التاريخ يُصدر البيان: لقد غرقت سفينة السندباد في محيط الحيتان، وتقاذفت حطامها الأمواج، وكان ما كان؛رسبت في القيعان! وقد ناب عنه في المجالس سندباد الذاكرة راويةً يحسن التجديف في بحر الكلام، ولا يأتيه النعاس حتى ينفضّ الديوان، ولا يبقى من الحضور غيري، أنا الزمان!
وكان أن أكرمنا العيد بِ بكرا نيسان السندباد الموعود، فدعاه ووسّع له الليوان… وفرش له استراحة في الأحضان، فقرفص، وراح يحكي عمّا شاهد من الأساطير أثناء جولاته في البلدان… تحلّقنا حوله مقرفصين صامتين محملقين… فراح يتفرّس في ذاكرتنا، ويعيدنا لنا أطفالًا فرحين بالعيد الكبير فرح التراب بالماء!
السندباد يروي والعيد الجديد يصغي لحكايات أسلافه بحّارة الحقول الكادحين… ويحكينا منتشرين في النواحي القريبة، زرافات من الأطفال العائدين مع المغيب حاملين غلال زهر الصفّير في السلال أو الجيوب، مساهمة منّا بتلوين فرح العيد ببيض أصفر! ويعرّج بالذكر على الأُمهات يحفظن قشور البصل التي تُكسب البيض لونَ التراب… فتخرج منه الحياة ظهيرة سبت النور حيّة! ويشيد بنا نتفهّم ونراعي الملتزمين بالانقطاع عن أيّ منتوج حيوانيّ خلال زمن الصوم، فنجمع البيض محصول الأُسبوع الأخير، وننتظر كالكبار…!
هذا السندباد ابن زمن لا يجيز هدر الوقت بتصفّح كتب الذاكرة، بادّعاء أنّها تجهل علوم الحساب…! فيسلّمنا طرف حبل الحكاية، ويغادرنا معتذرًا، وقد أخذ منه النعاس كلّ مأخذ. أما نحن، وما دام حبل الرواية ممدودًا، وما دامت أبواب الذاكرة مفتوحة، فنواصل استعراض محاسن طفولتنا من كلّ جوانبها… ونسترسل بالحديث عن الأعياد ومواسمها الحلوة بحلوياتها وطقوسها الشعبيّة المتنوّعة، خاصّة المتعلّقة منها بتحضير الكعك الخاصّ بالعيد الكبير(الفصح).
الأولاد يصغون لهذا المقطع من “الأُسطورة”، وكأنّهم في حضرة السندباد! فلا يملكون سوى التعليق: نيّالكو! وتصبح ورشات تحضير الكعك أُسطورة بحدّ ذاتها؛ وتنقّل النسوة والفتيات، خلال أسبوع الآلام، من بيت لآخر، لإعداد إكراميّة العيد بمهرجان جماعيّ، تثير استهجانهم! وتجمّع الأطفال في حوض البيت المضيف يجمعهم على التعليق بفم واحد: نيّالكو!
ويستيقظ العيد نيسانًا مثيرًا لدهشتهم، وقد شرّع الصباح لرنين أجراس القيامة، وقامت الحياة بكلّ طاقاتها الروحيّة لتحتفل بالمناسبة بشكل جماهيريّ لا يغيب عنه مسنّ أو رضيع…
ويحضر السندباد مهنئًا، ينتقل مع المحتفلين من بيت لآخر بدءًا بالمسنين والمحزونين والجيران، وانتهاءً بالأصدقاء من الدرجة الثانية…ويشهد على المصالحات بين الكبار، وينخرط معهم بالعناق والمصافحة والقبَل… فيعود الأطفال من رحلة المعايدة هذه بمكاسب عديدة، أهمها المعايدات المقرونة بتنقية القلوب والتسامح… وتكون لهم، من حيث لا يجتهدون مكاسب محسوسة تربويّا أخلاقيّا، ولا تقلّ أهميّة عنها، بل تزيد، المعايدات النقديّة “المفروضة” على الأجداد والأقارب الأقربين… ويأتي بالدرجة التالية، كلّ ما يحصلون عليه من حلويات الضيافة، وهذه لا تتعدّى الملبّس علوز، الراحة والطوفة بمختلف طعمات الفواكه… أما الجوزنيّة واللوزنيّة، السمسميّة أو الفستقيّة…والفواكه المجفّفة والمحمّصات، فتعتبر، في السنين العجاف، عملة صعبة! لا شيء من هذا يخطف بهجة التمحوُر حول أطباق البيض، والشروع بطقس “المفاقسه”، وهي أشبه ما تكون بلعبة ربحيّة؛ البيضة الأقوى تفقس الأضعف، فيربح هذا، وهذا يخسر. فيبارك ويصافح: كلّ عام وإنت بخير!
جمعة العيد “جمعة مشمشيّه”، ما إن تنتهي، حتى يبدأ التحضير للموسم التالي، زراعة التبغ والخضروات الصيفيّة… عن هذا الفصل لا جدوى من الحديث، والسمّيعة الصغار لا يعرفون أنّ من الخضار ما هو صيفيّ وشتويّ… ربيعيّ وخريفيّ! كما أنّ زرع التبغ خرافة لا تعنيهم… فنصرفهم وصوتهم يتردّد في الديوان: نيّالكو!
لا شكّ أنّ هؤلاء الأبرياء حَفَظة التعبير “نيّالكو” معنّفون حضاريًّا، ما دامت شهواتهم الفطريّة محرّمة عليهم؛ يتقيّؤون هذا ويلتهمون ذاك بنفس اللحظة… يطرحون هذا ويسعون للحصول على غيره بنفس اللحظة! يبتهجون بهجة مصطنعة، ويفرحون بالجديد فرح النار بالحديد! عالمهم البلاستيكيّ أحاطهم بموادّ سريعة الاشتعال، فلا شيء منها يصلح للاستعمال أكثر من مرة!! هذه البهجة المعلّبة تسدّ عليهم سبل الإحساس بمتعة الانتظار، والصبر على الساعة القادمة بفرح مهيّؤون للتفاعل معه!! هؤلاء المهاجرون قسرًا من واحات الطفولة أعجز من أن يشقّوا لغدهم طرُقًا نحو فرح مشرق! السندباد يرثي لحالهم، ويقترح علينا أن نستعين عليهم بالذكاء الاصطناعيّ فحل الحضارة التربية الحديثة! فهو يجهلها جهلًا كاملًا. “فكرة جيدة!” فيعتذر ويغادر مقسمًا أنّه لن يعود ثانية!
(1998)