الاتحاد 26.06.20
تمهيد:
قرأت مقال النائب أيمن عودة “الثقة بالانتماء القومي أرسخ مداخلنا للشراكة العربية اليهودية”، قرأته بكثير من الإنصات والترقّب فاستمتعتُ وأفدتُ. وبقدر ما استمتعت وأفدت شعرت برغبة جامحة في التعقيب. أعترف أنني لا أتقن فنون “النضال [الميداني] المشترك”، مثلما يتقنها النائب أيمن عودة، غير أنّ الكلمة التي تُقال في قاعات “الأكاديميا والندوات والصالونات”، والمواقف التي تُطرح بوضوح وجرأة على المنابر الأخرى، لا يُستهان بتأثيرها السياسي. ولا ينبغي أن يُستهان. بعض النضال ب”السيف” وبعضه ب”الكتب”. وهما لا يكونان على انفصال.. أبدًا لا يكونان! أخطأ أيمن عودة وأخطأ أبو تمام قبله.
يتحدّث النائب أيمن عودة في مقاله عن جانبين في الهُويّة: واحد “ثابت بشكل مطلق” وآخر متحوّل أكثر “مرونة”. الثابت “هو كوننا عربًا”. وهذا ما لم تقدر عليه المؤسّسة في محاولاتها المستمرّة والمستميتة لتدجيننا لأنّ المسألة هي مسألة انتماء. أما الشقّ الثاني الموسوم “بالمرونة” فهو ما كان موصولا “بالانتماء الوطني الفاعل، أي الشعور الوطني الفلسطيني وممارسته”. ولمّا كان هذا الشقّ مرنًا فلا بدّ أن يخضع إذًا للمراقبة والمقاربة بمنظومة اصطلاحية براجماتية. ومن أبرز إفرازات الفعل البراجماتي هو “الشراكة العربية اليهودية” وما توجبه من “نضال مشترك”.. هذا بصفة تقريبية مجمل ما ورد في المقال من أطروحات مثلما فهمت.
وكي يرسّم هوّيتنا الجمعية، يوظّف أيمن عودة حزمة من المفاهيم المتقابلة: ثابت/مَرِن، قومي/وطني وعربي/فلسطيني. والتقابل على العموم يقصّر الطريق إلى المقارنات، وإن هي قصرت صارت الطريق إلى المُفاضلات أقصر. لا تكون المقارنة بين الأيديولوجيا وبين الاستراتيجية محايدة في الذاكرة الكلية بأيّ حال من الأحوال. حين يتحدّث النائب عودة في مقاله عن “الثابت المطلق” إنما يفعل ذلك بكثير من المباهاة والاستنفار والحماس، وبحقّ، وحين يتحدّث عن “المرن” يصير نبر الكلام أقرب إلى التبرير والدفاع والإقناع. هذا ما قد يوحي به النصّ التحتيّ من المقال. يبدو لي أنّ النائب عودة كتب مقالته وعينه على شريحة من الناس سعى إلى إقناعها بضرورة “الشراكة اليهودية” و”النضال المشترك”. وكأنه كان يحاول أن يُطمئن بعضهم أنّ “الشراكة” العربية اليهودية هي ضمن المتغيّرات المرنة وليست من الثوابت. ولا يشرعن هذه “الشراكة” ولا يشفع لها إلا “الثقة بالانتماء القومي”. ولا ضير على مستوى المبدأ ولا اعتراض لي على النوايا… أكتب هذا المقال بوحيٍ ممّا كتبه النائب عودة رغبة في التدقيق. وأقول بإيجاز إنّ مسألة الهُويّة وتعريفها تتأسّس على اعتبارين اثنين، هما أول شروطها القبلية وأشراطها البعدية:
- الهويّة هي حالة جشتالتية كُلّانيّة لا تتجزّأ ولا تتبعّض.
- وهي تقع ضمن القناعات والخيارات والاجتهادات المكتسبة.
الهويّة جشتالت كُلّانيّ لا يتجزّأ ولا يتبعّض:
الهوية حالة جشتالتية لا قيمة لأجزائها المتفكّكة خارج إطار الكلّ. لا يجوز الحديث عن الهوية بمفاهيم الثابت والمرن كمجموعة من المركّبات المفصولة والمستقلّة قبل دخولها إلى حالة تفاعل كيميائي. وحين تصير جزءًا من كلّ لا يظلّ للتقسيم الثنائي والتفاضل أيّ مطرح. الهوية هي نتاج تفاعلات عضوية وكيميائية وفيزيائية. هل هناك عمق ثابت ومرن في مسألة الهوية وتعريفها فعلا؟ وإلى أيّ مدى قد يصل الثابت في ثباته والمرن في مرونته؟ مبدأ المشاركة، أو “الشراكة”، بالمطلق هو جزء عضوي من هويّة هويّتنا الكلية إن جاز التعبير. هويّتي هي أصلا منظومة من المشاركات المتصالحة والمتناغمة التي تؤدي عزفًا سيمفونيًا جماعيًا. عندما تخضع أيّ هويّة للتهديد المرهق والاستنزاف المستمرّ فلا بدّ أن تدخل في حالة دفاع يقظ ونشط وتنتقل من وضعية الاسترخاء والتراخي إلى حالة من التأهّب والتوثّب. ولعلّ مبدأ المشاركة بالمطلق هو أبرز مظاهر الدفاع عن انتمائنا الوطني الفلسطيني. والمشاركات عندنا متنوّعة: منها ما يكون بين الطوائف والديانات، إلى حدّ الانصهار السياسي، ومنها ما يكون بين الأحزاب (في قائمة مشتركة) إلى حدّ توحيد الصوت والنطق من حنجرة مشتركة، ومنها ما يكون بين جغرافيّات الوطن من فسوطة إلى راهط، ومنها ما يكون بين العرب واليهود، ومنها ما يكون مع عمقنا الفلسطيني والعربي، ومنها ما قد يكون مع العالم الواسع…
والمقام المشترك لكلّ هذه الأنماط من المشاركات هو المعنى الإنساني في هويّتنا. ونحن حين نرفض الإذعان للاضطهاد والتمييز والقمع والملاحقات والمصادرة فلأننا لا نرضى أن نتخلّى عن إنسانيتنا النقيّة الصافية الكريمة التي فطرنا عليها ربّنا. نرفض أن نكون مخلوقات بشرية متدنّية. نرفض بقوّة أن يستكثر علينا بعضهم حقوقنا الإنسانية الممنوحة لنا بأمر سماوي وأخلاقي. لغتي العربية مثلا هي حقّ إنساني. والدفاع عنها دفاعٌ عن انتمائي العربي، أعني عروبتي. والدفاع عن عروبتي هو دفاع عن انتمائي العروبي، أعني عروبيّتي. والدفاع عن عروبيّتي دفاعٌ عن حقّي الإنساني، والدفاع عن أيّ حقّ من حقوقي الإنسانية هو دفاع عن إنسانيتي. وهكذا لا ينعزل شيء عن شيء في الهوية.
الهويّة خيارات واجتهادات:
كيف أرتّب أبعاض هويّتي وفقًا لمعيار الأهميّة: عروبتي وعروبيتي وفلسطينيتي وإنسانيتي؟ وهل يجوز هذا التدريج والتراتب أصلا؟ إذا سألني أحدهم كيف تعرّف هويّتك وكيف ترتّب مركّباتها؟ أقول ببساطة متناهية هي أنا. أنا عربي وعروبي وفلسطيني وإنساني بنفس القدر بالضبط. وأنا أكثر من ذلك بكثير. والأهمّ من كلّ ذلك كله أنّ هذه الأبعاض لا تُقيّم ولا تُحاسب ولا تُرتّب إلا في تفاعلها الكيميائي معًا، إلا في هيكلتها الجشتالتية الكلانية. ولا قيمة لها ولا معنى خارج هذه الهيكلة. لا نستطيع أن نعرّف هويتنا بمفاهيم كمّية وأهمّية وأولويّة لأنّ هويّتنا تتهيكل في كليّة واحدة بالقناعة والخيار. لا نستطيع ولا ينبغي لنا ولا يحقّ لنا أن نفعل! وإن كانت تتحقّق بالقناعة والخيار فكلها تدخل في دائرة الفعل المكتسب. وإن كانت تُدرك بالاكتساب والسعي المحسوب فهي ليست من “الثوابت” بالمعنى الذي يطرحه النائب أيمن عودة. الثابت هو ما يُفرض عليّ بالتوارث والتراكم. هو هذا الذي يصير رغم مشيئتي جزءًا من التكوين الجيني. ولا علاقة لهويتي أو تعريفها بعلم الوراثة أو الجينات. إذا كانت هويّتي هي أنا، فأنا لستُ موروثًا ولست للتوريث. لا ثوابت لا في الهوية ولا في تعريفها. انتماؤنا العربي والعروبي ليسا من تكويننا الجيني رغم أننا نرضعه مع الحليب. لو كانت كذلك لما استطاع بعض “العرب” أن يتنازل عن عروبتهم بهذا اليسر ويتنكّروا للحليب الذي رضعوه من أثداء أمهاتهم ومرضعاتهم بهذه السهولة! أنا على يقين يا أستاذ أيمن أنك لا تراهم من العرب في شيء! أحيلك إلى مقال الأستاذ الأديب محمد نفاع، قبل مقالك في نفس الملحق، رغم أنّ الذي كتبه مزحة ثقيلة وملهاة مبكية. هؤلاء ليسوا من العروبة في شيء لأنهم تنازلوا عن عروبيّتهم. ما معنى أن يتحدّث هؤلاء العربية بالوراثة؟! وأيّ قيمة معنوية وعملية لامتدادهم التاريخي والحضاري إذا كانوا يبيعونه بثمن بخسٍ لأعداء عروبتهم؟! هؤلاء يرون في عروبتهم عبئًا ينبغي التحرّر منه. العروبة هي انتماء إلى قوم العرب. وهو انتماء موهوب بالوراثة يأتي بالسهل. والانتماء إلى العرب يحتاج إلى ترميم مستمرّ وصيانة فاعلة لا تنقطع، وهذه هي العروبيّة. وإن كانت العروبة لا تصُان بالعروبيّة فهي هباءٌ خواء لا قيمة لها ولا معنى. وإن كانت كذلك فيسهل التنازل عنها. وما يأتي بالسهل يهون فراقه. لكن ماذا تعني العروبيّة بالضبط؟ هي المفاخرة بإرث العرب وما قدّمه العرب للإنسانية جمعاء. هي الإصرار على إرث العرب، إصرار يعني السير على خطاهم والتأسيس على ما ورّثونا، هي مواصلة الاجتهاد في كلّ ميادين المعرفة كما فعل العرب بالضبط. هذه هي العروبيّة إصرار بالمشيئة على إرث العرب. وهذه كلها قرارات وقناعات وخيارات وإرادات ومشيئات. لا قيمة للعروبة إن لم ترافقها عروبيّة. إذا انتفت العروبيّة انتفت العروبة من أصلها.
الهوية تحتاج بصفة مستمرّة إلى صقل وترميم وصيانة حتى لا تركن ولا تسكن ولا تركد فتفسد. عروبتي تحتاج إلى عروبيّة نشطة واعية ومحسوبة. وفلسطينيّتي تحتاج إلى صيانة مثلها، مثلها بالضبط. صيانة مستمرّة أمام تهديدات وتحدّيات لا تكلّ ولا تملّ. والآن ما معنى فلسطينيّتي إن لم تكن في الدفاع عن تاريخي وجغرافيتي؟! وما معنى فلسطينيّتي إن لم تكن في الدفاع عن لغتي أول أشراط العروبة؟! واللغة هي أول حقوق الإنسان، كلّ إنسان أينما حلّ وارتحل. ألا ترى إذًا أنّ فلسطينيّتي لا تنفصل عن عروبتي وإنسانيّتي، وكلها تحتاج إلى صيانات مستمرّة؟ وإذا كانت عروبتي لا تنفصل عن فلسطينيّتي وهاتان لا تنفصلان عن إنسانيّتي فكيف لا تكون “الشراكة” العربية اليهودية، كأيّ “شراكة” أخرى، من “الثوابت” المكتسبة بالقرار والخيار؟! كيف لا تكون جزءًا كيميائيًا وفيزيائيًا من هويّتي التي أرسّمها بمشيئتي وأحرص على صيانتها باستمرار؟! هذا إذا كنا نقرّ بأنّ أول شروط الإنسانية وأشراطها هي المشاركة الفاعلة مع الآخر الإنسان، هي “شراكة” حواريّة. وأنا مخلوق حواريّ.
آخر كلمة:
التفكير الصهيوني نفسه لا يفرّق بين انتمائنا القومي والوطني في التعامل معنا. فكيف نفرّق نحن؟! حين تعاملنا المؤسّسة الصهيونية كمواطنين من الدرجة الثانية والثالثة، لانتمائنا الوطني الفلسطيني، فإنها تفعل ذلك بأدوات قومية عربية. وعلى هذا الأساس مثلا سنّت قانون القومية الذي تقف لغتنا العربية في صميمه. وليست لهجاتنا الفلسطينية هي ما يزعجها في تفرّقها!
يكفي أن ننظر حولنا لندرك أنّ مأساة الأزمة في هويّة العالم العربي مردودة بالضرورة إلى غياب ذينك الشرطين. والمفارقة العجيبة الغريبة أنّ غيابهما يقع في دائرة القناعات والخيارات المتاحة أمام أصحاب القرار هناك. أنت ترى يا أستاذ أيمن أنّ الحكام العرب يسعون بالقول والفعل، يسعون جاهدين للفصل بين القومي والوطني. يرفعون من شأن الوطني لمحاربة القومي. وحتى “يدافعوا” عن وطنيّاتهم فلا بدّ أن يحاربوا قوميّتهم. أو بتعبير أدقّ هم يحاربون قوميّتهم بحجّة الدفاع عن أوطانهم… ما أقسى ما أقول وما أبشعه!!!