في ساعةٍ متأخّرة من اللّيل، وقبل انبلاج خيوط الفجر الحانية، التقت أربعٌ من الشّموع في غرفة شاعريّة تطلّ على شاطئ البحر، كان الجوُّ لطيفًا، ونسيمٌ خفيفٌ محمّلا بأسرار البحر يداعب تلك الشّموع المتحابّة!
تثاءبت تلك الشّموع بارتياح، وشرعت كلّ واحدة “تفضفض” عن نفسها وتحكي حكايتها:
قالت الشّمعة الأولى: أذكر أنّ فرحتي قد امتدّت على سويعات، ولن أنسى تلك اللّيلة الرّبيعيّة السّاحرة، وما زلتُ أتذكّر تلك الأجواء الرّائعة في جزيرة الأميرات، حيث الورود والأزهار تعبق بروائحها العطرة، وكانت الموسيقى الهادئة تنساب فتملأ القلوب، قبل الآذان، سكينةً وحبورًا، وصوت الأمواج الخفيفة يبثّ للعاشقينِ حولي الحكايات والأسرار…
شعرتُ في تلك اللّيلة الّتي اختفى فيها القمر المنير، وأطفئت مصابيح الكهرباء، شعرتُ أنّني أنا المعشوقة الّتي يحوم حول نورها العشّاق، كما تحوم الفراشات حول اللّهب.
ولكن، رويدًا رويدًا ذبلت العيون، وتعبت الأفواه، وكلّت الأجساد، فحانت لحظة الوداع الجميل، فودّعني العشاق بأنفاسهم الحارّة، فارتجفتُ وترنّحتُ وتراخيتُ فضاع منّي الشّعاع!
انبهرت الشّموع بحكاية شمعة الجزيرة، وظلّ وقعها يتردّد كالصّدى في الوادي العميق، وشعرتالشّمعة الثّانية بنشوة مفاجئة ذكّرتها بقصّتها الجميلة، فتأهّبت لسردها وقالت: أمّا أنا ففرحتي كانت غامرة صافية، أتذكّر تلك اللّيلة الرّائعة عندما حملتني العروس الجميلة “آمال”، وراحت تتهادى بثوبها الأبيض الفضفاض المزركش، وترقص وسط أترابها الحسان، وعيونها تشعّ ببريق السّعادة الموعودة!
وجاءت اللّحظة الّتي لن أنساها، اقتربت الأنفاس منّي، وبدون أن أشعر، اعتراني الحياء، فحجبتُ نوري وتركتُ العروس تذرف دموع الفرح!
تشجّعت الشّمعة الثّالثة لتروي حكايتها فقالت:
كم أنا سعيدة عندما أتذكّر تلك الحفلة البهيجة المتواضعة، حيث اجتمعت الأسرة لتحتفل بعيد ميلاد مولودهم البكر “أمل” في عامه الثّالث.
كنتُ كالأميرة الحسناء أتوسّط كعكة العيد، والكلّ حولي سعداء يغنّون ويرقصون، و”أمل” الصّغير يحتضن بعينيه الباسمتين الحالمتين الأهل والأصحاب مِن حوله!
وحانت لحظةُ فرحتي الفريدة، تقدّم منّي فارس الحفل “أمل”، وبنفخة طفوليّة بريئة أطفأ شعلتي المنيرة وسط تصفيق إيقاعيّ جميل!
تحاملت الشّمعة الرّابعة على نفسها، واستجمعت قواها، وانبرت تروي حكايتها:
أمّا أنا فقصّتي قد تطول، ولكنّي سأعمل بمقولة: خير الكلام ما قلّ ودلّ!
فرحتي بدأت ساعة حملني ناسكٌ متعبّد إلى صومعته الرّابضة على سفح جبل شديد الانحدار، وفي ليلة دامسة الظّلام أشعلني النّاسك لأنير وجهه وصومعته، ويا لسعادتي المحلّقة، عندما شرع النّاسك يتلو من صحائفه المباركة، ويردّد دعواته الصّادقة بصوته الخاشع الجليل، وأخذ يهتزّ ويتمايل ذات اليمين وذات الشّمال، فأحسست كأنّه يطير ويرتفع، وواصل التّحليق حتّى أضناه الجهد، فأطفأ شعلتي ليبصر النّور الأزليّ!
اندمجت الشّموع مع حكاية شمعة النّاسك، وبدأت ترتعش وتهتزّ، اعتراها الوسن، وقبل بزوغ أشعة الشّمس السّاطعة، هوت في سبات عميق عميق، لم تتخلّله الكوابيسُ ولا الأحلام!
23.2.2025