لا يحتاجُ مشواري اليوم إلى جوازِ سفر، ولا إلى تأشيرةِ عبورٍ لحدودٍ مرسومةٍ على ورق؛ إنّه سفرٌ من نوعٍ آخر، إلى حضنِ الأرضِ التي تنبضُ بالخيرِ والعطاء.
في يومٍ حزيرانيٍّ مشرق، حيث يحلُّ موسمُ الحصادِ، وتنتشرُ رائحةُ القمحِ والشعيرِ في الأفق، قرّرتُ أن أتنزّه.
مع شروقِ الشمسِ الذهبيّة، شددتُ الرحالَ إلى سهلِ مرجِ بنِ عامر، هذا الامتدادُ الساحرُ الذي يحتضنُه الشمالُ من قريتي، منشية زبدة.
من بعيد، بدت سنابلُ القمحِ تتمايلُ في نسيمِ الصباحِ، بلونها الذهبيّ، كأنّها سبائكُ من ذهبٍ رُصفت فوق سطحِ البحر، في تناغمٍ مدهشٍ ومشهدٍ يأسرُ العينَ والقلب.
بالنسبةِ لنا، مرجُ بنِ عامر ليس مجرّد سهلٍ، بل هو سلّةُ غذاءِ فلسطين، ورمزٌ للجمالِ والخُضرةِ والماءِ والوجهِ الحسن.
تربتُه الخصبةُ تحتضنُ الحقولَ بكلِّ تنوّعها: من الذُّرةِ إلى البصل، ومن اللوزِ إلى الرُّمّان.
تلالُهُ المطلةُ على جبالِ نابلسَ، حيفا، طبريّا، جنين، الكرمل، والجليل، تضفي على المكانِ رونقًا لا يُضاهى.
اشتهرَ المرجُ بزراعةِ القمح، وهو مصدرٌ أساسيٌّ لغذاءِ المنطقةِ وضواحيها.
وما زلتُ أذكرُ، من شدةِ عشقي لهذا المكان، موسمَ الحصادِ، وأدواتِه من منجلٍ وغِربالٍ، ومشاهدَ الأيدي التي تكدحُ لجمعِ الخير.
جلستُ على ضفّةِ الوادي أتأمّلُ الجمالَ الرّباني، تحت ظلالِ الأشجارِ، أحتسي قهوتي بطمأنينة.
ومن جوانبِ الوادي، ظهرت عشبةُ الحُويرّي، التي نأكلُها خضراءَ في الشتاءِ، وهي اليومَ تُزهرُ بالأبيضِ، كأنّها لآلئُ عائمةٌ على سطحِ الماء.
صوتُ خريرِ الماءِ يُهدهدُ الروحَ، ويُبعدني عن ضجيجِ القريةِ، وصفيرِ السياراتِ، وهواءُ المرجِ نقيٌّ كأنّه آتٍ من زمنٍ آخر.
رأيتُ طيورَ الحَجَلِ وهي تَكرُجُ، في مشهدٍ يسرُّ الناظرين.
استحضرتُ ذكرى المرحوم عبد الحليم، الذي كان مولعًا بصيدِ الحجل، وكنتُ أرافقُه لا للصيد، بل لأستمتعَ برؤيةِ هذا الطائرِ الرشيقِ وهو يركضُ بين الأعشابِ.
أما الأزهارُ التي تنتشرُ في المرج، فهي لوحةٌ من ألوانٍ لا تُحصى، غذاءٌ للنحلِ، ورحيقٌ للحياة.
تراها تمتصُّ الرحيق، وصناديقُ العسلِ منتشرةٌ كأنّها صناديقُ كنزٍ في كلِّ زاويةٍ من زوايا السهل.
في هذا المكان، تنبضُ ذاكرتُنا الجماعيّة: نرى أجدادَنا، ونستحضرُ هويّتَنا، ونغرسُ في أولادِنا وأحفادِنا حُبّ الأرضِ، وموسمِ الحصاد، والمنجل، والغِربال، وضمّ القشّ، وسنابلَ القمحِ الذهبيّةِ التي تحملُ في حبّاتِها قوتَ يومِنا، وخبزَنا، وتاريخَنا.