لنار الحياة حول كلّ حيّ موقد… وفي كلّ نفس تحاول إدراك ذاتها منارة، بإلهامها تشعر وبوحيها تفكّر. لها الريح مذراة، والنسيم مصفاة. هي بعضي، وبعضها أنا. إن تعثّرت اعرورجتُ، وإن تعثّرتُ استعرت… إن شردتْ تغبّرتُ، وإن تغبّرتُ خبت. فما عساي أفعل لو خاوى الغبار وجهها النوّار؟ كيف يمكنني أن أُبصر ملاحة روحي متى شفّت، وقبح ذاتي متى أظلمتْ؟
آذار في نفس الحياة نارة/ شعلة تغمز الحياة بعين هدّارة أمّارة بألّا تثقل نومة الصبح! هذا الملّاح قبطان باخرة الحياة طاغية يوجّه الدعوة صارمًا، فيلهبني، ويشبّحماسي لتحسين صورة ذاتي قبل ميلان شمس النهار عن روابي الجمال. فصيح أمواجه ألسنة تنطق بالنصح صريحة تفيدني علمًا بأنّ ساعة ظلّي الظليل قد تزورّ، وتتركني في مفارق المجهول… فيشتدّ عقلي عودًا، وتشتدّ نفسي عنادًا، وعزمًا! فأقوم لتسييج حدودي بأغراس الزيتون والحجارة والسنديان… وأعود لأعزف معزوفة الظلال لأحواض البنفسج والزنبق والنعنع، فيحنّ مزمار آذار، ويميد الدفْ في صحن الدار!
آذار آسٍ طويل الباع، متى صفّقت فوق أبراجه النجوم نارًا تصبّ لأدراج صبحي الكؤوس دندنة ترقّص السيل في عروقي سلافًا يشعل نهار الغرام فيّ عرفانًا، وأنا الحقل المدين لها ماكنة حيّة لا تتوقّف عن تكرير ماء حياتي. نار تتملّكني؛ لا أقوى على الإفلات منها، مهما لانت أصابعها، وقست أصابعي!
نار مائيّة تنعكس في مرايا أحلامي ريشًا مسدلًا على عيون أوراق فصولي. فأصعد سلالم نفسي كلّ صباح،وأهبطها كلّ مساء، فيما هي نائمة تحلم بشذى النوّار… ولا تلبث أن تندسّ في لحافي حرارة تحاصرني حصارين: حصار محاذر لا يجرؤ على الهروب من القضاء، وحصار طفل يلحق مشيته الأولى مكبّلًا بأُمّ تخاف عليه منبهرًا مسرعًا لالتقاط جمرة تتوهّج في الموقد، خوفي عليه الزلقبخطأ موحل قد يسقطه أرضُا!
لكنّها نار لا تحرق الأصابع… لا دخان تنثر في فضاءالعيون… ولا تعادي الماء، بل تعشقه عشق مداوم شريكبتصميم رقصة الحياة! نار تقيم الدنيا وتقعدها خجولةتخبو منكفئة لا تبصرها عيون الظلاميّين! أمّا أنا فقد خطر لي أن أتمرّد، أُغامر وأتحدّى، عساي أفلح بالتحرّر من سحرها! فقلتُ أُغريها بجولة مع ريح البراري… وما انطلى عليها الخداع؛ فما كبت، ولا تلكّأت، بل تيقّظت لتكبشني كبش اليد وأنا أُحاول من خلف ظهرها أن أنأى عنها لأطوف، أرى، أُراقب، أتعرّف، أتعلّم وأكتسب… فرمقتني بنظرة نافذة، أدركتُ معها أنّني سأبقى تحت إرادتها، ما دمتُ إحدى بنات سرّها!
على هذه الحال عشرتنا مستمرّة؛ تصحو أتنبّه، ترصدني أرصدها، تدين فتوري، أُدين شبوبها… فلا هي مقتنعة بادّعائي، ولا أنا راضية بأحكامها الصارمة. فاجترعتُ حكمًا مخفّفًا يقضي بأن ألتزم الدوران حول محوري، وتلتزم بغضّ النظر عن هفواتي. على هذا توافقنا، وآذار شاهديتبختر حاملًا على ذراعيه جمالًا وبشائر، وبين عيونه نور محبّة وعطاء… فيظلّل السنديانة سرب مغرّدات ينشُدن السلام، ويُنشِدن مصفّقاتٍ: كلّ ربيع شمسيّ وأنتِ بخير أيّتها الحياة!