لذكرى الأديب والروائي الانسان احمد أبو سليم : البحث عن الله في رواية “يس” – مصطفى عبد الفتاح  

بدأت خيوط النَّكبة الفلسطينية تتَّضح وترتسِم ملامحها واضحة أمام أبناء الشَّعب الفلسطيني في مذبحة دير ياسين، القرية الفلسطينية الهادئة والآمنة الَّتي لم ينج منها أحد، المذبحة الّتي ارتكبتها العصابات الصّهيونية وانتشر خبرها كانتشار النَّار في الهشيم في مؤامرة عربيَّة رجعية وإمبريالية عالمية مدبَّرة لإرهاب الشَّعب الفلسطيني وتسهيل طردهم بعد أن يقف أمام خيارين إمَّا الموت المحقق أو الرَّحيل المؤكد إلى المجهول.

ها هو التّاريخ يحاول أن يعيد نفسه في محاولة لرسم خيوط نكبة ثانية تُنهي النّضال الفلسطيني في أبشع صورة عرفها التاريخ الحديث بتدمير الحجر والبشر في قطاع غزة أمام صمود أسطوري ونِضال عنيد يفوق حدَّ الوصف من أجل البقاء ورسم صورة انتصار يخلّد نضال الشّعب الفلسطيني ويرسم طريق حريته بدمه ودموعه. فكان من الطَّبيعي أن أبدأ كتابي هذا من رواية القاص والروائي الفلسطيني احمد أبو سليم “يس”.

الروائي والشّاعر الفلسطيني الأردني أحمد أبو سليم أنهى دراسته الجامعيّة في الاتحاد السوفيتي حيث حصل على بكالوريوس في الهندسة الميكانيكيَّة من جامعة الصّداقة بين الشّعوب في موسكو وهو عضو في رابطة الكتّاب الأردنيين والاتحاد العام للأدباء والكتَّاب العرب، له العديد من الإصدارات والكتب الأدبيّة في مجال الرّواية والشّعر وغيرها، فقد استطاع من خلال روايته هذه أن يطرح بقوة اكثر الأسئلة الفلسفيّة والوجوديّة المُلحة على كل من عانى مرارة الاقتلاع والتَّهجير ووضع العالم أمام الأسئلة الأكثر حيرة بأسلوب أدبي رائع يجعل المُتلقي يقرأ الرواية بكل حواسه ويعيش أحداثها بكلّ تفاصيلها الدّقيقة والتَّماهي مع أحداثها في خيوط رسمها أبو سليم بدقة متناهية.

كلّ قرية أو بلدة فلسطينية دُمِّرت هُجّر وشُرّد وقُتل أهلها بحاجة لأن تُكتب روايتها ويُكتب تاريخها وتُوثَّق أحداثها كي لا يندمِل الجُرح الغائر تحت غُبار السّنين، تخيّلوا معي كم قرية دُمّرت وهُجّر أهلها وكم من الرّوايات ستُكتب كي نكتب تاريخنا الممهور بدماء الشُّهداء وآلام ومُعاناة النّازحين وصبر الباقين على تُراب الوطن في انتظار الفجر الآتي.

هذا ما جال في ذهني بعد أن أهداني صديق لي نسخة من رواية “يس” للشّاعر والرُوائي الفلسطيني احمد أبو سليم صادرة عن الاتحاد العام للكتاب والادباء الفلسطينيين رام الله 2021، تقع الرّواية في 244 صفحة، وطُلِب منّي أن أتحدّث عن الرّواية في لقاء مُثير على أرض دير ياسين وقد جاءَت الفكرة بعد أن كان لنا لقاء سابق تحدَّثنا فيه عَن روايتي “عودة ستي مدللة” الصفوريّة مع بعض من بقي من أهالي صفورية على أرضها فكان اللقاء مثيرًا جدًا استحضرنا فيه الماضي وأعدنا حجارة التّاريخ إلى سابق عهدها ورسمنا خيوط المستقبل بأمل العودة إلى أرض صفورية، قبلت الدعوة دون تردّد.

تحيَّة إلى كلّ مَن شارك في هذا اللّقاء المثير بكلّ تفاصيله القديمة والحديثة، تحيّة إلى الروائي المثقف العميق الرّائع احمد أبو سليم الَّذي قدَّم لنا عملًا روائيًا يفوق وصفه الخيال وهو بحاجة إلى ساعات وربَّما أيَّام لسبر أغوار هذه الرواية وتحليل تفاصيلها والغوص في أعماق الزّمان والمكان اللذين تجمّدا عند حروف اسمها.

تحيّة إلى مَن قاد هذا البرنامج الوطني الإنساني الرّاقي ليُعيدنا ولو للحظات لنعيش ولو ثانيةً من حياة المكان الّذي تجمَّد الزَّمان عند حدوده وبقي يتيمًا ينتظر الاهل ليوقظوه من سُباته، التَّحية للصَّديق العزيز المحامي حسن عبّادي الّذي لا يكل ولا يمِل في مرافقة الأبطال القابعين خلف قضبان القهر في انتظار الفجر الآتي.

رواية “يس” هي الرّواية الخامسة للروائي أحمد أبو سليم صَدَرت عَن الإتحاد العام للكتَّاب والأدباء الفلسطينيين في رام الله. وهي تحكي قصَّة مجزرة دير ياسين عام النَّكبة بكلّ تفاصيلها الدَّقيقة على لسان بطل القصة “يس” الّذي وُلد في نفس تاريخ النَّكبة أو قبل يوم المجزرة بأيَّام وكان هو النَّاجي الوَحيد مِن مجموعة مِن الأطفال الذين تمَّ قتلهم بدم بارد يوم المجزرة ليكتشف الأطباء لاحقًا وهو في السّابعة من عمره أنَّه مُصاب بورم سرطاني في الدّماغ ممّا يجعله يرى الأشياء بشكلٍ مقلوب فيتشكَّل لديه وعي مختلف عن البشر، ممَّا يجعله يُفلسف المَجزرة والواقع بطريقة مُختلفة، قد يكون أبو سليم قصد به الفلسطيني الناجي من براثن النكبة والباقي على أرض الوطن رغم كل المآسي وما إصابته بالسرطان إلّا صورة التشويه الصهيوني لهذه الشخصيَّة الَّتي حافظت على بقاءها وهذه قمّة الصُّمود ورمز التمسّك بالوطن.  

هذا هو لقاؤنا الثَّاني على أرض قُرانا الَّتي اقتلعت وشرِّدت وذُبحت في ليلة توقف فيها الزَّمن عَن الدَّوران، وصمت العالم في كلّ مكان، كان لقاؤنا الأوَّل مع روايتي “عودة ستي مدللة ” على أرض صفورية المُهجرة.

هنا في دير ياسين اليوم توقَّفتُ طويلًا أمام قدسيّة المكان وهاجت بي الذّكريات وتوقفت عند تجمّع أهالي صفورية، في لقائنا الاول تحت شجرة توت عملاقة صمدت في وجه الطّغاة وراح الاهل يتذكَّرون أيام ستي مدللة، من هي؟، كم عاشت “ستي مدللة”  في صفورية؟

مسحتُ دمعة حاوَلَت فضح مشاعري وأنا أسأل نفسي: هل بقي أحد من دير ياسين ليسأل عن “يس” علّه يحرّك الزّمان ولو قليلًا عَن المجزرة أو يغيّر في ملامح المكان الَّذي تجمَّد مَع الزمان؟ وجاءني صوت أبو سليم يسأل نفس السؤال: ” تُرى هل بوسع البشر إعادة الزَّمن إلى الخلف؟ ولو عاد الزَّمن إلى السَّابع او الثَّامن من نيسان عام 1948 هل سيصبح بوسعنا آنذاك أن نتجنَّب المجزرة؟  ص 131.

قد يكون الجواب مرسومًا على الحائط في أحداث غزة الحاليّة، 2024 أمام صمود اسطوري للفلسطيني مقابل صمت وتخاذُل العالم العربي المريب وعجز العالم المشين في إخماد آلة الدَّمار الرَّهيبة.

حدث رهيب، مشاعر جيَّاشة تحملها في صدرك، صراع مرير يجتاحُك، ألم عميق، هواجس مخيفة، ذكريات تحاول أن تطردها ولكنَّها تُلاحقك أينما ذهبت، لعلّ احمد أبو سليم دوَّنها كي يريح نفسه ويريح ذاكرة القارئ والتَّاريخ من عناء ومن ثقل الحمل الذي يربض على الصَّدر لا يريد أن يُفارق.

دير ياسين بين الذَّاكرة والنّسيان، دير ياسين وكتابة التاريخ من جديد، دير ياسين بين الضّحية والجلّاد، دير ياسين بين الصّورة والواقع. دير ياسين المكان والزَّمان، دير ياسين الحدث.” ما الفرق بين القرية والمجزرة؟ ما الفرق؟ ولماذا كلَّما ذُكرت دير ياسين، تُذكِّرنا بالمجزرة فقط، ولا نتذكّر شيئًا آخر؟ ص 13.  

قراءة في العنوان:

يُستشف مِن عتبة النَّص الأولى أنّ الروائي أحمد أبو سليم قد وضعنا وجهًا لوجه أمام حقيقتين، الحقيقة الأولى، أنَّه اختار اسم سورة قرآنيه دالَّة على حالة دينية في الرّواية والَّا لأسماها ياسين، أي اختار اسم الحروف وليس الحروف وقد استعمل نفس النَّص القرآني كدالّ على الفكر الدّيني دون أن يغوص في التَّفاصيل ومِن هُنا نلحظ أهداف الروائي فهو يجمع تاريخ ثلاثة وسبعين عامًا بكلمة واحدة ذات دلالة دينية، وباسم واحد دال على الحدث دون اعتبار للزَّمان والمكان. فقد استطاع ان يتجاوز الزمان والمكان ويضعنا وجهًا لوجه أمام المجزرة لنعيشها بأدق تفاصيلها عابرةً لزمانها ومكانها، رواية لا تعتمد على زمان أو مكان، هي فقط تعتمد على اسمها ياء سين.  

الشّعب الفلسطيني شعب مُتدين مُؤمن بقضاء الله وقدره، لا يحيد عن ايمانه تحت أيَّة ظروف، ولنا في غزّة مثال للفلسطيني الذي يعيش تحت القصف اليومي والذّبح الجماعي وهو يدعو الله أن يجنّبه المأساة ولكن الشّعب في حالة استثنائية، في وضع إبادة جماعية يُذبح فيها الطّفل قبل الشّاب والمرأة قبل الرّجل، تُغتصب النّساء تُستَباح الحُرمات، تُدمَّر البيوت، وهُنا مِن حق الانسان أن يبحث عن المُنقذ وعن المُخلّص في لحظات ضعفه ومن حقه أن يسأل عن الله عن وقوفه إلى جانبه، إلى جانب الضعيف المُحتاج في لحظة انكساره، خاصة إذا كان متدينًا ويقوم بكلّ واجباته الدّينية،” أين الله؟ هل يرى ما أراه؟ كان لسانه لا يزال في فمه، لم يُقطع بعد. ” ص 191.

وفي تسلسل الاحداث المُتسارعة في الرّواية يجعل احمد أبو سليم من شخصياته دائمة البحث عَن الله ودعمه لهم ووقوفه إلى جانب المظلوم. انتاب النَّاس شعور بالعجز بأنَّ الله تخلّى عنهم، تركهم لوحدهم يواجهون المَوت في أبشع صوره، ” لم ينفع البكاء، ولا العويل، ولا النَّحيب، ولا التَّوسّل، ولا الرّجاء، ولا التّضرّع، ولا الدّعاء، ولا سورة يس، ولا وعد الله أن يغشاهم فلا يبصرون “وجعلنا مِن بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون” ص 27، وتتكرر نفس الآية القرآنية عدة مرّات وكأنه يتساءل لماذا لم يف الله بوعده لنا وينقذنا؟  “ستقول في العتمة اين كان الله؟ وستعود بعد لأيٍ لتستغفر ربَّها وتتوب وتقول يا رب أين كنت حين جرى ما جرى عند السور، أنا لست كافرة، أنا أصلّي كلّ يوم خمس مرّات، وأصلي صلاة قيام الليل، وأصلي الضُّحى.. لماذا لم تكن هناك عند السور؟   ويستطرد في مكان آخر على لسان خاله: “رُبّما كان على الله أن يتدخّل بنفسه يومذاك كي يوقف المجزرة، أن يصنع مُعجزة ما، كان عليه أن يتدخّل بأيَّة طريقة، وبايّ شكل…” كتب خالي ص 182.

ويذهب الكاتب إلى أبعد مِن ذلك فقد وُضع الفلسطيني أمام تحدٍ أكبر حيث أراد القاتل السّيطرة على إيمان الضّحيَّة مِن خلال الشَّك في قدرته على المساعدة وبذلك يجرِّده مِن إيمانه ويضعه القاتل في تحدّ صارخ مع الله الذي يؤمن به “دع الله ينقذك مِن الموت إذن ما دام هذا بيته… قال له أحد الجنود وهو يطلق النَّار عليه” ص 14. وفي تحد آخر لإيمان الفلسطيني بربه ومن باب الصّراع على الوجود بما في ذلك الوعد الإلهي أنَّ الوطن مُلكهم يحاولون إقناع الفلسطيني أنَّ الله ايضًا ملكهم وحدهم فيقول: ” ما داموا يؤمنون بالله فعلينا ان نأتيهم من هذا الباب نقنعهم أنَّ الله معنا وليس معهم … ذلك ما كنَّا نفعله، ما دام الأمر صراعًا على الله فنحن أحق به منهم”. ص 202.

لكنَّ الفلسطيني في لحظات الصَّحوة من هول الفاجعة، لحظة النهوض كالمارد مِن تحت الرَّماد، يطرح الأمور بصورة مغايرة فيقول ” ما علاقة الله بالأمر؟ ولماذا علينا ان نحمّله مسؤوليّة ضعفنا وخذلاننا لأنفسنا؟ لماذا يلجأ المظلوم الضَّعيف بالذَّات إلى الله لينصره؟ لماذا يكون هو بالذَّات مَن يَنشد العدالة على هذه الأرض؟ أليست تلك طريقة لتوكيل الآخرين بما عليه أن يفعله بذاته؟” ص 182. الا يجب على الفلسطيني أن يسلك طريقًا آخر مِن أجل التَّحرر، وبناء الدّولة؟، يقول بألم على لسان شخصيَّاته: ” حدّثتهم عن كرامات جدي فحدّثوني عن كرامات نيوتن واينشتاين وكرامات لينين وماركس وانجلز وكاسترو وسلفادور اللندي. حدثتهم عن فتحية فحدّثوني عن مدام بوفاري وروزا لوكسمبورغ. ص 166.

ويخلص احمد أبو سليم إلى نتيجة أنَّ فلسطين هي المنقذ للبشرية هي المسيح الجديد الَّذي سيُخلّص العالم بصلبه من وحوش العصر: ” فلسطين هي المسيح الجديد الَّذي رُفع على الصَّليب في القرن العشرين” ص 187.

والحقيقة الثّانية هي الحَدث أيّ المجزرة بكُلّ تفاصيلها الدَّقيقة وبكل أبعادها السياسية والاجتماعية والنّفسية، الحدث بعيدًا عن الزّمان والمكان، هكذا باسمها المُختصر مأخوذ مِن النَّص الديني “يس”، استطاع أن يشُدَّ القارئ فيجمع الزّمان والمكان والحدث والحالة التاريخية في حرفين متلازمين وإلَّا لأسماها دير ياسين أو مجزرة دير ياسين.

كيف يمكن لاسم المكان أن يتحوَّل إلى حدث!؟ كيف يُمكن للمكان والزَّمان أن يتوقفا نهائيًا عن الحركة عَن الدَّوران، ليس لهم قبل ولا بعد؟، فقط الانسان في مواجهة الحدث في تلك اللحظة التي توقَّفت، كل ما قبلها وما بعدها مجرد ذكريات، انتهت توقَّفت عند حدود دير ياسين. بل أكثر من ذلك اذ لم تستطع الذّكريات ولا حتى الصّور الفوتوغرافية أن توثّق حقيقة الحدَث “لم تعجبني الصّور… شعرت في لحظة ما أنَّها تُزيّف الواقع أو أنَّها جزء بسيط ممّا جرى، شعرت بالغضب، المجزرة حين تقوم في رأسي تُصبح بحاجة إلى ألف ألف مُصوّر كي يُحيط بتفاصيلها، وملايين الصّور ليست المُتحركة فحسب وإنَّما الصور الَّتي تعكس أعماق البشر، تصور ما يجري هناك في دواخل البشر، ما يعتمل في كل لحظة في العُمق، تصوَّر الدموع التي تتدفَّق شلالا في لحظة ما في وجدان إنسان في الداخل” ص 179 – 180.    

يكتب لنا رواية، تختصر الرّوايات، وتُلغي ما قبلها أو تحتويه، ليقول لنا مِن هُنا بدأت الحكاية مِن هُنا بدأ الإنفجار، من هذا المكان، المكان الذي ارتبط نهائيًا بالزّمان، وكلاهما ارتبط نهائيًا باسم المكان دير ياسين، هي البداية هي العبرة هي الدرس هي الجرح المفتوح دائمًا ولا يريد أن يندمل لانَّ الدّماء التي أريقت هنا ما زالت تصرخ ما زالت تنزف، ما زالت رائحة الموت ورائحة الشواء ورائحة الفُقد تنتشر في جميع أنحاء الوطن، والوطن مازال يصرخ وابو سليم يصرخ معه في روايته لم نتعلم الدرس، لم ينته الصّراع، مازال للحياة بقيَّة، الفلسطيني سيخرج من تحت الرّماد كالمارد وسينتَصر حتمًا.

كلَّ هذه السنين الطويلة مرّت وما زالت نفس المشاعر المخلوطة بالرّهبة والخوف تُلاحق الفلسطيني، أسأل نفسي أحيانًا، ماذا يقول الجندي الَّذي مرّ مِن هُنا بعد المجزرة، كيف اصطدم بأرواح الشّهداء الَّذين سقطوا ماذا قال لهم!؟، وكيف خاطبه الضّمير؟ ويتساءل الكاتب في روايته بنفس المعنى عن القاتل فيقول” هل تُشوّه المجازر البشر من الداخل؟ لا أعنى الضّحايا فقط، بل القتلة أيضًا، كيف بوسع القاتل بعد المجزرة أن يأكل مثل البشر ويعيش، وينام ملء عينيه؟ هل يرى وجوه الضّحايا تُلاحقه في المنام؟ هل يتفجّع عليها؟ هل تُقلقه؟ ما هو شكل القاتل مِن الداخل؟ تتساءل حنا نووسين” ص 184.

رغم كل ما حدث، فإنَّ أبا سليم في رائعته، استطاع أن يُعيدنا إلى الزَّمن الّذي توقف، وأن يعبر بنا أربعةً وسبعين عامًا دون أن نشعر، دون أن نلحظ، وفوق هذا، وهنا تكمن روعته، حيث استطاع أن ينقُلنا مِن البُكاء والحزن والذِّكرى إلى الصمود والتّصدي والوقوف مِن جديد، فقط الفلسطيني دائمًا يمكنه أن يكون كالعنقاء يخرج من تحت الرّماد اسمعه يقول لنا:” ربما آن الأوان كي نخرج مِن صورة المعركة إلى المعركة، مِن صورة الوطن إلى الوطن، من رواية الرّواية إلى الرواية، مِن صورة البيت ومفتاحه إلى البيت” ص 232. ” وهو بهذا يعرض لنا نظرية افلاطون التي تميز بين الصورة والأصل ويدعونا إلى التّمسك بالأصل ومُواصلة النّضال.

انه يحثنا على رفض أن نكون ضحية لانَّ الضّحية هي صورة وشكل مِن أشكال الضّعف، وسبب نكبتنا هو ضعفنا فيقول: ” في العالم لا مكان للضُعفاء ونحن كنا ضُعفاء” ص 80، بل ويتهم العالم بخذلان الشعب الفلسطيني، لانَّه قبل أن يكون ضحية لذلك يجب قلب المُعادلة والخروج إلى النّضال: ” حين أشفق علينا العالم عاملنا كضحايا وأعطانا طحينًا وخيامًا، الأوطان تُؤخذ ولا تُعطى” ص 232

وعليه علينا أن نقاتل دون هوادة فيقول: ” القوي لا يُمكن أن يكون ضحيّة، وإن كان في لحظة ما كذلك ينقلب فورًا، يُقاتل، ينتزع حقَّه، أرأيت ما فعله رفاقنا السوفييت يوم غزتهم النّازية واحتلَّت أرضهم؟ قاتلوا لم يتقمّصوا دور الضّحيّة، هل سمعت عن انجليزي ضحيّة؟ أو فرنسي ضحيّة؟” ص 200.

وهو يرى أنَّ العالم يجب أن يقف إلى جانب الحق والعدل ويتبرأ مِن الظّلم الَّذي لحق بالشعب يقول: “ربَّما ستُصبح دير ياسين علامة فارقة في التّاريخ إن قُدّر للبشرية أن تغتسل جيدًا، وتتطهر مِن دماء الضّحية، آنذاك، على اليهودي إمَّا أن يتبرأ ممَّا جرى في دير ياسين ويدينه، أو يُصبح معاديًا للإنسانية ” ص 187.

ويتساءل كيف يُمكن لهم أن يبنوا دولة لهم على أنقاض شعب،” كيف يمكن بناء دولة على جبل مِن العِظام؟ على الجثث، وبحر الدّماء، على التَّطهير العرقي، وطرد البشر من بيوتهم، وإبادتهم، أو تحويلهم إلى لاجئين والعالم اللا متحضر يرفع اياديه في أروقة الأمم المتحدة موافقا على إقامة “دولة إسرائيل” ص 188  

ويُنهي أبو سليم روايته، التي لم يترك فيها مجالًا لليأس عند القارئ، تركه وهو يدله على الطّريق الوحيد الّذي عليه أن يسلكه” ورحت أغذ السَّير عائدًا إلى فلسطين. فهل هناك أجمل من هكذا نهاية. تحية لأحمد أبو سليم على رائعته، ، لن نكون ضحايا بعد اليوم. ” أليس علينا أن نُبقي كتاب دير ياسين مفتوحًا لنبدأ دائمًا من هناك؟” ص 213.

.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*