“من وحي الغُربة ” لعلي خالد أبو الهيجاء: خطوة أولى مباركة على طريق الادب – مصطفى عبد الفتاح

عندما تمتلئ الكأس ويفيض مدادها، لا بدَّ لك إلَّا أن تُفرغها حزمات من شعاع فكر على صفحات الكتب، لم يطل انتظار علي كثيرًا بعد أن فاضت كاسه فكرًا وإبداعًا جميلًا ليقرّر إيداعه في كتاب يحمل عنوانه الكثير من المعاني والفكر،”من وحي الغربة” ليتحفنا بمكنونات صدره ومخزون عقله بما لذَّ وطاب من فكر.

ما أجمل أن يولد الابداع في جوارك، وأن تشير إليه بالحب والتَّقدير، لا بالنفور والإقصاء هكذا نبني حضارة، ونطوِّر ثقافة، نؤسس لمجتمع صالح مثقف ومتعلّم يرسم دربه بخيوط من أدب، قديمًا كانوا إذا نبغ شاعر في قومة أقاموا له الاحتفالات وزينوا له السّاحات لأنَّه سيصبح خطيبهم، هو من يكتب تاريخهم، يدوّن أخبارهم ويدافع عن حماهم بالكلمة والرّسالة، فلنبقى على عهد ورسالة الأجداد بالاحترام والتّقدير من أجل أن نؤسّس لمجتمع يحترم الذَّات، يقدّر الكلمة ويعتبر من الحكمة.

المربي علي خالد أبو الهيجاء إبن قريتي كوكب أبو الهيجاء، يُصدر باكورة أعماله، “من وحي الغُربة خواطر قصصيَّة” اصدار دار الهدى عبد زحالقة،طبعة أولى، 2025 . يعشق الكتاب ويكتب الخواطر على صفحات التّواصل، يملأ فراغه في المطالعة والكتابة أنهى دراسته الجامعيَّة للقب الثّاني في الأدب الإنجليزي، ويبقي عشقة الأوَّل والأخير للغته العربية وآدابها، يعمل مدرسًا ويزرع حبها في نفوس طلّابه.

الكتابة بالنّسبة له نوع من الرّياضة الذّهنية، ووسيلة رائعة للبحث عن خبايا النّفس، واكتشاف مكنونات البشر في لحظات الوحدة والشّعور بالغربة عمّا يحيطه من عوالم فقدت قيَمهاومبادئها، فيلجأ إلى الكتابة علَّه يكتشف مكنوناتها فيعود إلى واقعه الذي يحاول الهروب منه فيلقاه بين حروف الكلمات.

يبدع الوصف في مقدمته للكتاب حين يصف غربتهالذّاتية والاجتماعية يقول ” في الغربة تغرس بذور الأفكار وتسقيها بدموع الآلام لتنمو شجرةً كتب على أوراقها تفاصيل الأيام، ونقطف عنها ثمر الأيام وفي صحراء الرّوح تتأرجح الرّوح بينالزَّمان والمكان وتسافر بين الذّهن والأكوان” ص 1. وكأنَّ عليّ يريد أن يقول، أنَّ الغربة هي جزء من الحياة، لنتعايش معها ونعيش دقائقها بحثًا عن جوهر الانسان ومكنونات فكره، أو نرفضها ونحاربه من خلال كشف أوهامها وزيف واقعها، عن الغربة الَّتي يتحدَّث عنها علي، تقول د. روز اليوسف شعبان في رسالة الدكتوراة المعنونة ب” المنفى والاغتراب في روايات غالب  هلسا” تقول عن الاغتراب الاجتماعي نقلًا عن شاخت ريتشارد” يضع الاغتراب الاجتماعي الانسان خارج ذاته، وتحت تأثير نسق من العوامل الَّتي تُعيق إنتاجيته، وتعطّل عمليّة الابداع لديه وتدمّر إمكانيته في التّعبير الحر عن وجوده، فتمنع عليه إزدهاره وتطوّره الإنساني ويقوم الفرد المغترب إجتماعيًا بالخروج الكلي على نواميس السَّائد الاجتماعي بل يقوم أيضًا بمناهضة هذه القوانين من دون الاكتفاء بمغادرتها فيحاول إسقاطها” ص 33 . وعلي في مجموعته “من وحي الغربة خواطر قصصية” يحاول أن يقدّم لنا صورة جميلة سوريالية لواقع مأزوم فيبدع في وصف حالات إنسانيّة بلغه غزيرة المعنى رمزيّة الدلالة ليصل إلى رسالته الخالصة ألَّتي يريد أن يوصلها إلى قارئه.

كان دقيقًا جدًا في وصف مجموعته بأنها خواطر قصصية، إذ يكتب خواطر وافكار إنسانية واجتماعية من وحي الواقع ومن مشاهداته اليوميّة، يريد أن يوصلها للقارئ بأسلوبقصصي فيه الكثير من الرّمزية، واحيانا قصص متكاملة الاوصاف، ويترك القارئ ليفهم ما يريد من نصوصه وبالاتجاه الذي يريده هو من القارئ .

في خاطرته الأولى “السّباق” يطرح قضيَّة التّنافس الحر المجنون بين البشر من أجل الوصول الرخيص على حساب الغلابا والمساكين، فيرى الأشجار العالية ألتي تبحث عن النّور فتنسى الأعشاب الصغير ألتي تموت قهرًا دون الوصول، يطالب الانسان العاقل أن ينظر خلفه إلى الفقراء والمساكين أثناء صعوده إلى القمة ” ويستعمل كلمة التسلّق للدلالات على سباق محموم يقول: “نحن البشر نحاول التسلّق باستمرار، ونصعد في سباق الطَّبقية الوهميَّة مسحورين بالنّور السّاطع، غافلين غير آبهين بالمتسابقين من تحتنا، حاجبين عنهم النّور لرؤية الطريق ومواكبته” ص 2. وهذا يدل على عمق الفكر عند علي وشعوره مع الضعفاء ووجوب الانتباه لهم. كما يوحي لنا في “البوصلة” ص 5 أنَّ قوة الايمان في ساعة الضّيق النّابعة من أعماق الرّوح هي ضمان وقوّة للنّجاة من براثن الوحدة ومن ساعات الضّيق التي يمكن أن يمر بها الانسان. وفي قصَّته “مع جدي” الذي يبحر معه في مسالك الحياة ودهاليزها يؤكد على ضرورة الأخذ بحِكم الأجداد وتعاليمهم حتى لا نتوه عن الطّريق، يرسم قصته بإبداع جميل فتظهر صورة الجد وحكمته عند غيابه فيبدع في إظهار دوره.

وفي “صوت الحديد” يتحفنا الكاتب بقصَّة رائعة يقدم فيها صورة حياتية بحكمة رائعة من شيخ يصنع السيوف بالحديد والنار كي يليّن السّيف ويصبح قابلًا للنزال والقتال، وعن سؤاله للشيخ عن سر عمله المكثَّف والمتعِب في صناعة السَّيف يجيب بحكمة الشيوخ مرة أخرى إذ يقول: “وهل خلقت أنت بقالب؟ أم ما زالت الحياة تضربك لتصبح أصلب واكثر حدة في كل يوم”  اذن هكذا تعلمنا الحياة كل يوم حتى نبلغ مرحلة النضوج أو مرحلة الكمال. قصة تدل على عمق فكر ووضوح رؤية.

وقمة الابداع عند علي في قصته الرائعة “أبي” وفيها يرسم طقسًا شديد البرودة حتى تساقط الثلوج ومن نافذته يلمح صورة الأب يداعب موقد الحطب فيختلط اللمعان بين شيب الاب الذي طحنته السنين بلون الثلج الذي يغطي الأرض ليشبّه والده بصورة “بروميثيوس” هذا البطل الأسطوري في مسرحية “بروميثيوس مقيدًا” للشاعر اسخيلوس التي ألهمت الثوريين طيلة آلاف السّنين برسالتها ألتي تتحدث عن التَّقدم البشري والتَّحدي في وجه القمع، “بروميثيوس”هذا لم يكن خالدًا فحسب بل كان إبن الأرض من البشر الفانين يحس بعطف نحوهم فيعلمهم المهارات الذهنيّة واليدويّة، فيقول علي في قصتهص 15 “أرى ابي يتلاعب بنار مدفأة الحطب كأنَّه يروّضها، ينعكس شرر النّار من عينيه كأنَّه بروميثيوس، ذلك البطل الذي سطرت ملحمته على صفحات بيضاء كبياض شيب أبي، تلك الخيوط الفضيّة، كل خيط منها يحكي ألف حكاية”. فهل هناك أجمل من هذا الوصف لوالد بصورة راقية معبرة يحكي فيها ألف قصة عن والده ببضع كلمات.

هذه عينات مختلفة من هذه المجموعة الجميلة لكاتب مبتدئ والمستقبل أمامه، فيها الكثير من القصص المتكاملة وفيها العديد من الخواطر، ولكن في جميعها هناك فكرة وأحيانا حكمة، يسردها الكاتب بأسلوب مميز، وأظنه يطنب في استعمال السّجع في حديثه دون ضرورة فالبحث عن المعنى والجوهر أهم بكثير من استعمال الكلمات السجعيّة في الخطاب رغم جماليتها، وقبل أن اختتم مقالتي هذه لا بدّ لي أن أتطرق إلى خاطرته الأجمل في هذه المجموعة من وجهة نظري لأنها تعبير صادق عن مشاعر عميقة جياشة مؤثرة جدًا في خاطرته ألَّتي استوحى عنوانها من القرآن الكريم ومن صورة القمر الاية 1″ وانشق القمر” يتحدث فيها عن طلعة العروس من بيتها في يوم زفافها فيقول بعد وصف المشهد وسكب أحاسيسه ومشاعره ” لم تذهب وحدها، بل أخذت معها كل جميل في بيتنا” ص 51 صحيح يا صديقي لكنَّها ستعود إليه أجمل وأروع وأنضج فهي سُنَّة الحياة وستملأه فرحًا وسعادة دائمة ومعها الأحفاد يملئون البيت حياة، فالعصافير لا بدّستترك العش يومًا لتملأ الحياة نشيد، ويختتم صديقنا علي خاطرته ” ملكة كانت تتربع على عرشها، وقمرًا أضاء عتمة السَّماء، أُؤكد لك يا صديقي، وهذا وعد ووعد الحر دين ، انها ستبقى ملكة تتربع على عرش بيتها وستبقى قمرًا يضيئ عتمة السَّماء” فهي في بيت عز ووفاء ومحبة، شكرا على الإهداء وإلى المزيد من الابداع.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*