حوار مع الشاعر المرحوم جريس دبيّات كان قد نشر في كتاب “حوارات في الفكر والأدب” – الناقد رياض كامل

  • الشاعر جريس دبيات شاعر ومرب، حبذا لو حدثتنا عن هذه الرحلة الطويلة، وعن أهم المحطات في مسيرة العطاء، ومسيرة الإبداع.

اسمح لي أوّلا أن أبدأ بهذه الحكاية، في أواخر الألف الماضي، عندما كنتَ مديرا لمدرسة راهبات مار يوسف الثانوية في الناصرة، كان ابني “حكم” طالبا لديك في اللغة العربية، وقد قمتَ مع مدرستك باستضافة مؤتمر الإبداع الأول الذي شارك فيه أدباء كثيرون، وأحدث ردّ فعل رائعا على الساحة الثقافيّة. يومها طلبتَ من ابني حكم أن يكتب لوحة الاستقبال، بخطّه الجميل، عن علاقة الإبداع بالفن عموما، وبالشعر خصوصا وعندما سألك حكم عن مضمون اللوحة قلت له: هذا على أبيك فكانت هذه الأبيات:

أيّ فن إن لم يكن ابداعا               فقدَ الحسّ والجمال فضاعا

   والكلام المُعاد سوق ابتذال             يجعل الذات سلعة ومشاعا

 فارس الحرف من يرود المعاني         يجتنيها بكرا فتحلى تباعا

وبعد الجلسة الأولى من المؤتمر بادرني المرحوم الأستاذ فاروق مواسي بقوله: أنا متأكّد أنّ هذه الأبيات لك، لكن من أين هذا الخط الجميل؟ قلت: من ابني حكم. فلم يستغرب الأمر وبقي يذكّرني بهذه الأبيات حتى آخر أيامه، رحمه الله!

أعشق اللغة العربيّة والشعر، وأحفظ منه الكثير منذ الصغر، وفي صباي بدأت بنظمه، وكانت أولى قصائدي في الترحيب بقدوم ابن أختي، أيّام كنت أدرّس لامتحانات البجروت سنة 1967 وبعدها التحقت بجامعة حيفا، ودرست اللغة العربيّة وتاريخ الإسلام وأنهيت الدراسة سنة 1970.

بدأت بالتعليم فورا في مدرسة طرعان الثانويّة، ثمّ كفركنّا الثانويّة، ثمّ اللاتين الثانويّة في الرينة إلى أن خرجت الى التقاعد سنة 2006.

علّمت اللغة العربيّة بكلّ ما تتطلّبه هذه المهنة من المسؤوليّة، فتعليم لغة الأم رسالة تربويّة ووطنيّة معا، أحببت هذه الصفة، “معلّم”، من كلّ قلبي، الأمر الذي جعلني أكرّس كلّ جهودي لهذه المهنة وهذه اللغة الجميلة.

أصدرت ثلاث مجموعات شعريّة؛ “مع اطلالة الفجر” 1994، “تظلّين أحلى” 1996 و”رماديّات” 2001. وكنت وما زلت أعدّ لمجموعة رابعة “كرمى لها” وهي التي سأهديها إلى روحيْ والديّ بالكلمات التالية: “إلى أبي زرعتْ طيبته المحبة في جَناني وإلى أمي أنبتتْ حكمتها الكلمات على لساني، ذكرا وترحّما”.

  • بناء على هذه التجربة الطويلة، وبعد هذا العمر الطويل مع الشعر، ماذا تقول لأصحاب موهبة الشعر الذين يطمحون إلى نظمه؟ هل ستعيد على مسامعهم هذه الأبيات الثلاثة التي ذكرتها أعلاه؟

أنصحهم اوّلا بقراءة الشعر وحفظه بكثرة، على أن يكون الابتداء بالشعر العموديّ، مع دراسة علم العروض الذي يتيح لصاحب الموهبة التعرّف على أوزان الشعر وشروطه. وبعد أن يحفظ منه الكثير ويتمكّن من علم العروض أن يكتب ويمزّق الكثير ممّا يكتب، إلى أن يصل الى درجة لا يخجل فيها أن يعرض الشعر على العارفين فيه، ويأخذ ملاحظاتهم ويعمل بها. وبعد أن ينظم القصيدة العموديّة بإتقان تامّ ينتقل إلى شعر التفعيلة الذي يتفرّع منها. وفي كلّ مرحلة يجب أن يتأكّد من صدق موهبته الشعريّة قبل النظم، ومن أنّ بإمكانه أن يبدع فيه، لأنّ الشعر لا يكون بغير إبداع إلّا صفّ كلام فارغ أو نقل كلام مسروق لا يستسيغه أيّ ذوق فنّيّ على الإطلاق. فالفنّ كلّه يقوم على الموهبة والإبداع معا ولا يجوز بغيرهما.

  • يلاحظ الباحث أنّ قصائد ديوانك الأول مذيّلة بتواريخ كتابتها، لماذا؟ كما يلاحظ أنّ هناك إحدى عشرة قصيدة قد نشرت ما بين سنة 1969 وسنة 1973، وأنّ ثلاث عشرة قصيدة أخرى قد نشرت ما بين 1988، وسنة 1994، أي مع فارق خمس عشرة سنة… لماذا؟

كان تذييل القصيدة بالتاريخ تعبيرا عن نشوتي بوقوع القصيدة في خاطري، ثمّ على الورق وكأنّ كل قصيدة حادث كبير في حياتي، وربّما كنت أطمع أن يدرس النقّاد تطوّر المسيرة الشعريّة عندي، ولكنّني أعترف أنّني لم أكن محظوظا من جهتهم، رغم علاقاتي الطيّبة معهم، وأنا إلى اليوم لا أعرف السبب.

أمّا الفرق بين فترتَي النشر فسببه انشغالي ببناء حياتي الزوجيّة ثمّ بأولادي – طلّابك – الذين أخذوا، مع عملي في التعليم كلّ أوقاتي، فكنت مقسّما في البيت بين العناية بهم والتحضير لطلّابي في اللغة العربيّة. وأعترف أنّني كنت أغرق فيه لساعات طويلة مع الكثير من المتعة بطبيعة الحال.

أنا لا أستحضر الشّعر، ولا أغتصبه، وهو مرتبط جدا بظروفي اليوميّة والصحيّة والعائليّة، ولا أخفي عليك أنّني في الفترات التي يغيب فيها الشعر عنّي لا أكون في حالة نفسيّة جيّدة. أمّا اليوم فقد كبر الأولاد وتزوّجوا وأسعدونا بهم وبأولادهم. وهذا شيء يتيح لي أن أعبّر عمّا في نفسي نحوهم، ونحو الناس والحياة والمجتمع والأوضاع العامّة، مع التأكيد على أنّني أتعرّض كما يتعرّض كل أبناء شعبنا لوجع القضيّة والمعاناة في كلّ مكان.

  • يبدو أنك تأثّرت في بداياتك بالشعر النيوكلاسيكي في الشكل والمضمون، وبنزار قباني في الغزل؟ هل هذا صحيح؟ ولماذا؟

تأثّرت بالشعر الكلاسيكي قبل النيوكلاسيكي، خصوصا شعر أمراء الشعر العبّاسي، كالبحتري وابن الرومي والمتنبّي. أمّا الشعر النيوكلاسيكي فقد أثّر في نفسي أكثر ما أثّر شوقي الذي استطاع أن يجمع بين القديم والجديد في لغة جزلة قريبة إلى النفس والفهم وبغير تعقيد، ناهيك عن مسرحيّاته الشعريّة التي كنّا نعلّمها لطلّابنا. فمسرحيّة “مصرع كليوباترا” مثلا، قمّة في الشعر الغنائي قبل أن تكون قمّة في المسرح. أمّا مطوّلاته في تاريخ مصر والعرب فحدّث ولا حرج. لا أنسى خليل مطران وقصيدة المساء التي تعتبر إحدى روائع الشعر العربي، والذي استطاع فيها أن يجمع بين النيوكلاسيكيّة والرومانسيّة في معان مدهشة تأخذ العقل.

لا أعتبر نفسي شاعر غزل، مع كل انحيازي لنزار قبّاني، الذي أعشقه في الغزل، وأعشقه أكثر في شعره الواقعيّ العربيّ الذي أبدع فيه لا أقلّ مما أبدع في الغزل. الحديث عن نزار يطول ولكنّني متأثّر بلغته السهلة الممتنعة الجميلة، وتعابيره المنسابة، وصوره الساحرة. نزار قبّاني قمّة، رغم نزوله إلى الناس في شعره.

وبعبارة موجزة فإنّ من يعلّم الشعر العربيّ، من بدايته حتى أيامنا، لا يمكنه إلّا أن يتأثّر بالكثير من روائعه. ولو أردت أن أسهب في الذّكر لتيسّر عندي مما أحفظه منها ما يملأ كتبا.

  • تقوم بنشر مكثّف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، متابعا في كثير من الحالات الأحداث اليومية، فهل الشعر رد فعل؟

هذا “الفيسبوك” يا اخي فتح لنا نافذة واسعة، يسهل علينا أن نقفز منها إلى الشارع بين الناس مباشرة، وبدون وساطة. ومع أنّ الصحافة الأدبيّة المختصّة غير متيسّرة لدينا، فإنّنا نكتب وننشر على صفحاتنا هناك. ولا أخفي عليك أنّ أحدنا يحبّ أن يعرف ردّ فعل الناس على ما يكتب. وكلّما كان الردّ مشجّعا زدنا وتمادينا في الكتابة.

قد تؤثّر الأحداث اليوميّة على ما نكتب، ومن جهتي فإنّ أحداثا كثيرة تستثير لديّ ردّ فعل مباشرا بحيث أكتب مباشرة، وعندما أرى أنّ ما في نفسي قد يعبّر عمّا في نفوس أبناء شعبي أنقله الى صفحتي وأُسرّ إذا كان ردّ الفعل طيّبا. وأتذكّر أنّ أحدهم قال لي: “شاعر المناسبات هو شاعر بالمناسبة”. فرحت بهذه السخرية كثيرا، فأنا إنسان سريع الانفعال، أتأثّر فأعبّر عمّا في نفسي، ولو أخفيته لبدا على وجهي.

الشعر ردّ فعل، ويحضرني قول محمّد مندور: الأدب صياغة فنيّة لتجربة انسانيّة، والأحداث تجارب نمرّ بها، وقد يصوغها كلّ منّا بطريقته. وأنا أحاول أن أصوغها شعرا لأعبّر عن شعوري. أذكّرك أنّنا لا نعيش زمان فرح، فلذلك ترى أنّ أكثر ما أكتبه تعبير عن وجعنا الجمعيّ إن صحّ التعبير.

  • الشاعر جريس دبيات لا يكتب إلا الشعر الموزون… ألا تعترف بظاهرة الشعر المنثور؟ ولماذا؟ يحسّ القارئ، إضافة الى الوزن، بالموسيقى الشعريّة في قصائدك، هل تتعمّدها؟

الشعر نوع من الإبداع الأدبيّ، وله شروط وأصول وأدوات، وأوّل شروطه الوزن، الموسيقى الشعريّة. وكان أوّل ما شدّني إلى الشعر موسيقاه، ثمّ تعابيره، ثمّ معانيه، ثمّ صوره.

الموسيقى أوّل الدرب إلى الشعر، ولا يجوز الشعر نثرا. يا أخي عندما يصف أحدهم الشعر بالمنثور فإنّه يخلط بين نوعين من الكلام، لا فضل لأحدهما على الآخر، يسمّي الشيء بغير اسمه. وفي نظري الإصرار على تسمية نثر ما بالشعر هو انتقاص من النثر، الذي قد يكون جميلا ومنسابا ومؤثرا أكثر من الشعر. الإمام عليّ – كرّم الله وجهه – لا يقلّ نثره عن شعره إن لم يزد عليه، ونحن نردّد نثره وحكمه وأقواله المأثورة نثرا أكثر ممّا نردّد منها شعرا. وأنا أقرا في “نهج البلاغة” أكثر ممّا أقرأ في أيّ ديوان شعر. بصراحة لا أعترف بالشعر المنثور ولا بالنثر المشعور على الوجهين، بل أعترف بالإبداع المدهش شعرا ونثرا. أحبّ البحتري على شعره وموسيقاه الشعريّة، وأحبّ التوحيديّ على نثره المنساب كالجداول في مناحي الكلام.

وملاحظة أخيرة: الشعر سلّم يصعده محبُّه درجة درجة، ككلّ الفنون الأخرى التي يرقى فيها الإنسان بالتدريج، فهل يحقّ لأحد أن يقفز الى الشعر – رأس الفنون الإنسانيّة – مع كلّ ما فيه من الأصول والشروط والأدوات قفزا، وبلا أيّة موهبة أو معرفة أو علاقة؟!

أنا أومن أنّ الشعر لا يكون بدون وزن، وبدون موسيقى شعريّة مرافقة، وبدون قافية تضبط إيقاعه الشعريّ. فالموسيقى لها دورها الكبير في نفوذ الشعر إلى أعماق النفس الإنسانيّة، الموسيقى التي أتحدّث عنها ليست بديلة عن الوزن – الإيقاع الشعريّ – بل هي مكمّلة له. الموسيقى الموجودة في الوزن، اوّلا، وفي تآلف الكلمات، ثانيا، وفي تعبير هذه الكلمات عن مضمونها، من خلال جَرْسها الذي تحسّ فيه بالمعنى من خلال الصوت واللفظ، ثالثا. كما نجد مثلا في وصف الذئب عند البحتريّ سيّد شعراء هذه المدرسة:

يقضقض عصلا في أسرّتها الردى       كقضقضة المقرور أرعده البرد

هذه المدرسة “الموسيقيّة الشعريّة” ينتمي إليها شعراء كثيرون، من أمثال ابن زيدون وشوقي ونزار، ويشرّفني أن أنتمي اليها. أبحث عن الكلمة المناسبة وأغيّر وأبدّل وانقّح، وقد يأخذ منّي ذلك وقتا طويلا، ولا أترك القصيدة إلّا وقد استجابت لنداء الموسيقى الشعريّة وانتظمت في صفّ بهائها وانسيابها وتأثيرها.

  • قمتَ بنشر ثلاثة دواوين حتى الآن… أصدرت الديوان الأول سنة 1994، والثاني سنة 1996، ثم نشرت الثالث سنة 2001، وما زلنا ننتظر الديوان الرابع، لماذا هذا الفارق الزمني؟

هذه هي “قلّة الخواصّ”، كما كانت امّي تقول، وقد ذكرت لك أنّ مجموعتي الرابعة ستكون “كرمى لها” وسأهديها لأبي وأمي رحمهما الله. لا شكّ أنّ وسائل الإعلام المتاحة أخذت الكثير من وقت القراءة في الكتب عند الناس، وصرت أحسّ أنّ النشر، على الشبكة وعلى الفيسبوك، يوصل الشعر إلى الناس بشكل أوسع، وبوقت أسرع، فساعدني ذلك على الكسل الذي سأنفضه عن قريب، وأخرج بمجموعتي الرابعة، وفيها قصائد أحبّ أن أعرضها على من لم يرها من القرّاء كقصيدة ” ابن زريق” التي عارضت فيها قصيدة ابن زريق البغدادي التي مطلعها:

لا تعذليه فإنّ العذل يولعه          قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه

بقصيدتي التي جعلتها على لسان زوجته في أربعين بيتا وهذا مطلعها:

يشكو إلى الله مضنى القلب موجعه       سلبت منه الهنا من ذا سيُرجعه

وهي قصيدة نالت استحسان الكثيرين من محبي الشعر القديم، وقد استغربتُ أنّ بعضهم، ممن يحفظون قصيدة ابن زريق المشهورة، قد حفظوا قصيدتي أيضا. كما أنّ في هذه المجموعة قصائد أخرى أشتاق كثيرا أن أراها في مجموعة شعريّة جديدة.

  • أنت تكتب منذ سن صغيرة، فالقصيدة الأولى التي تتصدر ديوانك الأول “شجرة الميلاد” كُتبتْ سنة 1969، وكنتَ حينها دون العشرين، وهي مثل بقية قصائد الديوان، قصيدة ناضجة وفق معايير الشعر… لماذا لم يعالج النقاد والدارسون إبداعك الشعري؟ إلام تعزو ذلك؟

ذكرت لك أنّ قصيدتي المكتملة الأولى كانت سنة 1967، وقد أصدرتُ المجموعات ممّا نشرتُ في الصحف والمجلّات. أمّا عدم الالتفات إلى إبداعي الشعري فقد يكون لأحد سببين أو للسببين معا:

أولا: انشغال الناس بشعر المقاومة الذي “شغل الناس وملأ الدنيا”، ومتابعة أعلامه وقصائدهم الكثيرة، وهذا الشعر يستحقّ هذه الدراسة الوافية لأنّه مرآة نضال شعب في فترة صعبة من تاريخه أيّام الحكم العسكريّ، وشدّ الخناق علينا من أجل ترحيلنا. وأنا مُريد هذه المدرسة وأعلامها، وعلى رأسهم طويل العمر حنا أبو حنا وكثيرون غيره، ولن اذكر الأسماء كيلا أنسى أحدا.

ثانيا: قد يكون جيلنا بعد هذا الجيل العظيم قد ضاع في المعمعة، بعد هذه الأسماء الكبيرة التي طبّقت الآفاق. وأنا أحد هؤلاء الذين لم ينالوا حظّا من النقّاد والدارسين، إمّا بسبب انشغالهم بشعر المقاومة، أو بسبب قلّة خبرتي بأساليب التملّق والنفاق الاجتماعي، والتي أبعدتهم عنّي. على كلّ حال كنت وما زلت أقول: الكلمة وحدها هي التي تثبّت نفسها في نهاية المطاف. ولا بدّ أن أشير هنا إلى أنّ شعر المقاومة قد فتح لبعض النقّاد باب الصعود إلى سماء الادب والنقد والشهرة بسهولة.

  • يقال اليوم إنّ الرواية هي ديوان العرب… هل تؤيد هذا القول؟

يبقى الشعر ديوان العرب بلا منازع، خصوصا أنّنا اتفقنا أن لا نخلط الرواية- النثر، بالديوان – الشعر، فتصبح الرواية نثرا مشعورا مقابل الشعر المنثور. لا شكّ أنّ الرواية، خصوصا الرواية الواقعيّة هي سجلّ تحرّك شعبا ما في مرحلة ما، وقد تكون المنارة الهادية في نضال الشعب وسعيه إلى غاياته، كما في الادب الروسي قبل الثورة. والرواية مرآة حياة الناس اليوميّة، على الصعيد الشخصيّ وعلى الصعيد العام، فمن هنا أهميّتها البالغة في الأدب. ثمّ إنّ كتابة الرواية تحتاج إلى دراية ومعرفة وأدوات كثيرة لتخرج صورة صادقة عن صاحبها وعن واقعه. وجميل أنّ كتابة الرواية لم تعد تقتصر في زماننا على واو الجماعة، فقد دخلت نون النسوة عالمها بكلّ ثقة وجدارة، وأبدعن فيها وعبّرن في الكثير منها عن أوجاع المرأة في مجتمعنا. وهناك أسماء لامعة كثيرة في هذا المجال.

  • بعد مسيرتك الطويلة مع الشعر، ما رأيك بما وصل إليه أدبنا الفلسطيني، في مجال الشعر، الرواية، القصة والنقد في العقدين الأخيرين؟

جواب سؤالك يحتاج إلى كتاب، وسأقصر إجابتي على الشعر: لا شكّ أنّ شعر المقاومة كان قمة في الأداء والأسلوب والمضمون، ومن هنا فإنّ رحيل أعلامه، وآخرهم المرحوم حنّا إبراهيم، يترك فراغا قد لا يسدّه الجيل القادم. أمّا ما بعد الألفين فإنّ الشعر ليس في أحسن أحواله، وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ الفيسبوك الذي ذكرناه قد لعب مزدوجا في عالم الشعر، فهو متاح لكلّ من يريد أن ينشر ما عنده تحت أيّ اسم يختاره، وقد يكون ذلك الاسم شعرا. وما ينفع البعض في نشر الحسن قد يضرّ البعض الآخر في إسقاطه بما ينشر من الرديء، وقد أمسيت أسمع مقولة: “كثُر الشعر وقلّ الشعراء”، وهو قول فيه كثير من الصحّة، ولن أطيل في الإجابة خوفا من ان أُزعِل أحدا. أمّا من جهتي فقد استرحت لهذه الوسيلة السهلة، وها أنا أتابع النشر فيها إن شاء الله.

  • أنت تُهدي مجموعتك الثانية “تظلّين احلى” الى أدماء هناك في السماء. ما القصّة؟

أدماء أختي، أو كما كنت اناديها “خيتاه”، وهذا عنوان القصيدة التي قلتها في رثائها، أدماء أختي التي كانت تدلّلني في طفولتي، وكنت متعلّقا بها كثيرا، وكبرنا وتزوّجت في الناصرة، ولم تُرزق بأولاد، وبدأت بالعلاج الذي سبّب لها السرطان وقضى عليها في شبابها، أدماء الجرح الذي لا يندمل، لا لأنّها ماتت فحسب، بل لأنّها لم تترك لنا شيئا من أثرها في ولد نراها فيه.

كانت أدماء -رحمها الله- تحبّ أولادي وتعتني بهم، كما اعتنت بي في صغري، وكانت تهديهم أجمل الملابس التي ما زالوا يحتفظون ببعض منها. وقد انتقلت عدوى محبّتها إلى أولادي، فصارت عمّتهم أغلى ضيف على بيتنا، ولكنّها لم تمهلنا وماتت وتركتنا. وأذكر ليلة الميلاد التي تلت وفاتها، ولم تكن أدماء معنا فيها، فبدأنا بإعداد العشاء لأولادي وكان الموقف صعبا جدا بفقدانها، وكنت أمثّل دور السعيد بالعيد أمام الأولاد وأبكي وأنا اشوي لهم اللحم خارج البيت. حرقتني تلك الليلة فلم تهدأ أعصابي إلّا بقصيدة “خيتاه”.

منذ توفي والدي، وأنا في الخامسة عشرة من عمري احترفت الحزن، فقد جعلني موت أبي صاحبا لأترابه، فكبرت في سنّ مبكّرة، وحرمني موته من طيش الصبا، ولكنّه علّمني كيف أعتمد على نفسي في الحياة. لقد كان موته سببا في زيادة محبّتي للناس الذين غمروني بعطفهم وتضامنهم بعد موت أبي، رحمه الله.

أمّا رثاء أدماء فلم يكن وحيدا، فقد رثيت آخرين بقدر ما أحببتهم وحزنت على فقدهم. ناهيك عمّا كتبته على شواهد قبور الأحبّة، وعندما أزورهم أقول في نفسي: سيكون لك استقبال طيّب من هؤلاء يومًا ما.

  • يبدو للمتلقي وكأنك تعود في شعرك إلى صراع الخير والشر، تلك الفكرة القديمة، لماذا؟ ما الداعي؟ كما تتكرر عندك ثيمة الظلم.. هل لهذه الموضوعات علاقة بواقعنا العام؟

قضيّة الصراع بين الخير والشرّ ومسألة الظلم أمران يشغلان بالي وشعري معا، وأحاول أن أقف مع الخير ضدّ الشّرّ. خصوصا وقد وقع الظلم على شعبنا منذ نكبة 1948 حتّى اليوم. وبدل أن نجد العالم يقف معنا نجد الكثير من التواطؤ مع الظلم والظالمين، بل إنّ العالم العربيّ الذي نتوقّع أن ينصر قضيتنا بدأ، بتأثير أمريكا، يتخلّى عن شعبنا، وعن حقّه في تقرير المصير على ترابه الوطنيّ. كنت وسأبقى مع حقّ شعبنا، وسأدافع عن هذا الحقّ ما حييت، وسأقف ضدّ من يتآمر عليه، هذا وطننا، ووطن شعبنا المشرّد، ولنا الحقّ في العيش فيه. لقد احتلّت القضية الفلسطينيّة الكثير من شعري وقصائدي، وأنتظر اليوم الذي سيسمح لنا بالكتابة عن حياة جميلة نطمح إليها ولم تتيسّر لنا بعد.

أمّا القدس التي أعشقها فتوجعني، وأكتب عنها لأبثّ بعض حزني ممّا أصابها ويصيبها تحت الاحتلال، ولكنّني على ثقة أنّ الحقّ لا يضيع، ولا بدّ أن يعود لأصحابه ذات يوم:

يا فلسطين والليالي سواد       ودماء الاهْلين فيض الغزارةْ

سوف يأتي يوم ويعلن شعب     أنّه نال بالكفاح انتصاره

والربيع المشتاق يحلو ويُحلي     فوق أجداث أهلنا نوّاره

وتعود الحياة تنعم فينا        لا دماء، لا غربة، لا مرارةْ

كذلك فأنا ضدّ ظلم المرأة واعتبارها أقلّ قيمة وشأنا من الرجل، فهي في نظري نصف المجتمع الأهمّ في صناعة الحياة. ومن هناك فإنّ الكثير من شعري يتضامن ويقف مع حقّها، ويقدّس العلاقة معها في كلّ وجوهها وحالاتها. أنا مع نون النسوة ولو كان ذلك على حساب واو الجماعة. انا مع امّي.

  • سمّيت مجموعتك الثالثة “رماديّات” – لماذا؟ وما هي الرماديّات؟ ما هو جديد الشاعر جريس دبيات، بعد هذه المجموعة؟

عندما سألتني ابنتي الوسطى طالبتك “نورة” عن هذه التسمية أجبتها بأبيات على الغلاف الأخير للمجموعة:

تسائلني نُويْرة عن حروفي       وما فيها سوى فحم المدادِ

لمَ اخترتَ الرماد وكيف ترضى       تُساوي بين شعرك والرمادِ!

فقلت: يجوز من رَمَد بعيني       فلا تَجلو البياض من السوادِ

كذاكِ يجوز من دنيا غَرور       تذرُّ رمادها في عين صادِ

سأحرق أحرفي وألمُّ منها       رمادا يُرتَجى لنفادِ زادِ

والرماديّات ستون رماديّة في ثلاث مجموعات، تضمّ كل مجموعة عشرين مقطوعة، كلّ منها في ثلاثة أشطر متعاقبة من بحر الرمَل، جعلت كلّا منها على رويّ واحد، وحاولت الإيجاز فيها قدر المستطاع. وقد قصدت من خلالها أن أضع أفكارا وصورا من الحياة من تجاربي مع الناس وبدأتها بهذه الرماديّة:

ذلك من مثّل في عيني الوفا

باس راسي وبكى واستسلفا

سلّ عطفي ونقودي واختفى

وقد ورد الكثير منها في أسلوب ساخر، بقدر سخرية المواقف التي تحكي عنها. وقد وجدت صعوبة في نظمها بسبب الالتزام بالرويّ، والإيجاز الشديد في إخراج الفكرة أو الصورة. وقد تكون الرماديّات صورة عنّي بالإضافة إلى كونها صورا من الحياة.

أحبّ أن أرى الأمور واضحة تماما، بالأسود والأبيض، ولكنّ الواقع يُظهرها لي رماديّة، بما يختلط فيها من المتناقضات في مواقع الناس، ومواقفهم ومعاملاتهم. ولا أخفي عليك أنّني أحبّ أن أتحدّى نفسي أحيانا في النظم، بما يجمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، فأنا مولع بالإيجاز ورحم الله الامام عليّا الذي قال: “البلاغة الإيجاز” وكان في نثره وشعره مدرسة فيهما.

سيكون جديدي “كرمى لها” الذي أخبرتك عنه، وهو يشمل قصائد منذ مطلع الالف الثالث إلى اليوم، وذكرت لك قصيدة منه، وستكون معها قصائد أخرى، وأرجو أن ينال رضا القرّاء والنقّاد.

على فكرة، لي موقع شعريّ على الانترنت، وفيه مجموعاتي الثلاث المنشورة ورقيّا، وفيه أيضا بعض القصائد من المجموعة القادمة “كرمى لها”، كما أنّ لي صفحة على الفيسبوك باسم “جريس دبيّات” بالعربيّة وفيها أنشر كلّ جديد عندي.

لا بدّ أن أذكر أنّ قدوم الأحفاد قد فتح لي نافذة على الشعر أحلى من العسل، وكانت البداية مع حفيدتي “لونا” ابنة ابنتي البكر “نسرين”، فقد كتبت في عينيها قصيدة يخفق قلبي لها كلّما قرأت سطرا منها، كما أنّ بقيّة الأحفاد قد نالوا من شعري بقدر ما أحبّهم. وعندما سألني أحدهم عن هذه المحبّة أجبت: الأولاد كالشجر تزرعه وتتعب عليه، والاحفاد كالثمر تُسَرّ وتتمتّع به.

كفاني من الدنيا أنّني كنت معلّما أحبّ طلّابه وأخلص لهم، وأبا شارك زوجته في حفظ العيال وخدمتهم. ولست أدري إن كنت يوما سأكتب في الثقّافة وغيرها، قد يكون!!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*