الهويةّ مرّة ثالثة: ثلاث جدليّات – ا.د ابراهيم طه

 هذا المقال قولٌ على مقالين سابقين والحديث لا ينتهي، مثلما يبدو، ولا يريد أن ينتهي. الحديث عن الهُويّة لا يخلو من مزالق أو مطبّات توقع في ارتباكات وإحراجات وتسبّب توتّرات على المستوى الفردي الذاتي والجمعي الكلّي. لم يتفاعل مع المقالين السابقين إلا قليلون. وعلى قلّة عددهم أدركت عمق الارتباكات من تعليقاتهم وملاحظاتهم وأسئلتهم. هذا مقالٌ جامع أجمعُ فيه كلّ ما قالوه، أعلّق على تعليقاتهم وأردّ على ملاحظاتهم وأجيب عن أسئلتهم وأمثّل. في هذا المقال أردّ كلامي على بعضه وأحاول التعليق على قدر الملاحظات والإجابة على قدر الأسئلة بالضبط بدون استطرادات نظرية مرهقة. وأحاول أن “أحكي هذه المرّة باللغة العربية” مثلما طلب مني أحدهم بنبر لا يخلو من مسحة تذمّر. المشكلة ليست في لغتي العربية وقدرتي على التعبير بها، كما أظنّ، بقدر ما هي في مادّة الحديث وموضوعه. سؤال الهوية نفسه مركّب ومتشعّب ومعقّد ولزج متملّص.

كنت في المقالين السابقين أحيل بالعموم إلى ما كتبه النائب أيمن عودة في مسألة المشاركة العربية اليهودية. وهي قضية جزئية قد استنفذت، في هذه المرحلة، ولم تعد من ضرورات النقاش حول سؤال الهوية الكلّانية. وفي المقال السابق حصرًا كنت أعلّق، في بعض المواضع، على أفكار قد وردت في مقالة/دراسة للصديق سعيد نفاع كان قد نشرها مؤخّرًا بعنوان “أنا وطنيّ إسرائيليّ! وقفات على مفارقنا الإسرائيليّة البعيدة والقريبة”. اتفقت معه في أمور واختلفنا في أخرى. في هذا المقال أستغلّ حواري مع سعيد، في بعض نقاط الاختلاف، كي أحشد كلّ تصوّري وفهمي لمسألة الهويّة. حشرت هذا التصوّر والفهم وضغطته في ثلاث برقيّات جدليّة. سمّيتها برقيّات لأنها موجزة مكثّفة وهي جدلية لأنها تنهض على أقطاب ثنائية تتحاور فيما بينها من باب الضرورات لا الخيارات. التفاعل الجدلي بين الأقطاب الثنائية يعني التأثير التبادلي. والتأثير المتبادل يؤكّد حاجة الضدّ إلى الضدّ ويكرّس ثقافة التعدّد. ولمّا كان هذا الفهم استقرائيًا، يتّكئ على حركة الجماهير ميدانيًا، كان لا بدّ أن يكون نبر النقاش متفائلا.

(1) جدليّة العامّ والخاصّ أو الكلّيّ والفئويّ

أذكّر في البدء بأنّ الحديث كان وما زال عن الهويّة “الحضاريّة والسياسيّة” وهي الوحيدة التي تجمعنا في كلّية واحدة. أعني ب”الحضاريّة” الانتماء إلى حضارة أمّة وشعبٍ من شعوبها، إلى حضارة العرب وفرعها الفلسطيني. وأعني ب”السياسيّة” الوضعيّة المدنيّة بالمعنى الذي حدّده بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع والدارسين في مجال العلوم الإنسانيّة وعلى رأسهم أفلاطون وابن خلدون. القوميّة تاريخ قوم. والوطنيّة جغرافيا شعب. والمدنيّة  تعني الانتظام في كيان مدني مؤسّساتي يمنح حقوقًا ويطالب بواجبات. وهذه لا تكون إلا حين يصير الإنسان جزءًا من مجتمع عمراني يحتكم إلى نظام. أول علامات المدنيّة الحديثة نظام الدولة وتوابعها. وبالقول البرقيّ أوجز: القوميّة قومٌ والوطنيّة وطنٌ والمدنيّة دولة. الهويّة الحضاريّة والسياسيّة هي الوحيدة التي تجمعنا كلّنا في كلّية واحدة. وهي تجمعنا في ثلاث، مثلما قلت، القوميّة والوطنيّة والمدنيّة. غير أنّ الهويّة في تعريفاتها أكبر من ذلك، أكبر بكثير. فقد يضيف إليها المسلم أو المسيحيّ أو الدرزيّ مثلا دينه وطائفته، ليجعل من دينه المركّب الأول في تعريفه لهويّته. وقد يضيف إليها الأيديولوجيّ الشيوعيّ شيوعيّته، أو بعض تفريعاتها الماركسيّة أو اللينينيّة أو الستالينيّة أو الخروتشوفيّة أو البريجنيفيّة أو حتى الغورباتشوفيّة، ليجعل منها المركّب الأوحد في تعريفه لهويّته، وهكذا…  الحديث إذًا عنّا كلّنا كبعضٍ من شعبٍ قد تشعّب في ثلاث شُعَب. هويّتنا الجمعيّة الملزمة، التي تجمعنا على ثلاث، هي الحدّ الأدنى الذي نلتقي عنده كلنا في هويّتنا العامّة.  هذه الأركان الثلاثة هي المقام المشترك الوحيد الذي لا يستطيع أحدٌ منّا أن ينكره وإن كان قادرًا على التنكّر منه أو التملّص من بعض أجزائه. وبعد الإقرار بهذه الهويّة الثلاثيّة الجمعيّة فليفعل كلٌ منّا ما شاء بهويّته الخاصّة، وليوسّع أو يضيّق حدودها بما شاء ومثلما شاء ومتى شاء ما دامت المسألة في دائرة المشيئة الشخصيّة أو الفئوية. الهوية الحضارية السياسية الكلّية هي هوية توفيق والهوية الفردية والفئوية هي هوية تفريق. الأولى تجمعنا على سلوك عام والثانية تفرّق بيننا من باب التعدّد والاختلاف. كلتاهما من الحقائق والضرورات التي تتفاعل فيما بينها باستمرار. لا تخيفنا النقاشات الحادّة التي نسمعها أو نقرأها من حين إلى آخر بين شرائح مجتمعنا. كنت شاهدًا فاعلا على النقاش الحادّ الذي رافق ظهور الحركة التقدّمية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. أصغي باهتمام وإقبال واحتفال إلى ما يحدث من نقاش بين الحزب الشيوعي والحركات الإسلامية رغم ما يعتريه أحيانًا من ضعف. قدرتنا على الاختلاف والتفرّق والتعدّد، في هويّات فئوية، عمّقت رغبتنا في النقاش الحادّ والضروري ولم تلغِ قدرتنا على الالتفاف في قائمة توافقية في ظرف تاريخي معيّن. وهي من الإجراءات المؤقّتة. وعلى ماذا نتوافق إن لم يكن حول الحدّ الأدنى المشترك وهو هذه الأركان الثلاثة؟! على العموم، هذه جدليّة مشرّفة لأنها تدلّ على عمق فكري ونضج استراتيجي تداولي. لا يخيفني أيّ نقاش بين الشيوعيين والقوميين والإسلاميين أو غيرهم. يهدّد وجودي غياب النقاش بينهم. افتحوا قلوبكم وعقولكم ومنابركم للنقاش الحادّ والصريح. منطق الأخذ والردّ منطق نشوئي ارتقائي بغضّ النظر عمّا يصاحبه من نبر وموسيقى وصدى. لن ترتقي الشعوب بغير ثقافة الحوار. ولن يكون هناك حوار بغير ضدّية حقيقية أو افتراضية. حاجة الحركة الإسلامية إلى حزب شيوعي تقارعه وتشحذ عليه عقيدتها وتصقلها كحاجة الحزب الشيوعي إلى حركة إسلامية يناكفها ويستنزفها كي يجلّي عقيدته ومنهجه. لا يكون الضدّ إلا بضدّه. الضدّ مِسَنّ الضدّ. ترسيخ ثقافة الرأي والرأي الآخر هو مطلب قومي ووطني في المقام الأول.

(2) جدليّة الثابت والمرن

كلّ أركان هويّتنا الجمعية/الكلّية الثلاثة ثابتة في وجودها الأنطولوجي. وهي حقائق ظرفية وتاريخية تستمدّ شرعيّتها من قدرتها على الشغل الميداني الإجرائي. ولأنها غير مفصولة عن الممارسة الحياتية اليومية، رغم كونها جزءًا من ظرف أو تاريخ قد انقضى، فهي تتفاعل فيما بينها بحكم الضرورة ولا يمكنها أن تكون على انفصال. وهذه هي الجشتالتية أو الكلّانيّة التي تحدّثت عنها في المقالين السابقين. ولأنها كلها حالة جشتالتية واحدة فلا بدّ أن ينتفي التفاضل بينها على المستوى الوجوديّ وتتراجع فكرة المحو الفعلي أو الشطب العملي ليتعمّق منطق “التنافس” الشديد أو الصراع الميدانيّ على الدور والأثر. ولأنها لا تجد بدًّا من التفاعل الميداني فيما بينها والتنافس على مركز الفعل والتأثير فهي تخضع بالضرورة لمتغيّرات الظروف في الواقع اليومي. وهكذا قد يحتدم التنافس، بين الأركان الثلاثة التي تشكّل هويّتنا الكليّة العامّة، وفقًا للظروف المتغيّرة. تنافسٌ يقدّم ركنًا على ركن في لحظة تاريخية أو يقدّم بعضًا على بعضٍ بمرونة طبيعية. مرونتها إذًا في أدوارها أثناء تفاعلها معًا، في عمق هذه الأدوار ومداها وتأثيراتها. مرونتها ليست في مكانتها كحقيقة تاريخية بل في مكانها وموقعها  داخل التفاعل الثلاثي. ومرونتها في المحصّلة الأخيرة مرتهنة بمرونة الظرف وتقلّباته. ثبات المكانة مردود إلى كونها حقائق تاريخية وظرفيّة حاصلة ومرونة المكان مردودة إلى وضعيّة التنافس الظرفيّ بينها.

تتعمّق قوميّتنا العربيّة حين نرفض الظلم الذي يطارد أمّتنا العربيّة ويلاحقها من الداخل والخارج من أقصاها إلى أقصاها. فعلنا ذلك وقت العدوان الثلاثي على مصر وفي كلّ الحروب التي قادتها إسرائيل مع العالم العربي. وأعلنها محمود درويش بصوت عالٍ في مطلع الستينات “سجّل أنا عربي”. سجّلنا عروبتنا حين رأينا ما يحدث في سوريا وتونس ومصر وليبيا والعراق. كلٌّ حسب قناعاته واجتهاداته. تتعمّق عروبتنا بعروبيّة فاعلة يقظة نسجّلها تسجيلا ونحسّها ونعبّر عنها بدون تأتأة ولا طأطأة. وتتعمّق وطنيّتنا الفلسطينيّة بقوّة حين تمارس الدولة الإسرائيلية احتلالا وقهرًا وقمعًا على شعبنا في أرضه. وهذه لم تتوقّف يومًا واحدًا في كلّ كبيرة وصغيرة يمارسها الاحتلال ضدّ شعبي. ودفعنا بدمائنا ثمن الدفاع عن أرضنا ومقدّساتنا عام 1976 وعام 2000. ونمارس مدنيّتنا  الإسرائيلية بوضوح تامّ وبدون نفاق حين تشرّع الدولة قانونًا عنصريًا ظالمًا وتمارسه بعنف ظاهر. وهذه أيضًا لم تتوقّف للحظة. وأعلى مراتب الإسرائيليّة التي نمارسها جهرةً بالآلاف المؤلّفة بالباصات والسيّارات وزحفًا على البطون من كلّ حدب ننسل هي عضويّة الكنيست. وهي أعلى مراتب الممارسة المدنيّة مثلما يقول سعيد نفاع بحقّ. في كلّ هذه الحالات، نشتم، بأعلى الصوت نصرخ ونشتم، ونتظاهر ونُسجن ونُلاحق، ولا نرتدع ولا نرتخي. ونظلّ نكتب ونصرخ بأعلى صوتٍ قد تصل إليه حناجرنا وأوتارنا الصوتيّة.

يقول سعيد نفاع: “ما زالت إسرائيليّتنا تنازع فلسطينيّتنا البقاءَ، والأمرُ غير محسوم فينا ذهنيّا وهنا تكمن المعضلة، بمعنى أنّنا نعيش إسرائيليّتنا ونبرّرها ونتزيّن بفلسطينيّتنا ونجمّلها”. في هذا القول فكرتان اثنتان: (1) الصراع على البقاء بين مركّبات الهوية. (2) المفارقة المقيتة بين القول والفعل مؤشّر إلى منسوب النهج الانتهازيّ وما يفرزه من نفاق. أتّفق مع سعيد نفاع على الفكرتين، على منطق “التنازع” أو “التنافس” المبدئي بين مركّبات هويّتنا العامة وأمقت مثله كلّ أشكال الانتهازيّة والنفاق رغم أنّ التجاور المكاني بين الوطنية الفلسطينية والمدنيّة الإسرائيلية هي حقيقة لا تستلزم النفاق. على المستوى الجماهيري لا أرى نفاقًا ولا انتهازية في السلوك. الأمر محسوم جماهيريًا. لا تستحي الجماهير من ممارسة مدنيّتها الإسرائيلية عيانًا وعلى رؤوس الأشهاد، لا تتقنّع ولا تبرّر ولا تتوارى خلف المسوّغات الوطنيّة أو تحتجّ بالحجج القوميّة. أما على مستوى الأفراد فهذا قد يحصل بالفعل، لكن لا يُقاس عليهم عند الحديث عن الكلّيات والسلوك الجمعي.. والأمر يحتاج إلى مزيد من النقاش. التنازع بين مركّبات الهويّة هو تنافس ندّيّ بين نظراء، مرّة أخرى بغضّ النظر عن الأحاسيس والمواقف. ولأنّ هذا التنازع/التنافس بين مركّبات الهويّة هو  من مستلزمات وجودها الجشتالتي أصلا، فقد يكون التنافس إذًا بين كلّ المركّبات الثلاثة بدون استثناء. وهو أمر يحدث باستمرار. أذكّر بأنّ هذا التنافس/التنازع لم ينحصر بين إسرائيليّتنا وفلسطينيّتنا، ولم يقتصر يومًا على النزاع بين المدنيّة والوطنيّة. من يتابع أدبنا، الذي يرافق ظروفنا لحظة بلحظة وينصت إلى نبض الجماهير ويقرأ بدقّة خصوصيّة حالتنا الحضارية والواقعية والسياسية، من يتابع هذا الأدب يدرك عمق اليأس الذي أصابنا ويصيبنا من الأنظمة العربية. ومن يتابع هذا الأدب بعمق يدرك مرارة الشعور بالخذلان من الشعوب العربية نفسها التي تستكين إلى الدعة وتركن إلى الصمت وتمارس استعمارها لنفسها بنفسها بالترهيب الذاتي. حين كان آباؤنا وأمّهاتنا يصرخون غيرة على عروبتنا بيأس ومرارة “العرب جرب” كنا نحن ننحاز إلى فلسطينيّتنا ونؤكّدها ونرفعها مقامًا محمودًا على حساب الحيّز الذي كانت تحتلّه العروبة فيهم. كلّ طفل فلسطينيّ شعر، وما زال يشعر، أنّ العرب قد خذلوه، بصمتهم المدوّي خذلوه، ويعلم أنّ سلاطين العرب بالجهر الصلف قد باعوه وتاجروا بدمه. وكلّ من يجرؤ الآن على أن يقرأ قصيدة محمود درويش “سجّل أنا عربي” على منبر سيخاطر أو “سيغامر بأن يبدو مثل أبله كبير”، يقول زكريّا محمد بمرارة. وكلّنا نتّفق معه للأسف الشديد. “سجّل أنا عربي” تنازعها “سجّل أنا فلسطيني”. وكأنّ فلسطينيّتي كانت في حاجة إلى هذا التنازع مع عروبتي حتى تتكرّس وتتعمّق أكثر فأكثر. وهذه جدلية لا تخلو من مفارقة. ولا بدّ من التأكيد على أنّ هذا التنازع لن ينتهي بالضربة القاضية ولن تموت لا هذه ولا تلك لأنّ التنافس أصلا هو من إرهاصات الجشتالتية المرتهنة باللحظة والظرف. والظروف متغيّرة ومرنة بطبيعتها. لا يخيفني النقاش إن احتدّ واحتدم. لا أخاف على فلسطينيّتنا من إسرائيليّتنا مثلما لا أخاف على عروبتنا من فلسطينيّتنا رغم اليأس المطبق.

(3) جدلية المغلق والمفتوح

قرأت مقالة/دراسة سعيد مرّة أخرى وشعرت بصدق التفجّع الذي يصاحب نقاشه وهو يقول: “إسرائيل تدرك أنّ العرب سكّانها، بغالبيّتهم العظمى، حسموا أمرهم تاريخيّا أن يكونوا جزءًا منها، وهي غير قابلة هذا الحسم ولا تريده رغم الواقع”. وكأنه يقول تحت قشرة النصّ “رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا”. أذكّر بأنّ مركّب المدنيّة الإسرائيليّة، المتمثّل سيميائيًا بالبطاقة الزرقاء، قد انضاف إلى هويّتنا الجمعيّة قبل سبعة عقود بعد أن دفعنا ثمنه نكبة شعبنا عام 1948. وهو ثمن باهظ. وهكذا كان لا بدّ إذًا أن نتعامل مع هذه المدنيّة الجديدة بشيء من الحذر والحيطة والتأنّي المدروس. وهو حذر يرافق من باب العادة كلّ أقليّة تصارع من أجل البقاء وتسعى إلى البقاء في وطنها وتجاهد في سبيل البقاء على حضارة قومها أولا وآخرًا. وكان لا بدّ لها أن ترسم نهجها واستراتيجيّتها الإجرائيّة في علاقتها بالمركّب المدني الطارئ وهي متحرّكة في صراعها وسعيها وجهادها. وعلى هذا الأساس، أقترح صياغة مغايرة لجملة سعيد نفاع: إسرائيل تدرك أنّ العرب سكّانها، بغالبيّتهم العظمى، حسموا أمرهم تاريخيّا أن يثبتوا في وطنهم وأن يذودوا عن عروبتهم وأن يصرّوا على ممارسة مدنيّتهم الإسرائيلية بكلّ وضوح. وهي غير قابلة هذا الحسم ولا تريده رغم الواقع”. والفرق كبير بين الصياغتين، كبير جدًا. المعنى العملي النهائي لهذه الصياغة المقترحة هو أنّ هؤلاء العرب لا يرفعون سلاحًا على أحد لا من أجل بقاء إسرائيل ولا من أجل زوالها. لا يرفعون إلا أصواتهم بعد أن صرنا نتقن فنّ الإصاتة.  الحسم الذي حسمته الجماهير هو حسم تعدّديّ مركّب مفتوح في صبغته وليس أحاديًا انتقائيًا مغلقًا.

حكومات إسرائيل لا تريدنا جزءًا من صبغتها العرقية وهي تعبّر عن ذلك بإسقاط الشرعية عن قيادتنا التي تلهو بالقضايا القومية والوطنية بدلا من انشغالها بهموم الجماهير المدنيّة. كلام شططٌ طبعًا. الغريب في الأمر أنها تحرمنا من حقوقنا المدنيّة لأسباب قومية ووطنية، ما يدفعنا بالتالي إلى مزيد من التشبّث بالأسباب. كان ردّ الجماهير على محاولة التفريق بينها وبين قيادتها بالأرقام وزيادة قوّة القيادة إلى رقم غير مسبوق في البرلمان الإسرائيلي. وأنا أترجم هذه الأرقام إلى لغة وأقرأها بوصفها مؤشّرًا إلى نضوج في الرؤيا الفكرية والرؤية الإستراتيجية. حكومات إسرائيل مرتبكة مذهولة من قدرة الجماهير وقيادتها على الفعل السياسي الذكيّ والحكيم. حكومات اليمين حسمت أمرها في علاقتها بنا واختارت المواجهة الصريحة المعلنة الوقحة. وهو خيار مغلق لا يؤدّي إلا إلى طريق مقفل. نحن حسمنا أمرنا بردّ سياسي حكيم مفاده الدفاع عن هويتنا الأصلانية، ببعدها القومي العربي والوطني الفلسطيني، بأدوات تتيحها المدنيّة نفسها. وهكذا تبدو حكومات إسرائيل مثل الكلب الذي يدور ويلفّ حول ذنبه ليعضّه. يدور فيلهث ويدلع لسانه أكثر فأكثر. أو إن استثقلتم التشبيه فهي مثل بغل الحنّانة يدور كلّ النهار وهو مكانه. ولا أعرف بالضبط من أذكى من الثاني، هل هو الكلب أم البغل؟! مع احترامي لكليهما بنفس القدر. خوف الحكومات الإسرائيلية، اليمينية بصفة خاصّة، من أن نصير جزءًا مؤثّرًا في وجودها العرقي دفعها إلى المواجهة بخيار واحد ووحيد. وهذا خطأ حتمي، نتيجته محسومة سلفًا. للأسف لم تفكر هذه الحكومات العمياء بخيارات أخرى. لكن على ماذا تراهن بهذا الخيار الوحيد؟! وماذا تتوقّع منّا بالضبط إذا كانت جماهيرنا قد حسمت أمرها في الثبات في وطنها وصيانة عروبتها والإصرار على حقّها في مدنيّتها؟!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*