بين طيّات الكتب: عشق المرأة وإباؤها في ديوان أتراك تمضي!- مداخلة د. روز اليوسف شعبان

صدر ديوان أتراك تمضي للشاعرة مقبولة عبد الحليم، عن دار فهيم أبو ركن، (2024)، لوحة الغلاف للفنانة تغريد حبيب.

تمضي الشاعرة في ديوانها، في وصف مشاعر الحب والحنين للحبيب، ولعلّ قصائد الحبّ تشغل معظم قصائد الديوان، أمّا ما تبقّى فقد تنوّعت مواضيعها، منها: دينيّة، وصف حيفا، قصيدة لابنتها مريم، وقصيدة أحمد لابنها أيضا، وقصيدة شذا تشدو بها للوطن.

تعاتب الشاعرة في قصيدتها “سوسنة ” ص 5، حبيبها الذي برد عشقه فتتساءل:

” يا سيّد العشق ما للعشق قد بردا

هل شابه وهنٌ بعد الذي شهدا؟

وتختم قصيدتها بسؤال للحبيب:

تهواك أنت فهل تهفو لضمّتها 

أم قد تراه هواك اليوم قد حردا؟

 

وفي قصيدة” مشاعر” ص 13 تعاتب الحبيب على جفائه وتتذلّل له قائلة:

” يا سيّد الخفقات ما بك صامت

خفقات قلبك يا حبيبي مجافية

أسقيتك من فردوس قلبي كوثرا

وأسير فوق الشوك نحوك حافية

يدمي خطاي إليك طول مسافة

وعشقت في أسري لديك منافيه

لكنّ قلبك لم يزلْ في جفوة

ومشاعري دوما بحبّك صافية

 

كما نجد في قصائدها، أنّ الحبيب معادلٌ للحياة والجمال والبهجة والتجدّد، كما في الأبيات التالية من قصيدة  “ربيع”:”

سأبسمُ ملءَ ثغري واتّزاني

لتزهرَ فيّ ربّاتِ المعاني

وترسُمُني ربيعًا لا يُجارى

وتُجري الأغنيات على لساني

كنرجسة أصير تفوح عطرا

يثير عبيرها حسد الغواني

 

هكذا تمضي الشاعرة في معظم قصائدها تتغنّى بالحبيب تارةً وتعاتبه تارةً أخرى، واصفةً لوعة الحبّ وبعد الحبيب وجفاه.

تقول في قصيدتها “أتراك تمضي” ص 73:”

أتراك تمضي والوداد يروح

لتدبّ في شغف الفؤاد جروح

أتراك عشقًا قد رحلت لغادة

أو كيف للهجر المقيت تبيح؟

 

ورغم تذلّلها وتعبيرها عن شغفها وعشقها إلّا أنّها تنهي الديوان برفضها هذا الحبّ وهذا الحبيب الذي باعها بغانية، فتقول:

“لا لست أرضى طريقا صرتَ تسلكه

 في حبّ غانية تلهو وتنشغف

إنّي الجميلة لا إنسٌ يشابهها

ومثله الجِنُّ إذا ما أشرقت خسفوا

لن تستبيني إذا ما جئت تسحرني

من فجر حبّكَ لا ما عدت أغترف

 

هكذا تعبّر الشاعرة عن انتصار عزّتها وكبريائها وإبائها، وهي بذلك تعلي صوت المرأة التي ترفض الذلّ والخيانة والرضوخ لسطوة الرجل.

هذا الصوت النسوي نجده بارزا في قصائد أخرى في الديوان. ففي قصيدة” وهج” تثور الشاعرة على أحد الشعراء الذي يصفها بالعجوز قائلا:

” إيه عجوز الشعر قال ممازحا

فتقول:

فاهتاج حرفي في صفاء دواتي

كيف احتسبت العمر؟ كيف نسبته

متعسّفا في عدّك السنوات

وخدشت فيّ مشاعري فتفجّرت

من أصغريّ فجلجلت كلماتي

الحبّ نور مشرق في مقلتي

فجرا سنيّا نيّر البسمات

يا شاعري ما زال زهري ناضرا

وربيع عمري عاطر النفحات 

 

ثمّ تعلن الشاعرة أنها لن تغفر له إلّا إذا كتب لها قصيدة اعتذار:

هي جفوة حتّى أراك مغرّدا

بقصيدة تمحو الأسى عن ذاتي

هكذا تعلن الشاعرة انتصار كبريائها ورفضها وصفها بالعجوز فالمرأة لا تشيخ ما دامت تحبّ.

 

اللغة الشعرية في الديوان

استخدمت الشاعرة مقبولة صورًا شعريّة جميلةً، استلهمت الكثير منها من عناصر الطبيعة كالزهر، الربيع ، العطر، الهواء، البحر، والماء. جاء بعضها مفعما بالاستعارات والتشبيهات وبعضها كان وصفامباشرا.

فمن الصور التصويريّة الجميلة المشبعة بالبوح العاطفيّ كما يلي:”  

“تزهو بأنفاس الصّبا وتُجود”

“وأضمّها حتى تزغردَ في دمي”

“البحر يعلن ثورة مجنونة

وسفينتي غرقى وحبّك ساحلي”

 

وفي قصائد أخرى نلمس رقّة المشاعر وصدقها مستخدمة التناص من التاريخ، كما في الأبيات التالية:” قلْ لي أحبّكِ وابتسم في نشوة

يا حسنه هذا الجمال البابليّ

يعيدنا هذا التناص، إلى الحدائق المعلقّة البابليّة التي بناها نبوخذّ نصّر الثاني ملك بابل لمحبوبته أميتيس وهي أميرة من مملكة ميديا(إيران) لأنها كانت تشتاق إلى طبيعة وطنها الجبليّة الخضراء؛ ليدلّ بذلك على حبّه الشديد لها، نجد في هذا التناص تشبيها جميلا بحبّ شاعرتنا ووصفها لحبّها بالجمال البابليّ.

تستخدم الشاعرة في وصفها هذا لغة رقيقة عذبة.

 

الخصائص الأسلوبيّة

كُتبت قصائد الديوان وفق البحور الشعريّة، والتزمت الشاعرة بقافية واحدة لكلّ قصيدة، وهي في معظمها تحتوي على إيقاع موسيقيّ غنائيّ، كما تميّزت القصائد بالوضوح والعفويّة، ونأت عن الترميز والغموض، إضافة إلى ذلك فقد استخدمت الشاعرة التكرار بوصفه أداة انفعاليّة بنائيّة.

يظهر التكرار في قصيدة “ويلاه” ص 71، وهو تكرار ندبيّ لكلمة “ويلاه”، وكأنّه نداء داخلي يبوح باللوعة والحنين والانفعال. تقول الشاعرة:

ويلاه هذا العشق لا يُنساني

يجتاحني ويهيم في وجداني

ويلاه ماذا قد أبوح له به

والسجن والجلّاد ينتظران

في هذه القصيدة تعمد الشاعرة إلى أسلوب الانزياح، حين تنشد للوطن(الحبيب)، فتلتقي صورة الوطن بصورة الحبيب:”

سيظلّ رغم الخانعين منعّمًا

وطنًا مفدّى سيّد الأوطان

هو أوّل الأوطان قطبٌ للرحى

وثراه بيتُ الروح والجثمان

إنّ هذا الانزياح الرمزيّ يميّز الشعر الفلسطينيّ، كما عند فدوى طوقان ومحمود درويش.

ديوان أتراك تمضي للشاعرة المبدعة مقبولة عبد الحليم، شعر انسيابيّ مفعم بالمشاعر الجيّاشة والعاطفة النبيلة، والعشق الأنثويّ الصادق. هو صورة لشاعرة مرهفة الحسّ طوّعت المعاني فانسابت عذبة بين قوافيها.

مبارك للشاعرة مقبولة هذا الديوان الجميل.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*