجرتها أقوى وصوتها أصخب وأعلى. وهذا بالضبط ما حدث في السنوات الأخيرة في عهد بنيامين نتنياهو. والجماهير لخّصت قولها في ثلاث كلمات جعلتها دعامات لهويّتها الجمعية: الحسم التوافقي المفتوح. وهي دعامات ثابتة على مبدأ المرونة. والمرونة التي نعنيها هي من مقتضيات صراع البقاء بكلّ معانيه. والثبات عليها هو أبرز الآليّات الدفاعية التي قد تتبنّاها أيّ أقلية قومية في كلّ زمان ومكان. والكلام يحتاج إلى مزيد من البيان والتفصيل.

  • الحسم: رفض الالتفاف حول أيديولوجيا واحدة أو تصوّر واحد وحيد وملزم. وهكذا لا يعني الحسم بالضرورة انتقاء أحد الخيارات المتاحة. قد يكون الحسم بالقوّة والفعل نفيًا لفكرة الانغلاق على خيار والانفراد في واحد. وهذا حسم مركّب لا يقبل التقسيم الثنائي المأنوس إلى أبيض وأسود، خير وشرّ، شمال وجنوب… وهو حسم يؤشّر إلى مرتبة متقدّمة من التفكير الجدلي المحسوب. والجماهير حسمت أمرها في هذه المرحلة بالاتجاه المذكور قولا وفعلا.
  • التوافقي: التوافقية تعني قبول منطق التعدّدية المؤسّسة على الإقرار بالاختلاف المبدئي والفعلي. وهذا يظهر في تجاوز الطائفية والحزبية والعقائدية والجغرافيّة والالتفاف حول سلوك سياسي مشترك. القائمة المشتركة هي أبرز أشراط السلوك التوافقي وتمظهراته، وإن كانت شرًا لا بدّ منه في لحظة تاريخية. وهكذا كانت التوافقية من شروط الوجود نفسه في ظرف محدّد.
  • المفتوح: التهيّؤ المبدئي والاستباقي لكلّ حلّ طارئ أو متوقّع قد يأتي في المستقبل القريب أو البعيد. ما يضبط هذا الانفتاح هو الإصرار على البقاء في الوطن والتمسّك بالجغرافيا، بغضّ النظر عن المدنيّة التي تكون أو تأتي أو تتبدّل أو تتهيكل من جديد أو تزول، لأنّ المسألة تتعلّق بالوجود لا بتعريفات الهوية ولا ترتيب مركّباتها أو تدريج عناصرها. الوجود في الوطن أولا وآخرًا وما يحيل إليه من عمق عروبي. هذه هي القناعة الوحيدة التي تُجمع عليها الجماهير. والإصرار على البقاء في جغرافيا الوطن يعني بالضرورة إصرارًا على معاني الوطنية. والإصرار على معاني الوطنيّة إحالة إلى العمق القومي. أمّا أن يكون هذا الوجود شيوعيًا أو تجمّعيًا أو إسلاميًا أو علمانيًا فهذا ما لا تريد الجماهير أن تحسمه. وبحقّ. وليس في الأمر أيّ إشكال أو تناقض.

مِنَ النخب الفكرية والأكاديمية مَنْ يتحدّث بنبر انتقائي عن حسم محدّد بين خيارين: الوطني والقومي من جهة أو المدنيّة من جهة أخرى. أمّا الصوت الشعبي فيتحدّث عن حسم توفيقي لا ينهض على تصالح بالضرورة بقدر ما ينهض على صراع سياسي مرير ومفتوح ومتواصل. وهذا الصراع يتّخذ شكل الحوارية. وهي حوارية ظاهرة في جدلية الواقع والمتوقّع وجدلية الواقع والشعور. وهذا بالضبط هو الحال الذي تعيشه “الغالبية الشعبية”. الجماهير تفكّر وهي تتحرّك. تخطّط وغبار الطريق على أقدامها. تفكير الجماهير في حركتها. وهي في حركتها الميدانية لا تجد الوقت للتفكير العميق بالسؤال “ماذا“، بالضبط والتحديد، وإنما بالسؤال “كيف“. كيف تتحرّك مفتوحةً على كلّ الخيارات والاحتمالات المتاحة والممكنة. كلّ نقاش في الهوية الجمعية يعتمد منطق الحسم الانتقائي المسبق سيفشل لأنه يتعامل مع هذه الجماهير كأنها اللاعب الوحيد الذي يملك أوراق اللعب كلها. وهذا تفكير فوقي، وتفكير الجماهير تحتيّ.

تأجيل الحسم الانتقائي هو شكل من أشكال الحسم الجدلي العميق. الحديث عن ثنائية ضدّية بين إسرائيليّة نمارسها وبين فلسطينيّة نحسّها هو صحيح نظريًا. غير أنّ هذه الثنائية الضدّية لا توقف حركة الجماهير ولا تعيقها ولا تطالبها بالحسم الانتقائي. تبدو النخب متعبة في لعبتها الذهنية. الغالبية العظمى “تريح” نفسها باللاحسم المفتوح على حوارية لا تنتهي قد تُفضي إلى كلّ الخيارات، كلّ الخيارات.. ومن يدري؟!  بعد مرور أكثر من 70 عامًا على انتكاب الشعب الفلسطيني لا أرى أنّ المدنيّة “الإسرائيلية” تهدّد فعلا هويّتنا القوميّة والوطنيّة رغم مظاهر التأسرل التي يراها كثيرون ويمارسونها بالفعل راغبين أو كارهين.  وفي الأمر ثلاث مفارقات غريبة عجيبة. قلت غير مرّة إنّ الدولة هي التي تصرّ على تذكيرنا بقوميّتنا ووطنيّتنا بالقوّة. حين تصرّ الدولة، بكلّ مركباتها الثلاثة، اليهودية والصهيونية والإسرائيلية، على منحنا حقّ التصويت (זכות ההצבעה) وحرماننا من تبعاته (זכות ההשפעה) فإنها تفعل ذلك لاعتبارات قومية. وهذه هي المفارقة الغريبة الأولى. ما يعني أنّ الدولة نفسها هي التي تسعى إلى الحدّ من إسرائيليّتنا. هي التي تمنحنا مدنيّة منقوصة ومقصوصة لا قدرة فيها على تهديد هويّتنا القومية والوطنية بصفة فعلية ومباشرة. والمفارقة الغريبة الثانية أنها حين تحدّ من مدنيّتنا وتقلّص مداها لاعتبارات قومية ووطنية فإنها تدفعنا بقوّة للتشبّث بقوميّتنا ووطنيّتنا أكثر فأكثر. في المحصّلة الأخيرة، إسرائيل هي التي تعزّز هويّتنا القومية والوطنية. يكفي أن ننظر إلى نتائج الانتخابات الأخيرة حتى ندرك عمق الوعي السياسي عندنا. محاولات المسّ بمدنيّتنا الإسرائيلية ترجمناها إلى أرقام أخافت السلطة وأقلقتها. لكنها على قدر مخيف من الغباء، لا تعتبر ولا تقرأ المشهد مثلما ينبغي أن يُقرأ. وهذه هي المفارقة الثالثة.

من مظاهر الحسم المفتوح هو “التوافق” لا الانتقاء، رغم أنه لا يخلو من سلبيات قد تصيب في مقتل. إنّ مطلب الجماهير هو “التوافق” على مناقشة المدنيّة الإسرائيليّة حول حقّنا المشروع في عروبتنا وفلسطينيّتنا. وهو حسم مفتوح على أفق مرن من الخيارات. الجماهير، على قلّة عرضها،  لم تحسم أمرها انتقائيًا مع أيّ من الخيارات المتاحة التي تطرحها الأحزاب والتنظيمات. الأحزاب ضرورة لتأكيد مبدأ التعدّدية والحواريّة، وبالتالي تأكيد مبدأ “المرونة”. اشتراكها في قائمة توافقية هو مطلب جماهيري ظرفيّ لتأكيد “الحسم التوافقي المفتوح”. والحسم المفتوح هو باتجاه خيار التوافق على أسس قوميّة ووطنيّة. التناقض الظاهر بين تفرّق الأحزاب في تنظيماتها وأجندتها العقائدية وبين إصرار الجماهير على هذا التوافق التعدّدي هو تناقض جدلي بين الاختلاف والتوافق. خوفي المبدئي من أن يلغي التوافقُ التعدّديةَ وأن يلغي التعدّدُ أيَّ احتمال للتوافق إن كان من الضرورات. وهذا ما قلته عند إقامة “القائمة المشتركة”. وهذا أمر شرحه يطول سنأتي إليه في وقته.

بعد المقدّمة: ثلاثة مبادئ

على أساس التفكير الذي تقدّم ألخّص كلامي بثلاث نقاط هي مبادئ ضرورية لفهم هويّتنا العامّة وإدراكها عقليًا: (1) المرونة والصبغة المؤقتّة، (2) التفاعل الجشتالتي وسقوط فكرة التفاضل، (3) التأثيرات الخارجية الظرفية. 

1) كلمة “ثوابت” في النقاش حول الهوية لا تعني المكانة (القيمة) بقدر ما تعني المكان (المركز).  ولا ينبغي لها أن تعني. ولا بدّ من التأكيد على أنّ الحقيقة شيء والموقف منها شيء آخر. وحين أقول كلّ المركّبات “ثابتة” أعني مركزية في قيمتها لا تفاضل بينها. وحين أقول إنّ قوميّتي ووطنيّتي هي من الإجماع الذي تؤكّد عليه الجماهير بالقول والفعل لا أعني تفوّقها في داخل الهوية، على غيرها من المركّبات، بقدر ما أعني مدى فاعليّتها في تفعيل المركبّات الأخرى التي تصير، بحكم تفاعلها الهيكلي فيما بينها، مركزية هي الأخرى في ترسيم الهوية. المركّب المدني في هويّتي، المتمثّل سيميائيًا في البطاقة الزرقاء التي أحفظها في محفظتي، لا يقلّ مركزية في إدارة حياتنا عن المركّبين الآخرين (القوميّة والوطنيّة)، بغضّ النظر عن المواقف والمشاعر. وفي نفس الوقت هي كلها مركّبات مرنة لأنها في حالة تغيير مستمرّ وتعديل لا يتوقّف. السمة الأولى في الهوية، كلّ هوية، هي “الدينامية المرنة”. ولأنها كذلك فلا بدّ أن نصرّ على مواصلة النقاش حولها فيما بيننا وبين أنفسنا وبيننا وبينهم بكل أشكال الحوار المعروفة.

2) حديثي عن الجشتالتية والكلانية يعني ذوبان العنصر بالعنصر والتحلّل فيه. ما يلغي بالتالي التفاضل والتقاطب والتراتب بين عناصر الهوية لأنها كلها تتساوى بالقيمة. ولماذا تتساوى بالقيمة؟ لأنّ كلّ مركّب منها وإن بدا صغيرًا أو هامشيًا يكمل الآخر في حالة التفاعل. الفلفل أو الملح مثلا مقابل لحم الحجل أو المعزى هو عنصر متدنٍّ في مكانته مقارنة باللحم. وكلاهما من مركّبات الكبّة. لكن لن تكون الكبّة كبّة بدون الفلفل أو الملح حتى لو بسست السميدة بأفضل لحم حجل مستورد من الفردوس الأعلى. ونحن حين نأكل الكبّة نأكلها في تفاعل عناصرها ولا ندخل أثناء الأكل في تفكيكها أو تأويلها إلى أوليّاتها. حين يأخذ الفلفل أو الملح مكانه في الكبّة، كمنتج منجز، تبطل مكانته المتدنّية التي أشرنا إليها. يُفهم ممّا تقدّم أنّ الهوية، كجشتالت كلّاني، غير نهائية ثابتة في تفاصيلها ودقائقها لسببين: (1) طبيعة التفاعلات المستمرّة بين مركّبات الهوية وعناصرها هي أمر دينامي متغيّر. (2) وحاجة الهوية إلى صياغة وتعديل أو تنقيح وتهذيب متواصل تجعل منها كيانًا نشوئيًا تطوريًا لأنها في المحصلة الأخيرة هي كيان الإنسان كله. ليس هناك جزء محصّن أو يحظى بحصانة أو محميّ بادّعاء أنه موهوب بالفطرة. كلّ مركبّات الهوية تحتاج إلى صيانة دائمة. حتى العروبة واللغة أول علاماتها وأشراطها. عروبتي الفطرية تفقد قيمتها ومعناها إن هي أهملت أو أغفلت أو بيعت. ولما كانت الهوية هي الأنا فالأنا تظلّ في حالة صقل مستمرّ من لحظة الولادة إلى الممات.

إذا قلنا إنّ هويتنا الأصلانية في صدام مستمرّ مع البطاقة الزرقاء فهذا لا يعني أنّ البطاقة مركّب مرن تحتي إجرائي مقابل هويّتي الأصلانية بغضّ النظر عن المشاعر والمواقف. “الصدام” بين الهويّة الأصلانية والبطاقة، عمليًا وميدانيًا، هو صدام متكافئ ينهض على ندّية عنيفة، أقول وأذكّر “عمليًا وميدانيًا”. حتى ونحن نحاول أن نمارس هويّتنا القوميّة والوطنيّة نحن نفعل ذلك في أحايين كثيرة حسب قوانين البطاقة والرقم. هذه حقيقة. وهذه الحقيقة الجافّة تقوم على تفاعل جشتالتي بين المركّبات لا يسمح  بأيّ تقسيم إلى ثابت ومرن ومركزي وهامشي على مستوى الحقيقة والممارسة. وهكذا لا تخيفني البطاقة بهذا المفهوم.

3) الهوية نتاج تفاعلات وتأثيرات خارجية ومشاركات مختلفة. الهوية تخضع لتأثيرات خارجية لا تنتهي، منها القريب ومنها البعيد منها الظاهر  ومنها الخفي. للبيئة والظرف أثرٌ كبير على تعريف الهوية وترسيم تخومها. إن شئنا وإن لم نشأ. للاعتبارات التي تقدّمت، ينبغي أن يظلّ النقاش حول المشاركة أو “الشراكة” العربية واليهودية ضمن الضرورات لا الخيارات باعتبارها جزءًا عضويًا من مدنيّتنا. أتحدّث عن النقاش النظري في المسألة، أمّا الواقع نفسه فيصرّ على هذه المشاركة بالممارسة الفعلية بمعزل عن النقاشات الفوقية. مرّة أخرى، البنية الثلاثية لهويّتنا الحضارية والسياسية العامة تموضع جزئيّة المشاركة العربية اليهودية ضمن الضرورات اللازمة والملزمة. مركّب “المدنيّة” في هويّتنا العامة يؤكّد انتماءنا إلى بيئة سياسية ومدنيّة تشكّل حاضنة مبدئية لمشاركة عربية يهودية فاعلة. بقي أن تمنهجها الأحزاب وتنظّمها بحكمة وعلى أسس مدروسة. وهذا متروك للسياسيين لأنه خارج دائرة قدراتي على النقاش.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*