لا زلت أذكر لحظاتي السعيدة في أحضان جدّتي، خاصّة في ليالي الشتاء، حين كنت ألتصق بها في الفراش، فتغمرني دفئا وحُبّا؛ فأذهب في سبات عميق حتّى الصباح.
كنت طفلة أحبّ الاستماع للقصص والخرافات، التي كانت ترويها لي جدّتي ببراعة، فتشدّني حركات وجهها وعينيها وفمها، فأراها تتفاعل مع أحداث القصّة، ترفع وتخفض صوتها وفق الأحداث، وكأنّها ممثلّة تقف على خشبة المسرح، فأحلّق مع الخيال وأرى نفسي إحدى بطلات هذه القصص التي تحاول الإيقاع بالغول أو ب” أمّنا الغولة” التي كانت تخطف الأطفال، أوأخال نفسي حوريّة تخرج من قعر البحر وتحقّق الأمنيات للصيّادين وغيرها الكثير من الخرافات الشائقة.
لكنّ خرافة مصّاص الدماء التي روتها لي ذات ليلة ليلاء، بقيت عالقة في ذهني حتّى يومنا هذا، فأخال مصّاص الدماء أمامي يريد امتصاص دمي، وكثيرا ما كنت أتخيّله في أحلامي عندما كنت طفلة، فأستيقظ مذعورة، ألجأ إلى أمّي لتهدّئ من روعي، وتبدأ في قراءة المعوّذات.
أذكر تلك الليلة جيّدا، حين بدأت جدّتي بسرد خرافة مصّاص الدماء، بصوت منخفض قائلةً:
في قرية صغيرة محاطة بغابة كثيفة، عاش سكّانها بأمن وأمان، حتّى ظهر لهم ذات ليلة مقمرة، كائن غريب، وبدأ ببثّ الرعب في نفوسهم، والقبض على من يراه ليلا، فيقتله ويمتصّ دماءه، ومنذ ذلك اليوم، بات الناس يخشون الخروج ليلا من بيوتهم؛ لئلّا يتعرضوا للهلاك من هذا الكائن الغريب الذي أطلقوا عليه “ظل القمر”.
قاطعت جدّتي وسألتها ببراءة، لماذا يقتل ويمتصّ الدماء يا جدّتي؟
إنّها أسطورة يا حبيبتي، ويمكن أن يأخذ الإنسان منها ما يريده ويفيده.
حسنا يا جدّتي. اكملي لي سرد الخرافة.
قالت جدّتي:
ذكرت خرافة مصّاصي الدماء لدى الكثير من شعوب العالم، كما ذكرت في قصص ألف ليلة وليلة، حيث تتحدّث عن أرواح شرّيرة حيّة أو ميّتة والتي ممكن أن تتحوّل لمصاصي دماء. إحدى تلك القصص تحكي عن زواج أمير مع مصاصة دماء تسمى «نديلة» والتي عندما يكتشف هويّتها يحاول قتلها..
سألت جدّتي: وهل تعود الروح الشريرة بعد موتها؟
كلّا يا حبيبتي. ألم أقل لك إنّها خرافة؟
وماذا عن مصّاصي الدماء؟ هل توجد في عالمنا كائنات تمتصّ الدماء؟
أجابتني: هناك خفافيش مصّاصة دماء، تتغذّى على دماء الحيوانات (مثل الأبقار والخيول)، عبر جرح بسيط تخلقه بأسنانها. أمّا الأساطير فتروي أنّ هناك كائنات حيّة تظهر ليلا وتتميّز بأنياب طويلة تستخدم لامتصاص الدماء.
أنا أخاف الخفافيش يا جدّتي وأخاف الليل.
لا تخافي يا حبيبتي، لا وجود لهذه الخفافيش ولا لهذه الكائنات في بيتنا.
في تلك الليلة نمت في حضن جدّتي ولم أجرؤ على فتح عينيّ حتّى الصباح.
تعود هذه الخرافة إلى ذاكرتي في هذه الأيّام، بعد أن تناقلت وسائل التواصل الاجتماعيّ، ظهور كائن غريب يعتاش على امتصاص دماء البشر، للبقاء على قيد الحياة. يتميّز هذا الكائن بقوّة كبيرة وذكاء خارق، وهو لا يقترب من نور الشمس، لأن ضوءها يحرمه من قوّته ويكشف وجهه الحقيقي الذي يبدو مشوها بفعل الغدر. لذا فهو لا يظهر إلا ليلا عند اكتمال البدر. هذا الأمر جعل كلّ حكام البلاد المجاورة تصادقه وتجزل له العطايا، حتّى تأمن شرَّهُ.
رويت أولى الحكايات عن هذا الكائن الغريب حين رآه ثلاثة شباب، سمير، حنّا ووئام، في الغابة المجاورة لبلدتهم، حين كانوا عائدين ليلا إلى بيوتهم، وهو ينقضّ على فريسته ويمتصّ دماءها،انعكس ضوء البدر على جسمه الضخم، فبدا لهم قبيحا، بشع الوجه، فمه كبير جدّا، وأنيابه طويلة حادّة، أمّا ذراعيه فيقدّر طولهما عدّة أمتار، له نظرات حادّة مرعبة، وصوت كهدير الرعد. سمع الشباب صراخ الضحيّة، المنبعث من بين أنياب مصّاص الدماء، صرخوا واستغاثوا، حاولوا إلقاء بعض الحجارة عليه، لكنها لم تؤثّر فيه، بل ازداد وحشيّة، وتبعهم وهو يهدر بصوت مخيف، تنبعث من فمه رائحة الدماء، وقد اهتزّت الأرض تحت قدميه، فهمّ بالإمساك بهم، لكنّهم سرعان ما أطلقوا سيقانهم للريح، ونجوا بأعجوبة.
وصل الشباب البلدة وقد شحبت وجوههم، وارتعدت فرائصهم، رآهم بعض الرجال الذين كانوا يتسامرون أمام أحد البيوت، فهبّوا لمساعدتهم، أجلسوهم على مقاعد خشبيّة، أحضروا لهم الماء،هدّؤوا من روعهم، واستمعوا لحكايتهم.
استغرب الرجال من هذه القصّة التي بدت أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، قال أحدهم: ربّما هو مجرم ارتدى زيّا مخيفا لينتقم من عدوّ له. وقال آخر: قد يكون حيوانا غريبا مفترسا جاء إلى غابتنا، في الصباح ستتكشّف الأمور وكما يقال في أمثالنا” بكرة بذوب الثلج وببان المرج”.
عاد الشباب إلى بيوتهم، تساورهم أفكارٌ شتّى. قال سمير منذهلا: هل يمكن أن يكون هذا الوحش رجلا متخفيّا بزيّ مصاص الدماء؟
قال حنّا محتدّا: لا أعتقد. ألم تر أنيابه الحادّة، وأظافره الطويلة؟ ألم تر كيف انقضّ على فريسته وبدأ بشرب دمائها؟
قال وئام: ربمّا هو وحش غريب قدم إلى غابتنا كما قال أحد الرجال. أعتقد أنّه كان علينا التفكير في حيلة للإيقاع به بدلا من الهرب.
ربّما معك حق. أجابه رفيقه حنّا بصوت مرتعش: كيف يمكننا أن نواجه كائنا مخيفا ووحشا مثل هذا؟ من الطبيعيّ أن يغلب الرعبعلى العقل والتفكير، فتصرّفنا وفق مشاعرنا.
قال وئام: إذا لم نحاول نحن الشباب التخلّص من هذا الوحش، فمن سيقوم بذلك إذن؟
سنرى ما سيجلبه الغد لنا، قال سمير وحنّا.
افترق الأصدقاء على أمل أن يلتقوا مرّة أخرى وهم في حال أفضل.
في الصباح حين صحا الناس من نومهم وخرجوا إلى أعمالهم، وجدوا العديد من الجثث الملقاة على الأرض، دبّ الرعب في قلوبهم، تناقل الناس ما رواه الشباب لرجال القرية، ارتعب بعضهم وغادروا البلدة؛ للعيش في مكان آمن، وصمّم آخرون على مواجهة مصّاص الدماء وقتله.
سارعت السلطات الحاكمة إلى نفي هذه الخرافة، وأعلنت أنّ الجثث الملقاة على الأرض، هي نتيجة انفجار حدث في مخزن أسلحة قريب من البلدة، على أثر خلل تقنيّ فيه، ولا أصل لخرافة وجود مصّاصي دماء في البلاد.
تداول سكّان البلاد هذه الحادثة، صدّقها البعض وأنكرها الكثيرون.
أمّا أنا فحين آويت إلى فراشي، تذكّرت خرافة مصّاص الدماء التي روتها لي جدّتي، تذكّرت ما قالته لي حينها، بأنّ الإنسان يمكنه أن يتعلّم من الخرافة ويأخذ منها ما يمكن أن يفيده. تساءلت في نفسي: هل حقّا شاهد الشباب كائنا غريبا أم هيّئ لهم؟ ورغم أنّني لم أجد جوابا لتساؤلي، إلّا أنّ خرافة مصاص الدماء أو كما يسمّونه (دراكولا)، بدت لي أقرب إلى الواقع منها إلى الخيال والخرافة، وقد يكون مصّاص الدماء هذا تجليّا من تجليّات هذا الزمان الذي تنعدم فيه الانسانيّة والرحمة، وإلّا فكيف نفسّر شلالات الدماء التي تجري دون انقطاع في البلاد؟
قطع شرودي صوت أقدام قويّة خارج غرفتي، نهضت من فراشي، أزحت ستار النافذة ونظرت إلى حديقتنا، فرأيت ظلّا طويلا تحت ضوء القمر.