سؤال راود ذهني فيما أنا أتشاور وظلّي حول كيفيّة الوصول إلى تلك التلّة، وقد انتصبت في وسطها شجرة فارعة ستكفي مستراحًا لكلينا. التواءات الدرب تجعل منّا توم وجيري؛ مطاردة متواصلة! وتسلية فُرضت علينا، وكانت أجدى لكلينا من الثرثرة مع الساعة، وهذه ليس لديها ما تقول غير: تِك تَك… تِك تَك…!
مقعد صخريّ مظلّل بشجرة سنديان عملاقة عمّر فيها الزمن للطير مستعمرات، فأقامت احتفالاتها مداورة بين تغاريد صباحيّة وتراويح مسائيّة. هؤلاء السكان لا يكفّون عن مغازلة النسائم العابرة فوق الراحة الخضراء… ولا يملّون مشهد الفراش يتحسّس خدود أطفال الزهور… نام ظلّي وغطّ في سبات، بينما أنا مسنودة بجذع متين مضرِبًا لنسيم عليل أخذ يتحرّش بي؛ يلاطف شعري ويدغدغ أطرافي، فأميل للعشب ألاعبه، بينما الزهر غارق في أريجه، منسجم برسم لوحة فنيّة تتمتّع بحواسّ بشريّة! فأنخرط، حتى مسّني جنون عشق هؤلاء الخرسان البارعين! لكنّ قلبي يدقّ دقّات عاقل متلهّف متشوّق لفهم شيء من أساليب السحر الذي يمارسونه على الشعراء…! عيني لا تغمض، وقد حملتني الهوى عاليًا عاليًا، وألصقتني بالسماء! بين النشوة والهذيان أتساءل: ما هو بعد السماء عن الأرض يا ترى؟ كم من الوقت سأحتاج للعودة لظلّي، فيما لو هجرتُه؟
يا لي من هذه اللوحة القادمة من بعيد! يا لي من سرعتها، حجمها وبياضها المثير! لأراها تداعبني؛ تقترب منّي ثمّ تتراجع، تجدني فأضيّعها…! وما إن بلغت سقف السماء فوقي حتى استقرّت لوحة متعدّدة الأبعاد، منها البقع المتلبّدة المتكاثفة… ومنها المنفلشة في انتشار عشوائيّ… ومنها ما خالط زرقة السماء ببياض ريشيّ شفّاف. وإذا السماء الزرقاء منمّشة ببقعٍ زرقاويّة صافية نقيّة يعكّرها بعض البياض! اندهشت؛ لم يكن ليخطر لي أنّ البياض قد يعكّر!!
ليس لي أن أشغل بالي بما يدور بين السماء والسحُب، فأُفسد عليّ متعتي. سأُخرج من جعبتي قصيدة أُلقيها على مسمع الغروب. أو أقصف عودًا أُدوّن به على التراب خاطرة. فينهض الظلّ مع الغروب ماردًا، يشغّل مذياع الهاتف المحمول، وينصحني بتناول شطيرتي على وقع معزوفة بعود فريد الأطرش! ما أحسن هذه اللفتة منه! فأنا أشعر بجوع شديد، والمتوفّر في حقيبتي يفيض عن حاجتي، عدا ما حشرتُه فيها من مكمّلات، حتى شال لردّ لسعة البرد، وقبّعة لردّ لذعة الحرّ. فلمَ الحيرة وأنا أملك كلّ شيء يلزمني؟!
الظلام ينصب خيمته، فيربك سربًا من الطيور متّجهًا غربًا، ويعيق انسيابه، والشمس تجرّ ذيولها مستبسلة، وتزحف هابطة في مشهد يصوّر حالة من الهروب الجماعيّ الكلّ فيها مطارِد مطارَد! فيما ظلّ الشجرة يحبو متماوتًا، ليبيت ليله في أكناف الورود… أمّا ظلّي فالتزم مكانه، ينتظر منّي إشارة. لا يبدو أنّ الظلام يقلقه، بينما يهرب الطير من عساكر العتم، وهو رمز الحريّة والسلام!! فأستغرب؛ أفلا يملك ملك الفضاء هذا سبل صناعة النور؟ أمّا أنا فيمكنني! لأنّي إنسان، والإنسان مصنوع من نور… فلمَ يخاف الظلامَ ظلّي!؟
كم سيكون مثيرًا للعجب لو طارت هذه العصافير الآن بالاتجاه المعاكس وعادت من حيث أتت! حينها سأُشاهد عرضًا عسكريًّا لفرقة من الجيش تسير بالمقلوب! وأسراب السحُب فوقي تتبادل الأجنحة قبل أن تتبعثر من جديد، وتعود أدراجها إلى وطن المنشأ! فلو حصل شيء من هذا لعادت الزرقة والصفاء للسماء. لكنّ الزمن لا يمشي للوراء، إلّا على متن قاطرة الخيال. فلمَ لا أركبها وأطوف بحثًا عمّا يعود بالوقت إلى حيث رسمت الزرقة حدود السماء؟
يدي العمياء تتحسّس موضع الحقيبة بجواري، ولم تعثر عليها! قصورها يستفزّني، فأنهض جالسة، أقبض عليها، أفتحها لأفتّش فيها لعلّي أجد في جوفها رمقًا حيًّا أُبادله الخطاب… كلّ ما فيها جامد! زجاجة الماء، بقيّة الشطيرة… الشال والقبّعة والهاتف النقّال… الكتاب ودفتر التدوين والقلم، كلّها جمادات ثابتة لا تتحرّك… لا شيء فيها يتغيّر ما لم أغيّره أنا بيدي! دقّقت النظر كثيرًا وأرهفت سمعي، فسمعت “تيك تاك… تيك تاك”. إنّها الساعة! أجل إنّ عقاربها تدور بدون أيّ تأثير خارجي، وبدون أدنى جهد أو عمل أقوم به! إنّها إلى الأمام فحسب تتحرّك، ولا سلطة لي عليها… فهي المتحرّك الذي يحرّك العالم كلّه بتكتكته الرتيبة!!
“لماذا تتحرّك هذه اللعينة باستمرار؟ لماذا لا تتوقّف لتستريح قليلًا؟! لماذا لا تعود إلى الوراء خطوة إلى حيث كان ظلّ الظهيرة يلهو مع قدميّ؟ صوتها صار يزعجني: “تيك تاك… تيك تاك” إلى الأبد! تكتكتها تدفعني للجنون! إن لم تتوقّف من تلقائها، سأوقفها أنا بيدي!” أمسكتها، أدرت ظهرها بالمقلوب وفتحت غطاءها، ثمّ أخرجت تلك البطّارية، اقلبها النابض. وفجأة توقّفت عقاربها عن الدوران… وأخيرًا خرست، لأرتاح من لجاجتها.
سكون وهدوء تامّان يسيطران على كلّ ما حولي! الحركة انعدمت كليًّا؛ فلا غصن في الشجرة أو ورقة تتمايل، ولا عشبة تراقص نسمة تغريها! القبّة لوحة تمحوها غيوم رسمتها وسحُب نمنمتها… أمّا السرب الحيّ فقد علق في كبد السماء! توقّف هناك فاتحًا أجنحته على هواها، فاستحال جمادًا عيونه بحبال الشمس معلّقة! لقد توقّف كلّ شيء عن الحركة! فيما أنا متمكّنة من الحركة والتفكير، والتنزّه بين الأرض والسماء! فتأكّد لي أنّني لا أزال إنسانًا! ولولا الجماد لما تعرّفتُ عليّ!!