أول يوبيل في الألفيّة الثالثة –  عفيفة مخول خميسة

    وكأنّ جلالة العيد ساعةٌ في معصم الزمن؛ تمرّ فينا وتمضي! كنّا قد فرشنا له السمع والبصر منتظرين قدومه طيرًا كلّ ضلع من ضلوعنا له وتر… وعادنا، صدح كعادته… وفجأة سكت! في صفق جناحيه أصداء ضجر! سكت الكلام، فتخاطبت العيون: ما الذي بدّله؟ كيف تمكّن الشيب من غزوه؟ لماذا هدّل الزمان أجفانه… كلكل قامته… وغوّل لحيته، شاربه وشعره؟ ثمّ، ما الذي تستّر عليه؟ ما الذي أراد قوله بتغريدة الصباح؟ وبأيّ ريشة حجب عن المساء القمر؟ وما تساءلنا إلّا لنكذّب الحقيقة الفاقعة التي نعرف!

   والحقيقة هي أنّ جلالته، وبحسب سجلّات السماء، هو نحن العائدين إليه مرة في التاريخ نفسه، كلما أكملت الأرض دورة. فإن كان أليمًا سمّيناه ذكرى، وإن كان باعثًا على المسرّة سمّيناه عيدًا!

   غادرنا هذا الجليل تاركًا لنا حبل الكلام ممدودًا، فتوشوشنا وليل كانون الأصمّ يسمع حكاية خمس سنين عجاف قضاها جلالته منفيًّا، جلّها بين حُجَر كورونا القائمة خلف محيطاتٍ أمواجها تعلو مستغيثة، وتغور مستسلمة! فلا يبقى غير الصمت مؤنسًا يدعو لرحلة عاجلة إلى منابع الشِّعر… والتحليق مع العزلة نحو آفاق الموسيقى الكونيّة. لكنّ شيئًا من هذا مع الإقامة الجبريّة في بيت نُزِّلت عن حيطانه لوحات تمجّد السلام وصوَر تجدّد الأيام… وعن رفوفه المجسّمات الرخاميّة والجصيّة، واستُغلّت منصّات احتياطيّ من الشموع! أما المذياع المتنقّل بين الغُرف فيؤكّد حقيقة عقم التاريخ عن ولادة خبر يسرّ القلب؛ فالدماء في الشرق للركَب، والماء العذب من ينابيعه قد نضب! هذا صوت جلالة السماء، ومثله يأبى أن يفتعل مسرّة ليكذّب ما تسمع أُذنه وترى عينه!

   أعادني توعّك جلالته لتمثال رخاميّ فريد صدّرته رفًّا زجاجيًّا عاليًا، وهو هديّة عزيزة من زميلة عزيزة غادرت الدنيا، فعلا صوته مذكِّرًا بما كان قبل ستين عامًا داخل محميّة المدرسة/ المنزل…! لماذا لم أُنزّله عن عليّة معرّضة للاهتزاز؟ وهل، من حيث لا أعي، حكمتُ عليه بالإعدام تقطيعًا في حرب تفنّن أربابها بخطف أرواح الأبرياء، وفن ذاكرتهم؟؟

  عفونا عن العيد في يوبيله الفضيّ من ألفيّته الثالثة، وما جلالته إلّا نحن الأطفال مختبرات الحواسّ الاجتماعيّة بالألعاب والتراب والأصحاب… والأهل وأطباق الحلوى… والوقت المشرّع للفرح والجولات العائليّة… نحن العيد المُعاش!

   عذرناه، وما هو إلّا نحن الشباب المتوثّبين للعلا على ساق واحدة… والصاعدين أدراج الأحلام مدجّجين بأخيِلة لا تطالها على الأرض أقدامنا… نحن العيد المتخيَّل!

   تفهّمناه، وما هو إلّا نحن الوالدين الخائضين غمار تأمين وقود الحياة، المتحوّلين من أجساد متعرّقة لعيون متغرّقة، نصفها ساهر حارسًا أحلام الأولاد من الجفلات والهزّات، ونصفها مرابط عاكفًا على ضبط النار تحت قدور آمالهم وتطلّعاتهم… نحن العيد المطبوخ على حرارة المحبة!

   أكبرنا صدقه وباركنا وضوحه، وما هو إلّا نحن الجدّات والأجداد رواة حكايات الكفاح من أجل الكرامة مع الأمان والسلامة… نحن المشاة في غابات الحياة منتعلي الأمل والإرادة، والإيمان بأنّ التشذيب واجب والتهذيب عقيدة… نحن العيد المسموع قصيدة لا تنتهي مدّة صلاحيّتها!

   وتبدأ الدورة من جديد ليولد عيد آخر، سيحفر في حُجَر الأيام ذاكرة تنحني إجلالًا لرمز سماويّ تنقله قُطر الأرض حكاية متجدّدة… حكاية مسافرين ما إن يحطّ الموعد فيهم، حتى يلقوا بحمولتهم، يحرّروا كواهلهم مندفعين للاغتسال من عوالق الدرب، إمّا بصلاة، أو لشكر… أو لطلب غفران، ومزيد من العمر! ويتّفق الجميع على الرجاء بأن تكون أعمار الأبناء والأحفاد خزائن ذاكرة لا يحرجها السفور ولا يعيبها التعرّي!

    غادرَنا صاحب الجلالة صامتًا، فدلفنا إلى عربة الزمان جماعة من الأطفال والأحداث والراشدين والكهول، وانفرد كلّ بأغراضه يصنّفها، يرتّبها ويحفظها… أو يلقيها طعامًا للعتم!

   أمّا الحياة فبالأحلام تتجدّد، تنمو، تزهر وتثمر… فنحلم بعيد يبشّر مشرقنا الحبيب بتحويل دوحاته من سجون تئنّ لحقول وكروم تغرّد… نحلم به قاضيًا يحرّم على شيطان الحريّة القاتلة المبيت في أرض الأعياد! نحلم به راعيًا متمكّنًا من مقبض عصا تأديب الضمير العالميّ المتوحّش!!نحلم به عائدًا بهدية تاجر الذكاء الاصطناعيّ مذياعًا عجائبيّا يخبّر عن ربّ منصف سيحرّر الأرض من المشنقة؟؟ هذا ما تحلم به الحياة، ويتمنّاه كلّ حيّ أينما كان!      

1.1.2025

             

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*