صراخّ صامت ( قصّة قصيرة) – عامر عودة

عندما وضعتُ رأسي على صدرها، كانت نبضاتها غير منتظمة. تأملتُها فقرأت في سحناتها بعضَ القلق. هي لم تشك يومًا همّها لأحد، لأنَّ “مَن لا يفهم منَ الإشارة الحكي معه خسارة”، لذلك لم أسألها يومًا عن حالها.

جلستُ أستمعُ إلى صمتها. إنّها ملجأي الوحيد عندما أشعر بملل أو بضيق.  فصوتُ صمتها يُشَنِّفُ آذاني، ويُدخلُ السّكينة إلى قلبي. لكن كان هنالك صوت مزعج آتٍ من بعيد، يتغلغل بين ثناياها ويزعج كيانها!

مشيتُ باتّجاهِ الصّوت لأعرف مصدره. فإذا هو قادم من مَصنعيْن كبيرين أُقيما على سفح قامتها الشّامخة؛ حُفرا فيه وتسلقاه جنبًا إلى جنب مع المدينةِ الكبيرةِ المجاورة لهما، الممتدّة أطرافها حتّى قممِ الجبالِ القريبة.

عدتُ إلى حيث اعتدتُّ أن أجلس، لُأناجي بعينيَّ سحرها الخلّاب، ولأستمع وأنا في حضنها إلى ما تبقّى من ألحانِ صمتها، فهيَ اللّحنُ الأوّل في هذا العالم ولغتهُ الأولى. وأخذتُ شهيقًا طويلًا لأملأ صدري بشذاها المعطّر برائحةِ الصّنوبر، لكن روائح شاذة أفسدتْ عليَّ نشوتي بلقاء عطرها وكَدّرت صَفوي. إلّا أنّ نسماتها الرّهوة لم تشأ أن تتركني منزعجًا، فراضتني وأدخلتني في نشوة لذيذة، فأغمضتُ عينيَّ استمتاعًا، ودخلتُ في عالمي الخاص…

تسربتْ إلى أنفي رائحة دخان حملتني إلى غاباتِ الأمازون في البرازيل، حيث اندلعت فيها حرائق هائلة قبل عدّة سنوات. ملايين الأشجار غرقت تحت النّار، وآلاف الحيوانات ماتت خنقًا أو حرقًا بطوفانها. من سوء حظّها أنّها وُلدت في غابة داخلَ دولة، اختار سكّانها أن يحكمهم رئيس لا يهمه إلّا الربح المادي، فاغتالَ الطّبيعة وكائناتها، من أجل أن يبني على جثثهم أراض زراعيّة ومصانع. فلا التّلوّثُ البيئي يعنيه، ولا الأضرارُ التي سببتها تلكَ الحرائق بطبقة الأوزون تقلقه! يا إلهي! عندنا أيضًا رئيس حكومة يميني كالرّئيسِ السّابق للبرازيل. أَلَمْ تلاطم أمواجُ النيران غاباتِ الكرمل قبل عدّة سنوات، ثم أدخلت في عِبابِها أيضًا غابات وأحراشَ القدس؟! لماذا لا يَعتبرون؟! من يقضي على ملايين الأشّجار وآلاف الحيواناتِ البرّيّة مجرمًا بحقِّ الطّبيعة والكون؟!

أصحو من كوابيسي فزعًا على صوت نعيق غربان فوقَ الشّجرةِ الّتي غفوت تحتها. وما أن فتحتُ عينيَّ، حتّى غشاهما الدّخانُ المنتشر في المكان. فتركتُ غفوتي مستلقية تحتَ الشّجرة، وركضت هاربًا قبل أن تحاصرَني النّيران وأغرق في لهيبها.

عند وصولي لأطرافِ الغابة، كانتِ النّار متأججة في إحدى الحاوياتِ المليئة ببقايا الطّعامِ والصّحونِ البلاستيكيّة. يبدو أنَّ أحدَ الأشخاص هو مَن أشعلها عمدًا. وقد تطايرت أكياسُ النّايلون المشتعلة من تلكَ الحاوية هنا وهناك، ناشرةً الرّعبَ بينَ الكائناتِ السّاكنة في هذا الحرشِ السّامقِ بأشجارِهِ الطّبيعيةِ الجميلة. ولم يكن أمامي ما أفعله، سوى الاتّصال بدائرةِ الإطفاء، الّتي  (ولسبب ما!) تأخّر وصولها!

ومن بعيد كانت أمّنا تئنُّ وتصرخ بصمت، بانتظار مَن ينقذها من جنون وأطماع بعضِ البشر!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*