قبل قرنٍ ونصفه من الزمان كان لبنان والشرق على موعد مع ولادة “نبيّ مجنون”! عبقريّ، في بلدة بشرّي كانت شهقته الأولى… جبران بن خليل جبران السكران، يجري مع الحياة طفلًا فائق الذكاء. وتنقّله بين حضن أُمه ودكان والده ووادي قديشا يذكي نبوغه الروحانيّ، فيحلّق عاليًا، حتى تخطّى حدود المألوف، ويدرك مبكرًا أنّ الحياة ملهاة ملحميّة ما دامت الحدود بين حلالها وحرامها، وبين قدسيّتها ولوثتها فالتة…!
هذا الفيلسوف الرقيق يخزّن ما تسقّطه من غابات فكره الاستوائيّ الخصيب، ويبذره بين معرّشات نفسه المتوسطيّة الروحانيّة السامية. انخراطه بعجّان الفكر جعله ينصهر بنار الحياة، ويمتزج بخمرها وعطرها… فتخرّج من جامعتها بامتياز، متمكّنًا من نواصي الحكمة. فشرع يبثّها مستعرضًا طباعها، محاسنها، ألاعيبها، وفشلها في علم الحسابات، كقوله:
وسارقُ الزهرِ مذمومٌ ومحتقَرٌ وسارقُ الحقلِ يُدعى السيّدُ الخطِرُ
وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفِعلتِه وقاتلُ النفسِ لا تدري به البشرُ!
هذا المحلّق في فضاء الوجود غوّاص في أعماق النفس البشريّة متمرّس بالتنقيب والتصويب، فالاستشراف… فيرى في السعادة شبحًا، ما إن يقبض الإنسان عليه، بعد مطاردة مستميتة، حتى يطلقه، ويبدأ بمطاردة شبح بديل. ويكاد أن يتساءل: وماذا بعد القبض على شبح “إفرست” الآليّ؟!
من على حافّة الزمن يظهر الفضاء مستعمرة أشباح مشعّة، والأرض دارًا تستنير بمصباح نضب زيته! هذا ما وصل الأمر إليه بالتدرّج من هبّة علميّة لأُخرى. وكانت القفزة العلميّة العالية التي خلطت ما بين جوهرَي المعرفة والعلم، بعد أن أعطبت العلاقة العرقيّة بينهما. فعمّت الفوضى مخلّفة أثرها على الحياة حربًا طاحنة أتت على الحواسّ الماديّة والروحيّة بضربة قاتلة! فتحلّل العلم من أخلاقيّاته، ليُسلّط الذكاء الحسابيّ المستولد على الموروث الإنسانيّ الحسّيّ. وتشرَّع الأرض ساحة للمكاسرة بين الآلة التقنيّة المتوحّشة والآلة البشريّة الإنسانيّة!
“نبيّ” المحبة يستصرخ الحكمة أينما حلّ الفكر به، ويستلهم الروح أينما حطّت به الطبيعة. فقد ترسَّخت هواجسُه مخاوفَ دائمة تجاه مصير جوهر الإنسانيّة. هذا، فيما كانت الحياة تعاني، “على أيامه” من انقطاع جزئيّ في محطات توليد الطاقة الحراريّة الروحيّة. ترى، هل كان ليتّهم القدَر باستيلاد ديناصورات ذكية تنهي سلطة العقل، لتقرض الحياة على الأرض؟ أم يتّهم القدر بخلخلة العلاقة بين التراب والضباب؟ أو يعتبرها مسألة مؤقّتة يمكن أن تنتهي مع انقضاء عصريّة الطوارئ؟ أما نحن الشهود الأحياء فنرى أنّ شعلة الحياة قد أوشكت على الانطفاء كليًّا، ما دام الكلام بضاعة مهرّبة، والتماسّ مع الإحساس عملًا مشبوهًا محرّمًا. وأما ألسننا فمشلولة دون مساجلة الجماد، أو نقبل بالتعرّض لإشعاعاته المميتة! فكيف نجرؤ على التعرّض بالتفنيد أو الذمّ لعبقريّ فذّ تمكّن، خلال “ثوانٍ” من عمر الزمان من التشويش على البثّ السما/أرضيّ؟!
فأيّ حبر، أيّها الحكيم، كان لقلمكَ أن ينزف لو علم أنّ ذرف السماء قد بات رعافًا، وأنّ أبخرة الأرض قد باتت ألسنة من نار؟! فنحن المؤمنين البسطاء نعيد الأسباب لهجوم قافلة من أقزام أشباح الأساطير، وقد نجحوا بتطويق ملك النور الأزليّ، فقيّدوه وساقوه للسجن مع مجرمي الحروب! ويقلقنا أن يكون هذا تهديدًا، أو مهانة تؤشّر لقرب سقوطه عن صهوة الزمان!!
اهتزاز كونيّ يشكّل فصلًا مفصليًّا من ملحمة تاريخيّة وجوديّة بين قطبَي العقل: الحاسب والقارئ!! أمّا القدَر/ صاحب الديوان الرقميّ، فقد نصّب الذكاء الاصطناعيّ وليًّا مطلقًا على مكاتب الحياة الخاصّة ومكتباتها العامّة!! وفُضّ الجدل بقرار إحالة كلّ جاهل تشغيلَ الآلة الذكيّة للمنافي المجتمعيّة! ويُدَّعى أنّ هذا ما سيعود بالازدهار على الأرض، وعلى الحياة بالخلود!
آه يا وطن الإنسان الكلمة كم أخاف عليكَ من تلامذة الأصمّ الأبكم هذا! وكم أخاف علينا منكَ مسحوقًا تحت قوائم غيلانه الأذكياء! وكم أخاف علينا وعليكَ النفي عن الذات إلى مزارع الجائحات المرقّمات، أو جزُر الأمواج الندّابات…! فقد أُحرقت رسائل السماء، وتمزّقت روح الأرض… وأُقفلت مصانع شمعها بالشمع الأحمر! فبمَ نستضيء؟ بمَ يرسم أبناؤنا خرائط آمالهم؟ ويخطّون مسارات أحلامهم؟ أبالأقلام؟ أم بأشلاف الفحم؟ وكيف نسوس جيادنا؟ أبالعصيّ؟ أم بالهراهات المشتعلة؟ آه يا وطن الإنسان كم تعزّ علينا ماضيًا لعشائكَ الأخير، و”ملاك” جهنّم يهزّ صولجانه مقسِمًا أنّكَ ذاهب إلى النعيم!!
وكانت هدنة، ظهرت خلالها أميرة السماء تحمل رسالة شفويّة من طرف “النبي”: الشهُب، يا بني البشر ضيوف على السماء، أما النجوم فهم أهل البيت المقيمون، ولا ثابت في السماء غيرها. فإن كنتم تسعون للإقامة فيها شموسًا، فعليكم أن تتعلّموا منها الثبات والشموخ، مع بعض الخجل!
استيقظ الحلم، فناصت عيون الأرض! نجّمت السماء، فانتشر الخبر: أُعجوبة! وخفت نور الكبّاسات، فهلّل القمر! ماد الزهر فوق أسرّته، وتعنّق منتصرًا فيحان! وما هي إلّا برقة زمنيّة حتى تقطّعت أذرع عسكر الديناصورات! وعاد البثّ الحيّ لمعامل الحروف، فانطلق الكلام من محاجره، داعيًا لمظاهرة كونيّة انتصارًا للشِعر والنثر، والإلقاء والتغريد… والعزف والغناء، والترنيم والتجويد!!