قراءة في كتاب: “الصورة الكاملة – صفحات من سيرتي الذاتيّة” تأليف: بروفيسور لطفي جابر – د. محمود أبو فنة

إشراف ومراجعة وتصحيح لغويّ: عبد الرحيم شيخ يوسف وأحمد عازم.
الطيبة، 2024

سيرة صادقة هادفة:
لا أخفي ميلي وحبّي لقراءة كتب السّيرة، خاصّة إذا التزم المؤلّف بالصّراحة والصّدق وابتعد عن النّرجسيّة المفرطة وتجميل صورته للقرّاء.
بعد إتمام قراءة هذه السّيرة للبروفيسور لطفي جابر، يمكنني القول، إنّني وجدتُها تندرج ضمن السّير التي أعجبتني وشدّتني لما فيها من الصّدق والصّراحة، وبما كشفت لي عن شخصيّة المؤلّف الّذي تحلّى بالعصاميّة والطّموح والمثابرة لتحقيق أهدافه، وبما امتاز به من التّواضع والعطاء والعلاقات الإنسانيّة الدّافئة مع الآخرين.
يشير المؤلّف أنّه كتب هذه السّيرة على مدار عامين ونصف لعدم تفرّغه لهذه المهمّة، كما يذكر حبّه للقراءة والمطالعة منذ صغره، وكيف سعى بعد الزّواج لغرس هذه العادة لدى أولاده الخمسة، ويؤكّد على أنّ هدف نشر كتابه: “ليطالعه جمهور القرّاء، وليكون مصدر إلهام لجمهور الشّباب المقبلين على حياتهم الجامعيّة”(كتاب: “الصّورة الكاملة”: 8)
ويكرّر هذا الهدف من نشر كتابه فيقول: “أرجو أن أكون قد قدّمتُ لكم عملًا مفيدًا ورائدًا، وأنْ يكون مصدر إلهام للكثيرين والكثيرات من أبناء الأجيال القادمة” (م. ن: 10)
ويتطرّق المؤلّف في مقدّمته للكتاب إلى الصّعوبات الّتي واجهته في مسيرة حياته ودراسته وعمله، وكيف نجح في التّغلّب عليها وحقّق غاياته وطموحاته ليقدّم توصياته لطلبة العلم الّتي لخّصها على النّحو التّالي:
التّحلّي بالأخلاق الحميدة، المثابرة وعدم اليأس، التّواضع في المعاملة، تأكيد المشاعر الإنسانيّة، ممارسة البحث العلميّ، مواصلة التّعلّم والنّماء مدى الحياة. (م.ن:8 – 9)
أمّا هذا الكتاب فيهديه المؤلّف للمرحومَين والديه، ولزوجته ولأبنائه وأحفاده ولأخوته وأخواته ولأنسبائه ولجميع متعطّشي العلم والمعرفة.
كما يشكر الصّديقين: الأديب عبد الرّحيم شيخ يوسف والأستاذ أحمد عازم اللّذين راجعا الكتاب ونقّحاه.

ذكريات وتجارب المؤلّف في مراحل العمر
– مرحلة الطّفولة الغضّة والمدرسة الابتدائيّة:
ما يلفت الانتباه في هذه السّيرة ما يتمتّع به المؤلّف من ذاكرة قويّة، فهو يتذكّر أحداثًا ووقائع في طفولته المبكّرة ومن مراحل دراسته المختلفة، ولا أدري إذا كان المؤلّف يحتفظ بستجيل مكتوب لتلك الذّكريات والتّجارب.
لنْ أقومَ بسرد جميع الذّكريات والتّجارب الّتي عاشها المؤلّف في هذه المرحلة، ولكن من أبرز تلك الذّكريات الحديث عن دور أمّه في إدارة وتدبير شؤون البيت ورعاية الأبناء التّسعة، ولكنّه لا ينسى دور الأبّ الأساسيّ في توفير حاجات الاسرة النّاتجة عمّا يناله من عمله كسائق أحد تراكتورات الزّراعة والفلاحة، والغريب أنّ الأب كان يُتيح لابنه اليافع لطفي وهو في الحادية عشرة من عمرة سياقة تراكتور الحراثة! (م.ن:18)
وعن الدّراسة والتّعلّم في هذه المرحلة يذكر المؤلّف أنّه تعلّم صفّ البستان في غرفة مستأجرة، ثمّ انتقل للمدرسة الابتدائيّة ليذكّر أسماء بعض معلّميه في هذه المرحلة، ويتوقّف عند الصّفّ الخامس الّذي حصل فيه على جائزة تقدير لبراعته وتفوّقه في كتابة موضوع إنشاء بعنوان: “رغيف الخبز يتكلّم”. ويعترف المؤلّف أنّ هذا الحدث: “شكّل حافزًا لا يوصف لمواصلة دراستي” (م. ن: 18)
ويذكر المؤلّف أنّ أحوال الأسرة الاقتصاديّة كانت صعبة، والدّليل هو شراؤهم أوقية (250 غرام) من اللّحمة مرّة في الأسبوع. (م. ن: 20)
في عطلة الصّيف بعد انهاء الصّفّ الثّامن يحدّثنا المؤلّف عن تجربة رائعة في العصاميّة والمسؤوليّة والاعتماد على الذّات عندما سافر من بلدته الطّيبة إلى مدينة تل أبيب ليعمل أجيرًا في أعمال مختلفة مثل: العمل في دكان لبيع الخضار، أو العمل عند مكوجيّ أو العمل في سوق الكرمل، واللّافت أنّه كان ينام في تل أبيب في أماكن غير مريحة مثل: النّوم فوق سقف بناية أو في مخزن صناديق الخضار، وكان يعود في يوم الجمعة للطّيبة مع النّقود الّتي كسبها ليسلّمها لأمّه. (م. ن: 23)

– مرحلة التّعلّم في المرحلة الثّانويّة:
يذكر المؤلّف أنّه تعلّم الصّفّ التّاسع في المدرسة الثّانويّة في الطّيبة، لكنّه بسبب طموحه لم يكن راضيًا وقانعًا بمستوى التّعليم في هذه المدرسة، فقرّر الانتقال للتعلّم في مدرسة ثانويّة يهوديّة وهي “مكفي يسرائيل” – מקווה ישראל – بتشجيع أبيه، وقد استفاد كثيرًا في تعلّمه في هذه المدرسة الزّراعية وغذّى طموحه وثقته بنفسه خاصّةً عنما حقّق التّفوّق فيها في جميع المواضيع وبضمنها الأدب العبريّ والدّين اليهوديّ، فكتب عن ذلك:
“ويكفي أنْ أقول إنّه على مدار أربع سنوات من التّعليم كنتُ الطّالب المتفوّق على 400 طالب في الصّفوف المختلفة” (م. ن:25)
وفي أثناء تعلّمه في هذه المدرسة اعتاد زيارة مكتبة العمّال في شارع اللنبي في تل أبيب لقراءة المراجع والكتب العلميّة. (م. ن:28)

– مرحلة الدّراسة الجامعيّة:
بعد التّخرّج من مدرسة مكفي يسرائيل قرّر المؤلّف عام 1965 الالتحاق بكليّة الزّراعة في الجامعة العبريّة، وبعد عام انتقل لدراسة طبّ الأسنان في هداسا في القدس، لكنّه بعد ثلاث سنوات قرّر الانتقال لدراسة الطّبّ العام في جامعة تل أبيب ليتخرّج طبيبًا، ثمّ انتقل لإتمام التّدريب العمليّ في مستشفى هشارون في بيتاح تكفا.

الزّواج: تمّت الخطوبة في شتاء 1971، وأجريت مراسيم الزّواج في صيف عام 1972 وكان عمر المؤلّف 28 سنة!
كان الزّواج موفّقًا ورزق المؤلّف بخمسة أولاد هم: سهيل، منال، سمير، سهى، وأمير. وقد أنهى جميعهم دراستهم الجامعيّة!

التّخصّص والأبحاث: بدأ المؤلّف في مرحلة التّخصّص في مجال طبّ الأطفال عام 1973 في مستشفى بيلينسون، وتدريجيًّا اتّجه للأبحاث العلميّة الّتي احتلّت عنده كلّ الأولويّات، وتمحورت تلك الأبحاث حول الأطفال وزواج الأقارب وما يخلّفه من تشوّهات خَلْقيّة. وقد قام المؤلّف بمعظم أبحاثه على حسابه الخاصّ وبدون الحصول على منح وميزانيّات خارجيّة.
ومن الجدير بالذّكر أنّ ما قام به المؤلّف من الأبحاث الوراثيّة الرّائدة خاصّة أبحاثه حول زواج الأقارب في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، هذه الأبحاث أكسبته شهرة عالميّة وصارت تلك الأبحاث مرجعًا يستشهد بها الباحثون.
وفي بحثه حول مرض التّلاسيميا اكتشف نوعًا جديدًا من الهيموغلوبين فضّل تسميتَه على اسم الطيّبة فسمّاه هيموغلوبين طيبة “عرفانًا وإشهارًا لبلدي” (م. ن:44)
تابع د. لطفي نشاطه وحبّه في المزيد من المعرفة والتّخصّص، فحصل على منحة وسافر للولايات المتّحدة ومكث هناك حوالي سنة ونصف بعيدًا عن زوجته وأبنائه
وهناك عمل في المستشفيات ومارس الأبحاث، وأثرى نفسه ومعارفه.
تأسيس مركز الطّفل في الطيبة: كان الدكتور لطفي قبل سفره لأمريكيا قد بلور فكرة إقامة مركز الطّفل في الطّيبة، وساهم في جمع التّبرعات لبناء وفتح هذا المركز، وأصبح مديرًا له منذ افتتاحه عام 1992حتّى خروجه للتّقاعد عام 2014.
حقّق هذا المركز نجاحًا باهرًا في الطّيبة والبلدات المجاورة، بل على صعيد الدّولة، وكان لإدارة د. لطفي ومهنيّته وأسلوبه وتواضعه وتعامله الإنسانيّ مع العاملين في المركز ومع السّكان الفضل في هذا النّجاح، ولا عجب أن حظي بالتّقدير والاحترام من زوّار المركز، وتوّج هذا التّقدير بإهداء دكتور لطفي إطارًا “برواز” من إحدى الأمّهات دوّن عليه بيت الشّعر التّالي:
ملآى السّنابلِ تنحني بتواضعٍ – والفارغاتُ رؤوسُهنّ شوامخُ
وعلّق المؤلّف هذا البرواز بجانب شهادة البروفيسور وشهادة التّفوّق وصور الأحفاد والعائلة على جدران مكتبه في المركز! (م. ن:76)
ويشمل الكتاب عددًا من الكلمات والتّوصيات الّتي تشيد بالبروفيسور لطفي جابر وبأبحاثه وإنجازاته وعطائه وأخلاقه العالية.
وفي الكتاب أيضًا قائمة باللّغة الإنجليزيّة بعناوين أبحاث البروفيسور لطفي جابر المتنوّعة!
ومن الجدير بالذكر أنّ مدينة الطّيبة عرفت قيمة البروفيسور لطفي جابر، وقدّرت إنجازاته وأبحاثه وعطاءه، فكرّمته بأن أطلقت اسمه على مركز الطّفل في الطّيبة.
وختامّا، أوصي بقراءة هذا الكتاب لما فيه من صدق وصراحة، ولما فيه من العبرة والموعظة والاقتداء بسيرة المؤلّف ومثابرته وعصاميّته وتواضعه وأسلوبه الإنسانيّ في التعامل مع الناس في محيطه القريب مع أسرته وفي المحيط البعيد مع الأصدقاء والأطّباء والباحثين والمرضى، أضف إلى ذلك سهولة اللغة وعدم التكلّف والغموض.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*