(إصدار: دار الشّروق للنّشر والتّوزيع، الإصدارالثّاني. عمّان 2006)
أهوى قراءة كتب السّير الذّاتيّة، خاصّة تلك السّيرالّتي لا يحاول فيها المؤلّف “تجميل” الأموروالأحداث، بل تتّصف السّيرة بالعفويّة والصّدق،ويتحرّر كاتبها من الأنانيّة والنّرجسيّة المفرطة!
من تلك السّير التي قرأتُها وأعجبتني بأسلوبهاالهادئ السّلس، وبصدقها وبعدها عن تمجيد الذّاتوتضخيمها، كتاب: “غربة الرّاعي” لإحسان عبّاسالأديب المؤرّخ النّاقد المحقّق والمترجم الموسوعيّ الّذي أصدر ما يزيد عن مائة كتاب، وهو ابن هذاالوطن من بلدة: “عين الغزال” المهجّرة الّتي كانت تقع على سفوح الكرمل الجنوبيّة الغربيّة.
كتب إحسان عبّاس في مقدّمة الكتاب يذكر منهجهفي كتابة سيرته الذّاتيّة:
“منهجي فيها التزام الصّدق فيما أسرده. لا لأنّ ماأكتبه تاريخٌ مهمٌّ، بل لأنّه يمثّل تجربة إنسان حاولفي كلّ خطواته أن يُخلصَ للعلم بصدقٍ ومحبّة” – (غربة الرّاعي: 5)
ويضيف إحسان عبّاس في المقدّمة أنّه اختار:”أسلوبًا بسيطًا كأنّه حكايةٌ ممتدّة، مراعيًا إلى حدّ كبير التّدرّج الزّمنيّ، لاعتقادي أنّني لا أنوي أن أقدّم للنّاس رواية، حيث يستبيحُ الكاتبُ لنفسه أن يتلاعبَ بالزّمن فيقدّم ويؤخّر، ويُطلق العنان لخياله في بناء شخصيّات لم تعش على هذه الأرض”. (م. ن:6)
ويعترف إحسان عبّاس في المقدّمة أنّه كان في شبابه متحمّسًا “للصّراحة الكلّيّة” في كتابة السّيرة، لكنّه عند كتابة سيرته وهو في الشّيخوخة يقول: “لا أستطيع أن أتحمّل مسؤوليّة تلك الصّراحة، وأنّ مجتمعي لا يزال يصدُّ عن تقبّلها”. (م. ن:6)
أمّا عن اللّغة والأسلوب الّتي استعملها في كتاب سيرته فيقول: “في سبيل البساطة تجنّبتُ – لأوّل مرّة – ما ألِفْتُ من أسلوب قائم على الإيجاز والإيماء والعبارة المكتنزة، وآثرتُ أسلوبًا سرديًّا بعيدًا عن المستوى الشّعريّ ذي الجزالة المتعمّدة، رغبةً في أن تصل هذه السّيرة إلى جمهور كبير متنوّع”. (م. ن:6 -7)
ويعتذر إحسان عبّاس أنّ سيرته تأخّرت في الزّمن،حيث كتبها ونشرها عام 1996 وكان عمره 76 عامًا، وقد كتب عن ذلك: “كان من الحقّ أن أكتبها قبل حلول الشّيخوخة وامتلاء النّفس بألوان من المرارة والخيبة” – (م. ن. ص 7)
في هذه السّيرة نتعرّف على إحسان عبّاس في مراحل حياته المختلفة:
أوّلًا في بلدة: “عين غزال” الّتي ولد فيها عام 1920وقضى طفولته الغضّة فيها حيث دخل مدرستها وعمره ستّ سنوات، وبعد سنتين انتقل لمواصلة دراسته في مدينتي حيفا وعكا، حيث أنهى المرحلة الثّانويّة.
في الأعوام 1937 – 1941 تعلّم في الكليّة العربيّة في القدسوتخرّج منها ليمارس مهنة التّعليم في المدرسة الثانويّة في صفد حتّى عام 1946.
في الأعوام 1946 – 1951 سافر ليواصل دراسته في جامعة القاهرة.
في الأعوام 1951 – 1960 انتقل ليحاضر في كليّة غوردون التّذكاريّة في الخرطوم.
وفي الأعوام 1960 – 1986 عمل محاضرًا فيالجامعة الأميركيّة في بيروت.
وأخيرًا استقرّ في عمّان من عام 1986- 2003 وفيها توفي.
في هذه السّيرة يتحدّث إحسان عبًاس عن ذكرياته وتجاربه ودراسته وحبّه للقراءة، وزواجه التقليديّ وأولاده، وعن عمله ومؤلّفاته وما واجهه من صعاب وتحدّيات، وعلى رأسها تشرّده وتنقله وغربته بعيدًا عن وطنه ومسقط رأسه وأهل بلده “عين غزال” التّي هجّرت ونزح عنها أهلها!
تمتاز هذه السّيرة بالعمق الإنسانيّ، وبأسلوبها العفويّ الصّادق، وبالتّواضع الّذي تحلّى به إحسان عبّاس رغم ما أنجز من مؤلّفات أصيلة ومترجمة، ورغم النّجاح الّذي حقّقه مع طلّاب الجامعات الكثيرين الّذين درّسهم أو أشرف على أبحاثهم وتوجيههم.
يطرح إحسان عبّاس في سيرته “غربة الرّاعي”العديد من المواضيع والرّؤى الفلسفيّة الّتي بلورها بفضل تجاربه وقراءاته، ويتوقّف عند مسرحيّة “هاملت” لشكسبير الّتي تأثّر كثيرًا بها، خاصّة إثارتها قضيّة كون الإنسان غير مخيّر في حياته وسلوكه والّتي وجدها إحسان عبّاس تتّفق مع طرح الشّاعر أبو العلاء المعرّي في قوله:
ما باختياري ميلادي ولا هرمي – ولا حياتي فهل لي بعدُ تخييرُ
ومن الجدير بالذّكر أنّ إحسان عبّاس تأثّر في كتابة سيرته بما قرأ أو كتب عن السّيرة، وبصورة خاصّة تأثّره بكتاب “الأيّام” لطه حسين وكتاب “حياتي” لأحمد أمين، ويظهر ذلك جليًّا في استخدامه لضمير الغائب كما فعل طه حسين، والتّحدّث عن صراع الطّفل في السّيرتين في مواجهة صعوبات الحياة وتحدّياتها.
صحيح أنّ سيرة: “غربة الرّاعي” تتّسم بالرّوح التّشاؤميّة، وتسيطر على أجوائها المعاناة الإنسانيّة والذّاتيّة، لكنّني وجدتُها سيرة تشدّ القارئ بعمقها ودلالاتها وهي جديرة بالقراءة!