قراءة في كتاب: “قصص من الماضي الجميل” للكاتبة: اعتدال فلاح القاسم. الرامة – محمد علي سعيد

قبل مدة طويلة، أهدتني الأخت الكريمة والزميلة النبيلة المربية: اعتدال فلاح القاسم، من الرامة (وهي حرم صديقنا الغالي والعالي الناقد: د. نبيه القاسم/ أبو فريد) كتابها الباكورة: قصص من الماضي الجميل. الصادر عام 2018.

وعدتها أن أقرأه، وهذا التزام أخلاقي مني لكل كتاب يصلني إهداء أو اقتناء، ووعدتها أن أكتب عنه عندما يتوفر لي الوقت والجهد. قرأت الكتاب وكتبت عليه بعض ملاحظاتي، وللأسف لاص/ ضاع الكتاب واختفى، وكنت كلما التقيت صديقي الكاتب الناقد: د. نبيه القاسم/ أبو فريد، نتصافح بمحبة، وأشعر وكأنه يعاتبني قائلا: وماذا مع الوعد؟!، وأشعر وكأنني أجيبه: الأكلة الموعود بها أفضل من التي تأكلها. ونفترق دون أن يعاتبني بكلمة، فهو يعرف ما مررت به من مأساة مؤلمة جدا (وفاة ابني الوحيد علي إثر سكتة قلبية، فجأة).

هذه الظروف القاسية، ألزمتني الانقطاع عن القراءة والكتابة، لمدة طويلة جدا، ولكن الحياة ستستمر، ولا يصيبنا إلا ما كتبه الله، والحمد الله ولا يُحمد على مكروه سواه، ولا نقول ما لا يُرضي الله.  

وتدريجيا، عدتُ الى نشاطي الاجتماعي والأدبي، ولحسن حظي وجدت الكتاب، وقرأته ثانية.
تسافر الكاتبة في قطار ذاكرتها الى أيام طفولتها البريئة وصدر شبابها، وتختار من ذكرياتها باقة مما حدث لها من حكايات عاشتها ممارسة لها أو شاهدة عين أو سامعة أذن لها. وتصف تلك الأيام الماضية بالزمن الجميل، وهو حقا كذلك مهما كان فيه من قسوة. وهذا الزمن رغم بعده يبقى محفورا في الذاكرة وعصي على النسيان، وكما تقول الحكمة: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، وكما يقول المثل الشعبي: (ما نرضعه مع اللبن لا يمحوه الزمن)، وتصرح الكاتبة بوعي: (هذه الذكريات وهذه الأيام الجميلة لا تُنسى ص26)، وتقول: (ياه، كانت أيام زمان جميلة وأمسياته ساحرة ص94.)، وتقول عن هذا الزمن الحاضر: (أريد أن أقول بأن هذا الزمن زمن صعب، زمن رهيب. أحيانا لا يستطيع الانسان أن يصدق أو يتحمل ما تراه عيناه ص42). في الحالتين قالت الكاتبة الكلام السليم وكان في الصميم، وكانت لسان الكثيرين.

تقدم الكاتبة تلك الحكايات بأسلوب سردي سلس شائق في درامية بسيطة متحركة، وأحيانا بسرد وصفي ساكن وكأنها ترسم بالكلمات، (ولك أن تغمض عينيك لتشاهد المشهد حيّا بأبعاده الثلاثة، أو لوحة فنية: ص32، وص46،)، وأحيانا تلجأ الى أسلوب الحوار.
وفي جميع الحالات تستخدم الكلمات الصحيحة صرفا ونحوا والمألوفة للجميع تقريبا، باستثناء المفردات أو التراكيب اللغوية العامية الخاصة بمجال الحكاية والتي تفقد دفئها وقوة تأثيرها إذا تمّ استبدالها بفصيح اللغة، (كُبوش الدخان ص20. الكيلِه أو الطاسه ص32. خليها تسأل شو الحكي عليه مصاري ص49. متفلتيش ايديكي لَتَنّي أوصل ص54. يلّا روحي نامي علشان أوخذك معي بكره ص65. يمّا شو إنت دكتوره ص89، وغيرها).


سلاسة وتسلسل وبساطة الأسلوب بأنواعه يجعلك تشعر وكأنك تستمع الى ساردة قصة ناجحة.
جاء الخط واضحا وبحجم مقروء ومريح للنظر والفراغ بين السطور مقبول جدا، وهذه الملاحظات رغم بساطتها؛ أصبحت مهمة في المدة الأخيرة، (أكثر من كتاب وصلني إهداء، ولم أقرأه بسبب صغر حجم الحرف.
تستخدم الكاتبة ضمير المتكلم (الأنا الراوية)، والذي من شأنه أن يساعد القارئ في سرعة التفاعل والتماهي مع أحداث الحكاية متقمصا دور بطلها.  

يلامس مضمون الكتاب السيرة الذاتية فالبطل واحد ومبناه قريب جدا الى اللوحات تنمو أفقيا ولا تتناسل من بعضها البعض، والخط الفكري الرابط بين جميع الحكايات ينتمي الى مجال توثيق تراثنا الشعبي الفلسطيني المتعلق في حياة أسرة الفلاحين، وكل توثيق مهما كان مضمونه هو واجب وعمل وطني وحضاري، يهدف الى المحافظة على تراثنا ونقله الى الأجيال القادمة كي لا يندثر ويصبح نسيا منسيا، وكذلك كي نصونه من التزوير أو التهميش أو السرقة وغير ذلك (كما حدث للعديد من الطعام الفلسطيني: الفلافل والحمص والتبولة وغيرها، وكما حدث في مجال الرقص الشعبي والتسمية وغير ذلك).


إن هذا التواصل هو رسالة سامية وهو من مركبات الهوية الوطنية التي يجب أن نعتز بها ونحافظ عليها، فالتراث ذاكرة التاريخ، ومن لا يوثق ينسى ذاكرته وتاريخه ويعيش حاضرا قلقا ولا يعرف كيف يبني مستقبلا جيدا. وقال محمود درويش: من يكتب حكايته يرث أرض الكلام ويملك المعنى تماما.

ما تستحضره الكاتبة من مخزون ذاكرتها الخاصة بها، وفي الوقت نفسه هي عامة لأنها معروفة لبنات جيلها من حيث الفكرة الأساسية وليس بالتفاصيل العينية التابعة للفكرة، فما حدث معها حدث مع غيرها من ذكور وإناث: (شك الدخان، لجن الغسيل، شمائل الحطب، المديدة والهالوك، وغيرها.)، وبهذا تداخلت الذات الخاصة بها بالعام المجتمعي، وأصبح هذا التوثيق شموليا لتراث حياة شعبنا الفلسطيني الجبار صمودا وبقاءً.

لقد استحضرت الكاتبة الكثير من المهن والأشغال وما يرافقها من سلوكيات وعلاقات أسرية واجتماعية عامة، وبهذا حافظت عليها من الضياع أو النسيان أو التزوير، وهذا سلوك وطني. إن الكثير مما استحضرته توثيقا قد اندثر أو تغيّرت تفاصيله، وذلك بسبب التقدم الصناعي المتسارع جدا. (العجين، وظائف البيدر، الدراسة بالنورج، الاغتسال في اللجن، اللعب والقفز على السطوح أو على البيدر، حكايات الجدة، جمع البقل من البرية،…)

* من باب حبذا…
– حبذا لو لم تكتب الحكايات التي لم تحدث في ماضيها، (يا لهذا الزمن الرهيب ص40.)
– حبذا لو كتبت في العنوان “حكايات وليس قصص”، وذلك من باب الدقة في الأجناس الأدبية
– حبذا لو لم تثبت لوحة الغلاف هذه، لأنها غير ملائمة لتراثنا (الطربوش) وكذلك لزمن الحكايات في الماضي (القراءة و…). واستبدلتها بما يناسب المضمون التراثي.
– حبذا لو لم يتشابه لون الخط بين اسم الكاتبة وعنوان الكتاب.
– حبذا لو جاء في التظهير ترجمة حياة مختصرة للكاتبة، وصورتها (إذا رغبت).   

* وأخيرا وليس آخرا
رغم أن الكتاب “قصص من الماضي الجميل” هو باكورة الكاتبة المربية: اعتدال فلاح القاسم (من قرية الرامة في الجليل)، إلا أنها نجحت في إثراء المكتبة العربية بكتابها الوطني هذا، وبهذا تكون قد ساهمت في توثيق تراثنا الفلسطيني المحلي. ولأن كتابها الباكورة هذا كان تأشيرة دخول مقنعة الى عالم الكتابة.


كل التقدير والاحترام والى الأمام، والى اللقاء في كتاب قادم، ان شاء الله.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*