ديوان”هجرة خارج الجسد” للشاعر نصر خطيب _ رياض نبيه مخول

المعادِل الموضوعيّ والعنوان:
القارئ الممعن في الشعر العربيّ قديمه وحديثه على مرّ العصور يجد توظيفًا للمعادل الموضوعيّ للتعبير عن قضايا سياسيّة واجتماعيّة وإنسانيّة، لا يستطيع الشاعر التصريح بها إلّا من خلال أقنعة الرمز. يُستخدم هذا الأسلوب للهروب من سيطرة الأحاسيس الشخصية، أو كأداة للتستر على الهُويّة الحقيقيّة للشاعر، والشاعر في مثل هذه المواقف يربط مشاعره بموضوعات معينة، وهذا ما يسمح له بإيصال الإحساس الذي يثير القارئ دون زيادة أو نقصان، كما يراه الناقد ت. س. إليوت. يحقّق هذا الأسلوب للشاعر قدرة على إخفاء أفكاره والانتقال إلى “واقع آخر”، يمنحه مِساحة من الحرية الإبداعية، والقدرة على التفاعل مع القضايا التي تفرضها البيئة المحيطة.
نجد المعادل الموضوعيّ بارزًا وواضحًا في مجموعة نصر خطيب، متمثّلًا بالعنوان الجامع في إيحاءاته لكثير من التشكيلات الزمانيّة والمكانيّة، وشهر تشرين كحيّز زمانيّ هو المعادل الأوّل والأساس المرتبط بصور وتشكيلات كثيرة مستوحاة من الطبيعة كاستخدامه المتكرّر للفظة الغبار، وتكرار لفظة الرماد، ثمّ تكرار الصدى بتنويعاته واستخدامات ألفاظ الاغتسال ثمّ التنفّس، وجميعها تتعلّق بشهر تَشرين.

العنوان جملة اسميّة يبتدئ بلفظة هجرة الّتي هي نكرة مضافة إلى معرفة، وفي هذه الإضافة جمع بين التشكيل الزمانيّ والمكانيّ، فالهجرة كانت في تشرين الثاني، وهو زمان تاريخيّ محدّد، والهجرة كانت الى الخارج، إلى خارج الجسد، والجسد هنا هو حيّز مكانيّ، هو في الأساس جسدُ الشاعر الماديّ الّذي تسكنه روحه، أو هو جسدُ المهاجر، حيث ماثل بين الجسدين، وربّما يكون الجسد هو العائلة، أو القرية -بيت جن- أو هو الوطن الكبير… ويبقى السؤال: لماذا كان الزمن في تَشرين تحديدًا؟
والقارئ اللبيب يمكنه أن يكتشف دلالات ذلك من زوايا متعدّدة، ويظهر ذلك في النصّ الثاني في المجموعة، والّذي وضع تظهيرًا له في النهاية حيث كان هذا النصّ عنوان المجموعة. هذا النصّ مشحون بإشارات رمزيّة مغلّفة بإيحاءات مثقلة بالوجع والألم والشوق نتيجة هجرة ابنه إلى بوسطنَ في شهر تشرين الثاني، يقول في بداية المقطوعة الأولى شرقيّة وردتي مقارنًا بين ماضيه وحاضره ” كانت الحياة تشعّ يا تشرين واليوم صارت يبابًا”. ويقول في مقطوعة هذيان: ص 19 خيوط الأفق تفكّكت وصارت موتًا متقطّعًا كالنوم!! أرواحنا تلطمها أمواج العنف فانكسرت أجنجتها مع هذيان تشرين!! الشوق يتخبّط في متاهات الزمن، قلبه لا يموت إنّه فينيق يحرق نفسه في عشّه لتخرج الحياة من رماده.. قد أقفل ذاكرة الزمن مع هذيان تشرين، وهناك توقفت الحياة” أرى في الهذيان الموصوف أنّه هذيان الشاعر وهو يعيش الحلول الشعريّ في شوقه حين أُقفِلتْ ذاكرة الزمن مع تشرين؛ فتشرين حلّ فيه وحلّ هو تشرين…

وفي مقطوعة وجع الغياب وعلى أهدابي يتراكم صدى الانتظار، في الوحدة تهزّ الذكرى مفاصلي ويبكي الشوق حاملًا غبار تشرين” ثمّ يقول ” نار الفراق جعلت القلب رمادًا، وهدير الولادة أحيا الذاكرة في دورة الحياة، والصدر ما زال قادرًا على حمل الغبار والذاكرة وتشرين، لأنّه يحضن حبّ كلّ تلك السنين”.

والمقطوعتان “ذاكرة تشرين” و”مات تشرين” أجد فيهما أصدق التعبير عمّا يجيش في نفسه فتعكسان حلوله النفسيّ. وفي النموذجين وغيرهما يجعل الشاعر تَشرين وهو يعيشه جامعًا للغبار والرماد والتنفّس والاغتسال، ويًسمع خلال ذلك صدى أصوات متنوعةّ رافقت هذا المشهد. ويبدو تكثيف هذا التكرار جليًّا بشكل واضح ومقصود يتضمّن تصعيدًا دلاليًّا في ارتقاء بالتراكيب والمعاني الشعريّة من الأسلوب التقريريّ البسيط إلى المنحى الإيحائيّ المتحوّل حيث “تصعد في المعنى وتختار مسلكًا فيه ارتقاء وارتفاع به عن المعنى المألوف، وهذا الاستخدام للتراكيب على هذا النحو يحمل بعدًا رمزيًّا واضحًا، له دلالته الخاصّة الّتي تجمع مكنوناتٍ نفسيّةً وفلسفيّةً واضحةً تقوم بوظيفتين رمزيّتين؛ الأولى مستقلّة، والثانية توصيليّة” (يوسف أحمد) السيميائيات الواصفة 2005، ص 137.

والقارئ اليقظ المدقّق يجد في المقطوعات تكثيفًا مهندسًا مقصودًا لهذا التكرار الّذي صار موتيفَ ملازمًا يعكس الحالة النفسيّة للشاعر… يتبدّى هذا التكرار في تصوير حالات الغبار بصور وأشكال مجازيّة بيانيّة مختلفة، تقابلها أيضًا صور الرماد مماثلة لها بنفس الأسلوب، تتزاحم فيه الاستعارات الرمزيّة مع تراسل الحواس، وفي كلّ هذه الحالات كانت الحاجة ضروريّة إلى الاغتسال ممّا تركه الغبار والرماد، فاستخدم كثيرًا من اشتقاقات الاغتسال والغسل، والملاحظ أنّ تشرين شريك في كلّ هذه الحالات. والملاحظ أنّ تشرين ارتبط في الغبار في عشر صور:

” غبار تشرين… والصدر ما زال قادرًا على حمل الغبار والذاكرة وتشرين” ص 23.
” الذاكرة الأخيرة ترحل عبر قارّات من الغبار” ص 26.
” رحلة الغبار والماء والغناء الحزين! في رحلة الظمأ، في رحلة الجسد، في رحلة الغبار” ص 28.
” آهٍ تشرين، حضورك سحابات انتظار تزرع الخدر في الجروح واللهفة لا تروي الحجر والأمل غبار ينتظر هطول الذاكرة” ص34-35.
” الأهداب تراكم عليها غبار الموت، يبتلعون حفنة غبار لسدّ رمقهم” ص 63.
” هل باتت حقائق زماننا حقائب من الغبار؟” “تحملها أمواج النفاق إلى جزر المتصوّفة! تخطف عنها غبارها” ص 91.
” غبار الكذب خلع جلده وأسقط القناع” ص 97.
أمّا صور الرماد فتتجلّى في عشر من الصور أيضًا:
” الشوق يتخبّط في متاهات الزمن، قلبه لا يموت، إنّه فينيق يحرق نفسه في عشّه لتخرج الحياة من رماده” ص 20.
” نار الفراق جعلت القلب رمادًا” ص 23.
” الصوت يستصرخ مكتومًا من الجبال! يرجو من يخرجه من حصاره! حياتهم تجري في دمائنا! يغطيهم رماد الزلزال” ص65.
” طفولتك نغمات أمل يعزفها الحنين ربيعٌ في كومة رماد” ص 69.
” نار العظماء لم تترك غير الرماد! فرعون حلم في رماده” ص81.
” غبار الكذب خلع جلده وأسقط القناع، أجراس الصمت تنهار عند أقدامكم وتهدُر من الرماد”ص 97.
” من الرماد يشرق الأمل على رصيف الذاكرة واللهفة تسكن في طرقات الانتظار” ص110.
أمّا الاغتسال ومشتقّاته فيتبدّى بأشكال مختلفة تنعكس فيه روح التصوّف في كثير من الصور والتراكيب توحي، بل تشير إلى أنّه يريد تنقية ذاته فكريًّا وروحيًّا ( الاغتسال) وهو يعيش حالاته المختلفة في التأمّل والتفكّر في ذاته وواقعه؛ في حيرته واضطرابه وقلقه وشوقه، وعلاقته بمن يعيش معهم، وببيئته في صراعاتها وما يحيط بها، وباختياره روح التصوّف هذه فإنّه يريد التخلّص من أعباء الحياة وأثقالها، ويمكن ان يكون هذا ملاذًا أو هروبًا ممّا عكرته الحياة فيه، فهو يريد أن يعيش بسلام داخليّ مع ذاته، يريد أن يتجاوز الواقع المقيّد ليصل إلى نشوة روحيّة يعانق فيها الحريّة الّتي يتوق إليها، لذلك نجد نصر يوظّف مفهوم الاغتسال كموتيف متكرّر يحاول من خلاله تنقية الجسد والروح، ومن أمثلة هذا الاستخدام :
“أضغط القلبَ تحت زخّات الفكر لأخبّئ عاطفتي من نفسي، لكنّها تفلت راكضة في شراييني جامحة في مغاسل الشوق وغرف الحنين” ص16.
ومن مقطوعة ذاكرة تشرين ” لأنّ الحبّ لا يعترف بالمسافات والزمن ولا باللمس والقرب لأنّه ماء الحياة دائمًا يجد مجراه في طيّات الحياة ليجرف اوساخها ويتركها في القاع بيضاء ملساء” ص27.
وفي مقطوعة “وانطوت سنة أخرى”
” السنوات تخطو على الأهداب والشوق يرتجف غاسلًا الانتظار في ماء الجفون” ص 31.
” والأمل غبار يغسل الشوق والحنين” ص 34-35.
وفي مقطوعة “روح الحنين”:
” كيف أرست روحها بين ثنايا ضلوعي؟! … ناثرة رذاذًا منعشًا على مواقد الذكريات، هل أفكّ وثاق الأفواه وأغسله في مراجل الغليان” ص39.
وفي مقطوعة ” حنيني اليك”:” أيّار يأبى الموت يرتشف الضوء في وجهك واللقاء ندًى، وتباشير طفولة!!
بنجاحك قدرنا انتظار الرابع من أيّار!! ولادة روح الروح لنغتسل بلقائك!! لنغتسل..”ص 70.
وفي رسالة إلى أمّه:
” وشلّال حنان، يعطذر الفجر تراتيل صلاة لتغتسل على أهدابك” ص 75.
وفي مقطوعة صرخة:
” فرعون حلم في رماده! كنوزه تنام في عيون الرمال! فبسقها التاريخ في مغاسله” ص81.
” تمتمة شفتيك تراقص أمواج الشوق في أهدابي، وقلبي ينتظر ليغتسل تحت خيوط لقياك الدافئة” ص 112.
” للإنسانيّة نبض يروي حدائق المحبّة، يزيّن الدروب وفيه ترتحل الأحلام ورديّة لترقد أنشودة لهُويّة ضائعة تغسلها تموّجات عبير القلوب” ص 114.
” القبلة تروي عشقًا يتأجّج تحت حبات المطر! تبتلع شوقًا، وعسلَ رضابٍ يحلّي ماء المزن، يغوص في أوردتي ليغتسل بلقائك فيروي الحبّ في فؤادي” ص116.

(هذا نصّ المداخلة في الندوة الأدبيّة في بيت جن احتفاء بصدور الديوان)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*