شْوَيِّة حكي تحت النار! – عفيفة مخول خميسة

“كان الزمان وكان في دكّانه بالحيّ…” تبيع خرز وشمع وقناديل… قلام ومحّايات وخلاخيل… قلوب وحكايات ومناديل… صُرَر من سرار ملفوفه بحرير… وانهدّت الدكان وتعمّر سوق كبير!! قيل أنّه سوق للتجارة الحرة. على البسطات كلّ ما يخطر ولا يخطر على بال بشر! هنا تجد نقاقيف للصبيان، عبوات ناسفة للبنات، بنادق عابرة للقارات، بالونات متفجّرة، كواتم صوت، ضمّادات مفخّخة، وتشكيلة واسعة من الأحزمة والعصيّ والهراوات الناريّة لكلّ الأجيال، بما فيم الرضّع والكهول!
هذه المعروضات المثيرة تفقدني القدرة على الكلام… وتضيّع مني الطريق لمن سكّنتُه قلبي، ولم أدرِ أنّه سيستولي على زعامة أحلامي! على باب الدكان تعرّفتُ عليه أمس، وتتبّعته خارجًا والمساء، يحمل قلمًا ودفترًا، وشمعة انعكست في عينه لمعة… وفي قلبي ولعة… كيف ما كان أحببتًه “بدون شوشرة”… وكان حبي حكاية قسَم!
فقد أبصرتُ خلف بشاشته لونًا مختلفًا من الجمال… وبين بقع شطآن نظراته استراحات متاحة للعشّاق… في محيطه سأُمارس الإبحار غير عالمة أنّني سأُصاب بدُوار العشق والتحليق قبل أن أُرسم المسار… أو أنّني سأُفتن بالدوران في مجاهل تعجّ بأحياء متوحّشة! فما كان أسهل اصطيادي بطرف عين، فلم أُبصر من الليل غير غمزات الضوء، ومن النهار غير ظلال ورود متعانقة! فلقد فهمتُ المقروء على هامش صمته، أنّه عاشق كلمة يراها أُمًّا، لا تعتبر الانتصار عليها، أو لها انتصارًا للحياة، بل انتصارين… وعليه تنقّلتُ بين سطور هذا الحبّ وأطرافه متيّمة… حتى سكنتُ، استوطنت، سجدتُ وصلّيت. وانغرست أمام باب الكلمة الأُمّ ترنيمة شرقيّة لها السماء تنزل، ومنها الحياة تصعد، على مدى الدهور! صلاة كصلاته؛ كتابها ورقة، وقلم شرطيّ يعتقل كلّ فكرة تحاول الخروج من نافذة العقل بدون ترخيص!
في هذا اليوم الخريفيّ المستعر يغسل الحبّ دماغي غسيلًا جذريًّا، فيستجرّني لثرثرة مع ألسنة النار، فأنصهر! ولكن بحبّ يتحسّس نبض الحياة منتصرًا على صفقات الهوجاء! وأنحني سنبلة سعيتُ ذات يوم أن أكونها، فزحفتُ على التراب، ويدي مشبوكة بيد الحياة نبتة تلاطف أقدام الرياح الغضوب. وتعجبني مرآتي توشوش الزوبعة فتهدأ! وأطرب طرب شحرور يغازل غصنًا مع النسيم يلعب. عجبًا، كيف يبدو العمر لناظر مرآة الساعة طفلة تفكّ ظفيرتها وتجدلها دمية في حضن الدار، وسط الدمار تلهو!؟ لعلّها مثلي، ترى الحبيب كما كان أمس؛ سماء تتّسع لأذرع الآمال… وأرضًا تنتشي بخمرة الأحلام… وجنات حقول حنطة تفيض بنعمة الامتلاء… فهل أتجاهلها وأبقى رهينة بين حبيب سماويّ الهوى، وحبّ أرضيّ البشرة، بنيّ من قهوة أُمها، وخروب أبيها الظليل طيّب المشرب؟
مجرّد هبّة هوًى ساخنة، ارتدّت عليّ ضوْعة عطر ليمونيّة، سرعان ما انتشرت في خلايا اللحظة قصائد فتيّة ما التفّت بحرف علّة إلّا تمسّكًا بالرداء. زجليّة تعود بالحبيب مع المغيب، طرقَ ليلٍ حفيفه خشخشة تحكي قصة الأشواك والقشّ مع السماء. وهي مقطوعة سأقطفها عناقيد من حروف تتدلّى إغراءً يخطّيء الشعراء! لكنّني سأفعل مستلهمة برنين الأحجار الكريمة في بطن الأرض يهبّ هبوب حبّ ثائر تلاطفه دموع فرح وحزن يتخاطفان البكاء… فأهطل طربًا بحبّ خشبيّ العود يحرقني، وهو المنحوت من جذعٍ عجوزٍ رصد النجوم ساكنًا بين هدير وخرير يترجمان لغة الماء…! هذه أولى شتوات حلمي الجديد، معها سقطت الحياة على الأرض شاعرةً مقلَّدة مفاتيح طريق الفداء. والفداء عمل صوفيّ لا تعنيه حرارة الإطراء!
بشائر الضوء تدغدغني، فأضحك من أتربة البحار، ومنّا، كيف نتجاهل أنّا أخوة هذا الانتشار! قمتُ لتوّي، زرعتُ الشوك في لساني صبرًا جميلًا! فلا أرجمنّ بالأكواز، إلّا مقشّرةً، كلّ مَن يفيّق طفل الحارة مذعورًا، ويفزِع الجدي والمهر وكلب الجار!
تكوّرتُ بين أطرافي متحرّرة من قيد العاطفة، نزلتُ إلى أعماق ذاتي، لأهمس بنصح لولد الولد/وطن: إن كنتَ حصانًا فلا تتنازل وتقبل بحمولة مهر! وإن كنتَ مهرًا فاجتهد لأن تكون حصانًا! ثمّ التفتُّ لابنتي محذّرة من الوقوع في شرك الخِدع البصريّة، فلا تكون تلك التي بين الزجاج والماس تبلبلت فهتفت: ماس! دفعت، ثمّ صرخت: يا لبؤسي؛ لقد تفتّت الماس… وتهشّم القرط والخاتم والسوار!! وهمستُ لها راجية: لا تخلعي ثوب الكتّان قبل أن تهيّئي جلدك، فيصبح قابلًا للتكيّف مع الحرير! فالحرير كعيد مستورد مقنّع يستدرج الطفل، فيحبو نحوه مسرعًا فرِحًا، وركبتاه لا تدركان ما ينتظرهما آخر المشوار… وأصمت صمت خطاب حبيب شهم الطويّة ما أفتى لشخصه دناءة، واختلق لنفسه الأعذار! هو الكتاب الذي قرأت فيه أجمل المرويات طيّ تراب الأبرار! وكم ردّدتُ على الملأ:
اشتدّي يا أرض اشتدّي! إنّه بلدي المولود من بطن وطني منذورًا مجلّلًا بالأشواك الأرضيّة… فلا تحزني يا نفس! بل افرحي بمن، منذ البدء كان كلمة كلّ حيّ فيها، وكلّ جماد حبيبا. هذا هو الوطن، الحبّ الذي ربّطني فرسي بين فجره وأصيله، حيث الصباح مبتدأ الأخبار، والمساء خبر تبدأ عنده حدود السماء!
هكذا هجّأتُه أدبًا… هكذا قرأتُه فكرًا… هكذا أحببتُه وهمًا… وهكذا فشلْتُ في حبّي، وخيّبتُ أحلامي، بإخفائي عنها أنّ وطنها قد باع حصّتها بثلاثين من الفضة لأبشع الأقدار!!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*