عندما كنا نذهب إلى المدرسة في قريتنا، كنا نمرّ من أمام دار تقع على طرف الشارع. في تلك الدار تعيش عائلة من زوجين مسنَّين، كانا دائمًا يجلسان في ساحة البيت، فوق حصيرة وفِراشَين.
المرأة العجوز كانت تجلس أمام كانون النّار، تجهّز دلّة القهوة، وبجانبها جمرات من الفحم تتوهج بهدوء. كانت نحيفة البنية، أسنانها “مقلّعة”، لكن ضحكتها لا تفارق وجهها، تضفي على صباحنا شيئا من الأُلفة والفرح. تلبس حطّة بيضاء، وتحتها تظهر جدائل من خيوط سوداء مربوطة بخيوط قديمة، وفي نهاية أحد الجدائل مفتاح.. لا نعرف سرّه!
أما زوجها فكان يجلس على منتصف الفِراش، يرتدي قُنبازًا وعِقالا فوق الحطّة.
تارةً نراه يلفّ سجائر دخّان عربي، وتارةً يدقّ بالمهباش، فتملأ رنّته الهادئة أجواء الصباح وكأنّها نداء دافئ من زمن بعيد لا يُنسى. كان العجوز يدق المهباش بإيقاع يشبه دقات القلب، بينما العجوز تغلي دلـّة القهوة على كانون النار، وتتصاعد رائحة البن المحمّص تعبق الشارع وتملأ صدورنا بشيء من البهجة والحنين.
كنّا نحن البنات العائدات من المدرسة نمرّ من هناك، وما أن نشمّ تلك الرّائحة الزكيّة حتّى نميل إلى ساحة دار العجوز، نطلب الماء، لكن الحقيقة أننا نطلب لحظة سحر … نسرقها من ذلك المشهد، كنّا نراها بأعين مبهورة، وهي تدير القهوة في مراحلها، من التحميص على نار هادئة، ثم غليها في الدلّة النحاسيّة.
واليوم سأروي لكم سر تلك المراحل خطوة بخطوة.. القهوة العربية الأصيلة..
قهوتنا التي لا تخلو من أي بيت عربي نعتز بنكهتها ومذاقها الرائع. من عاداتنا استقبال الضيف بمشروب القهوة وفي كل المناسبات، فرحًا كانت أم حزنًا، تدل على الكرم والجود. وتُحَضَّر للضيوف الكبار، ولها قيمتها عند العرب ووجهاء الشخصيات. وعُرفت في القرن العاشر الهجري من خلال الحجاج.
يحضرونها معهم من بلاد الحجاز. وموطنها الأصلي جنوب غرب الحبشة (أثيوبيا) يشترونها بذورًا، ويقومون بتحميصها.
إنّ آلة التحميص مصنوعة من حديد على شكل دولاب وله يد طويلة، وفتحات صغيرة لرؤية الحَبّ آن نضوجه، والدولاب يدور على نار هادئة، وبعد التحميص تأتي عمليّة الطحن.. هنا يأتي دور المهباش.. وهي آلة مصنوعة من الخشب تُستخدم لسحق حبوب القهوة، ومنها عبق القهوة يملأ المكان له نكهة خاصّة لذيذة، وإضافة الهال (الهيل) يزيد من عبقها.
القهوة والعادات في البادية.. طريقة صب القهوة عند البدو:
الفنجان الأول.. فنجان الضيف.. الفنجان الثاني فنجان الكيف.. الفنجان الثالث فنجان السيف.. ويصبح لزاما على شاربها أن يدافع عن القبيلة اذا تعرضت لأي اعتداء، ويصبح واحدا منهم. وعند طلب العروس يهزّون الفنجان ولا يشربون منه حتى ينالوا مطلبهم.
والدّق على المهباش يُستخدم كآلة موسيقية رائعة والعزف عليها تفوّق على عزف العود والقانون بسبب قدراتهم على تحريك العواطف والأحاسيس، ان كانت حزنًا أو فرحًا، أو حماسيّة للرقص، وسماعه يبعث على الفرح ويشدّك اليه كأنّه يدعوك لمسرح المهباش، وتغنّى به المغنّون والشعراء. وقد غنّت المغنّية دلال الشمالي أغنية: دق المهباش يا حميد ~ نار الدلال شعَّالة رمز القهوة والمهباش.
يا ضيوفنا حيّاكم الله القهوة على النار والكرم حاضر.