الذائقة الأدبية بين الثابت والمتحول- قراءة في ديوان “أجراس عاصفة”  –  رياض كامل مقدمة

 فاجأت الناقدة علا عويضة القراء بإصدارها ديواني شعر، يحمل الأول اسم “أجراس عاصفة” (2024)، والثاني “ليل لا يشبه الليل” (2024)، بعد أن حفظتهما في درجها سنوات طويلة، وبعد أن قدّمت أبحاثا ودراسات تكشف عن معرفة واسعة في مجالات عدة خوّلتها لأن تحمل، بجدارة، لقب الناقدة. تذكّرنا هذه التجربة ببعض الدارسين في العالم العربي الذين ألّفوا القصائد ونشروا دواوينهم الشعرية بعد أن كانوا قد ثبّتوا أسماءهم في مجال البحث الأدبي. يبدو أن لقب شاعر يغوي الباحثين والقراء على حد سواء، أو أن هذا الدارس كان قد اعتقل الشاعر في صدره وكبّله بسلاسل من حديد وأوصد عليه الأبواب إلى أن ثار هذا وخلع القيود وانطلق.

هي خطوة تحمل الكثير من الجرأة والمجازفة، لأن القرّاء لا بدّ أن يقيموا مقارنة بين كتاباتها النقدية وكتاباتها الشعرية وقياس ما اكتسبته من هذه التجربة الجديدة بعد أن حقّقت إنجازات لافتة في مجال البحث. ومن الطبيعي أن يكون التوقّع على قدر هذا النجاح. وهي، من خلال لعبة تبادل الأدوار هذه، تتنازل مؤقّتا عن دور الناقدة لترتدي ثوب الشاعرة، وبالتالي تحوّلت من دور الهجوم إلى دور الدفاع ووضعت رقبتها تحت مقصلة الناقد. وبما أني لم أتقلّد مهمّة السيّاف طوال مرحلة إقامتي في حقل النقد فلن أكونه في مثل هذه الحالة بالذات، وذلك لعدة أسباب أهمها: وجوب التعامل مع هذين الديوانين على أنهما باكورة أعمالها الشعرية، من ناحية، وأنهما يصدران بعد فترة زمنية طويلة من كتابة قصائدهما على ورق بيتي قبل أن يعرفا طريقهما إلى المطبعة، من ناحية ثانية. والأهم من هذا وذاك أن علا عويضة تثبت، بما لا يقبل الشك، أنّ أدواتها الفنية كانت قد اكتملت ونضجت في سن مبكرة جدا، وما كان عليها أن تتأخّر في الإصدار، ففوّتت على ذاتها فرصة انتباه النقاد والتفاتهم إلى شاعرة كانت لا تزال في مقتبل العمر.

نذكّر أنّ النقد ما كان ليقدّم شهادة تجيز للأديب أن يكتب، ولا ليصدر أمر اعتقال بحقّ كتاب. إن للنقد دورا أوسع من هذا بكثير، إنه عملية تقويم وتقييم وحفر في جماليات النص وفق معاييرَ فنيةٍ تتطوّر وتتجدّد، مع الحفاظ على الثابت والمتحوّل؛ الشعر يبقى شعرا له أصوله، والمتحوِّل هو طريقة تشكُّل القصيدة، وما يتخلّلها من ثقافة ولغة متجدّدتين. وهذا المتحوّل طالما تعرّض لانتقادات شديدة، سواءٌ من المثقّفين المتزمّتين، أم ممن لا يواكبون تطورات الشعر الحديث والمعاصر. فالشعر العربي قديم جدا تمتدّ جذوره قرونا عديدة شهد، عبر مسيرته الطويلة، تحوّلات عدة في الشكل، لكن رغم عامل الزمن، فإن ما لا يعتمد الأصول الكلاسيكيةَ من وزن وصدر وعجز وقافية وروي، برأي هاتين الفئتين، ليس شعرا. إذًا كيف نقرأ الشعر الحديث الذي يجافي الوزن؟ وكيف نتذوّقه؟ سؤال ما انفك يتكرّر كلما قرأنا ديوانا جديدا. وبالتالي هل عملت علا عويضة على تأثيث قصائدها النثرية بتقنيّات ووسائل تؤهّلها لخلق حالة من التواصل بينها وبين القارئ؟

 

المتحوّل يثبّت أقدامه

لقد تعرّض الشعراء المجدّدون لوابل من النقد، حين كتبوا شعر التفعيلة منتصف القرن العشرين، دون أن يردعهم ذلك عن المتابعة في التجديد حتى تجذّر هذا النوع الأدبي وبات الأكثر انتشارا. وفُتح باب النقاش على مصراعيه حول “قصيدة النثر” منذ ستينيات القرن الماضي، ولا يزال، دون أن يردع ذلك كثيرين عن متابعة الكتابة، بعد أن انطلق على يد مجموعة من الطلائعيين التي تمكّنت من اختراق ذوق القارئ العربي.  واكب هذه الحركة مجموعةٌ من الدراسات التي تبيّن الأصول والأسس التي يجب اتباعها ومراعاتها في كتابة هذا النوع الأدبي. أما ظاهرة كثرة المعتدين على حقل الشعر والشاعرية، بحجة كتابة قصائد نثرية، فلا تجيز بأي شكل من الأشكال إصدار أوامر عسكرية تدعو إلى وأد “قصيدة النثر” وإبعاد مؤلفيها المجيدين عن حقل الأدب. ثم هل ما زال التلقي على حاله؟ ألم يطرأ تغيير على الذوق العربي؟ وهل الذوق بكاف في عملية التعامل مع الفن والأدب؟

علّمتنا الطبيعة أن كل ما فيها غير ثابت، كما هو حال الأدب والفن اللذين يتجدّدان ويتبدّلان، وكما هو حال النظريات التي تتوافد وتتلاحق معتمدة على الدراسات المنهجية في المعاينة والمتابعة والتمحيص في إبداعات المؤلّفين. وما كان المنظّرون والباحثون من شرقيين وغربيين ليتوصّلوا إلى نتائجهم لولا تفحّص عدد كبير من النصوص، وتقصّي بنائها ومواضيعِها ومركّباتِها وشكلِها ولغتها، وما حقّقته من أثر لدى المتلقي. وما كان الناقد ليدلي بدلوه إلا من خلال المعرفة الواسعة في حقول أدبية عدة.

لم تسع هذه التنظيرات إلى إلغاء دور الذوق لدى “القارئ النموذجي”، الذي يطوّر هذه المهارة بشكل متواصل وتدريجي من خلال الممارسة وتكرار التجربة القرائية، وما يتبع ذلك من تأثير وتأثّر بين القارئ والنص، واكتشاف مكنوناته مع كل قراءة جديدة، وهي، وإن كانت عملية مضنية، إلا أنّ فيها لذة، كما بيّن ذلك رولان بارت في دراسته التي تحمل عنوان “لذة النص”. وكي يتحقّق ذلك تقع على كاهل المبدع مسؤولية تخييل المنتوج مؤثّثا بصور شعرية مبتكرة، وبلغة متفرّدة مغايرة عما سبقها تفعّل الحواس من شمّ ولمس وذوق وبصر وسمع لتحفّز القارئ وتحثّه على المتابعة وإحياء النص من جديد بعد أن انتقل من يد مبدعه إلى يد ناقده. تقول إيميلي ديكنسون “إذا بدأت أقرأ وشعرت أن قمة رأسي قد انتزعت فإنني حينئذ أدرك أن ما أقرأه شعر” (إليزابيث درو، ص104)، هذا يعني أن مثل هذا القارئ يمتلك نعمة التذوّق، وأن حواسّه تتفاعل مع الشعر الجميل، وهذه ميزة هامة تؤهّله للتفريق بين الغث والسمين. ومنعا للبلبلة نسارع إلى التأكيد على أن دور الناقد لا يتوقف عند التعبير عن الإعجاب أو عدمه، إذ تقع عليه، بصفته وسيطا، مَهمَّة الفهم والتفسير والتأويل. ولن يتحقّق ذلك إلا من خلال الفحص والتمحيص والبحث عن جماليات النص وتقنيّاته. إن للشعر مفعولا أشبهَ بذبذبات أو تموّجات خفيفة تنبعث على سطح الماء ثم تتسَع فتنداح دوائر، بعضها يصل قريبا وبعضها يصل بعيدا وفق ثقافة المبدع والمتلقّي كل من زاويته؛ الأولُ في قدرته على التأثير والثاني في قدرته على التلقّي.

تدخل علا عويضة وغيرها في هذه التجربة بعد أن ثبّت أقدامَ هذا النوع الأدبي شعراءُ ذوو تجربة ناجحة، وبعد أن دعمه باحثون ودارسون وضعوا الأسس والقواعد التي يجب اتباعها منعا للبس والبلبلة والضياع، وهي الأسس المتينة التي اعتمدتها علا عويضة في هذا الديوان، موضوع دراستنا، كما سنبين لاحقا. من أبرز من كتب “قصيدة النثر” في لبنان وسوريا أدونيس، وأنسي الحاج، والماغوط، وسركون بولس، ومن أبرز من كتبها من شعراء فلسطين جبرا إبراهيم جبرا، توفيق صايغ، وعزالدين المناصرة، وطه محمد علي ابن قرية صفورية الذي أقام في الناصرة وتوفي فيها.

أثار هذا النوع الشعري، كما أسلفنا أعلاه، نقاشا يبدو أنه لن يتوقف، وذلك نابع من كونه يكسر أصول الشعر العمودي من إيقاع ووزن وقافية اعتادت عليها الذائقة العربية قرونا طويلة من الزمن. ولربما كان المثير حقا هو هذه التسمية التي تجمع بين الضدين: “قصيدة”، و”نثر”. هي تسمية فيها الكثير من المخاطرة والمجازفة إذ أجازت لكثيرين دخول هذا الحقل معتقدين أنهم يكتبون شعرا وإنما هم يكتبون نثرا تقريريا مباشرا مزركشا بسجع مفتعل يعتقد كاتبه أنه قافية. والقصيدة في الرصيد العربي لها مواصفات مغايرة كليا لتلك المتعلقة بالنثر. وكان العرب، قديما، قد حدّدوا لكل نوع منهما مناطق “جغرافية” تفصل بينهما وتحول دون لقائهما؛ فهذه تخوم الشعر وتلك تخوم النثر.

أدرك الشعراء الذين يكتبون مثل هذا النوع من الشعر ضرورة تعويض الجرس والوزن اللذين تعتمدهما القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، فاتجهوا نحو الإيجاز، والجمل القصيرة المكثّفة، والصور اللغوية المبتكرة، والاستعارات، والدلالات والإشارات. ومنهم من اعتمد الجرس الداخلي كما بينّا ذلك في دراسة لنا حول شعر طه محمد علي. (كامل، توهج الكلمة) يبدو أن هؤلاء الشعراء قد أدركوا أهمية الأثر الذي يتركه الشعر في القارئ، وهو موضوع في غاية الأهمية تطرّق إليه المنظرون منذ الإغريق وحتى اليوم، وليس صدفة أن تطرّق العرب إلى موضوع الأثر الأدبي، والآثار الأدبية. فالشعر في عرفهم ليس كلاما موزونا ومقفى فحسب، بل تعدى ذلك إلى الأثر الذي تجلّى في تسميتهم لهذا النظم، “قصيدة”، من المصدر قصد وما تحمله هذه التسمية من أبعاد.

 

الشعر يولَد فكرة ويتبلور لغة

الشعر مثل كل أنواع الفن يبدأ من خلال فكرة ترسل إشعاعا خفيفا يأخذ في التحرك، حتى إذا ما اختمرت ونضجت خرجت إلى حيّز النور مصوغة وفق بنية فنية مؤثّثة بتقنيّات تؤهّلها للتحليق والوصول إلى القارئ. لم يكن الشعر، مذ خلق، نظما، إنما هو مزيج من فكر وصياغة وبنية. والشعر لغة مستفزّة تثير تساؤلات عدة حول ماذا يقول الشاعر، وكيف قال، وأيَّ الوسائل وظّف.

تثير علا عويضة عدة تساؤلات حول قضايا يومية تشغل الناس الباحثين عن أسرار الوجود، من خلال مشاهداتهم وتجاربهم الحياتية، مدركةً أنّ الشاعر لن يكون شاعرا إلا إذا حاور الطبيعة، وساءل كل ما فيها من بشر وحجر وشجر، ولن يصل إلى مرتبة الشاعر إذا لم يحاور العاصفة، ولم يداعب النسيم، وإذا لم يصغ لحفيف أوراق الشجر، ويجادل الأوّلين واللاحقين. وهي إذ تقوم بدراسة محيطها ومعاينته ومراقبته، بعمق ورويّة، تقوم أيضا بطرح أسئلة حول الواقع الذي تعيشه معتبرة أنّ متابعته، بكل تعقيداته، من شأنها أن تثير القارئ وأن تستفزّه ليصبح جزءا من مشروعها الفكريّ عبر المشاركة والمحاورة؛ والمحاورة من أهم مميزات “قصيدة النثر”.

لم تذهب الشاعرة نحو التغريب ولا الإغراق في الغموض والإبهام في طرحها، كما يفعل البعض ممن يكتبون في هذا النوع الأدبي، وبقيت عند تخوم المدرّك بعيدا عن التقريرية والمباشرة. وليس ذلك بالأمر السهل؛ إنه السير على خيط دقيق؛ لا تهبط في مهاوي التقريرية ولا تغرق في الإغراب، مما يفتح الباب أمام المحاورة وتعدّد الرؤى. وعلا تفاجئ القارئ حين يقف متروّيا أمام نصوصها لا متعجّلا، وإلا تسرّبت الفكرة من بين أنامله كما يتسرب الهواء.

قلنا إن علا عويضة ناقدة وباحثة معروفة قدّمت وستقدم الكثير من الدراسات والأعمال النقدية المهمة. وستكتب شعرا أكثر جودة بعد أن أصدرت ديوانين يشهدان على ولادة شاعرة مُجيدة تدرك جيدا لعبة الشعر، وتملك حسّا ناضجا، ووعيا لذاتها، إذ حين تناوش إبرةُ الشعر وجدانَها وأحاسيسها ومشاعرها فإنها تعمد إلى المفردات التي تلائم الفكرة. وهي تعرف كيف تنسج منها عالما شعريا راقيا لأنها تمتلك اللغة السليمة الغنية الثرّة؛ واللغة هي الوعاء الذي يحوي كل مكونات النص الأدبي والآلة التي تنسج هذه المكونات. وقد تجلّت جماليات لغتها في نثرها الذي جاء في تقديمها للديوان: “كنت يومها ألاعب الأبجدية كما يلعب جدّي مع حجارة النرد. كان يلقي الحجارة ويراقبها، وفي ذهني تتقلّب الصور بصمت؛ تقفز الحجارة تدغدغ الطاولة ثمّ تستقرّ على صدرها، وفي ذهني تقفز أفكار حائرة، تدغدغ أبجديتي ثمّ تستقرّ على صدر الورق”. تحمل هذه اللغة كل مواصفات اللغة الشعرية في صورها واستعاراتها ودلالاتها، وفيها رؤية لأفكار تقدح شررا قبل أن تخرج إلى الفضاء. واللغة مراتب ودرجات كلما ارتقى صاحبها في الذوق والمعرفة درجة أصبحت أكثر توهجا وإشعاعا، لأنها هي أيضا الوسيلة التي تنقل الأفكار من المرسل إلى المرسل إليه؛ من المبدع إلى المتلقي.

إنّ تأملات علا عويضة بعيدة كل البعد عن تأملات الرومانسيين الذين وجدوا في الطبيعة ملاذهم من هموم البشر، لأنها تذهب نحو الشمولية في المكان وفي الزمان. والمكان لا يقتصر على موقع جغرافي بل هو فضاء واسع شاسع يتأثّر به الإنسان ويؤثّر فيه، وهو مركّب من عناصر عدة تتداخل وتتنافر وتتعارك وقد تندمج فيما بينها. والزمان ماض وحاضر ومستقبل، وبالتالي يتغيّر المكان ضمن هذه الأزمنة. ويقيني أن قرارها، في ترتيب نصوصها، لم يكن عفويا، وبالذات في اختيارها قصيدة تحت عنوان “سمفونية لا تنتهي” لتفتتح به هذا الديوان. أترك للقارئ أن يفكر في مركبات “السمفونية” وفي اتساع شموليتها وفي بعديها المكاني والزماني، وفي فكرة القصيدة وفي ثوريتها وفي دعوتها إلى أن يكون البشر مثل “أجراس عاصفة”:

“في الليل

تمزّق صورتُك السماء

ويبدو خيالُك كالسحبِ

وصوتُك كأغنيةٍ قديمةٍ،

نطوف على تغريد كل هدهدٍ

نلهو بالنجوم

نكتب تاريخَنا

حتى تنطفئَ

فنستريح.

نستريح

في طيات السماءِ

في جَفنِ الليل

حتى يندلعَ الفجرُ

إلى أقدامِ الفضاءِ

فنتأرجحُ مع الفجرِ

نزرع في فمه تغاريد

ونملأ الأزهارَ عطرًا،

ثم نستقرُ على جبينِ السماءِ

ننيرُ البلادَ

فنكونُ كالشمسِ

نكون كقبلةِ أمٍّ على جبينِ ابنها

ونكونُ

رحلةً طويلةً

سمفونيةً لا تنتهي،

نكونُ نحن”. (الديوان، ص9-10)

إنّ الشعر صناعة ولكنه صناعة فنية عمدته اللغة، وللغة حسب يول وأويلي وظيفتان؛ وظيفة تواصلية، أهمها نقل المعلومات، وهو دور هام في زيادة المعارف، ووظيفةٌ تفاعلية للتأثير في المستقبِل حتى يتقبّل فكرة معينة، فإن نجح صاحبها في صياغتها فإنه ينجز المهمة، وإلا بُتر النص وتخلخل.

يكفي القارئ أن يقوم بمعاينة اللغة في القصيدة أعلاه والتوقف عند صياغتها وكناياتها واستعاراتها وصورها ليميّز بين اللغة التواصلية واللغة التفاعلية المهيمنة على النص. فمن خلال تداخل ألفاظها وانسجامها الكلي معا تولّدت معان مبتكرة واستعارات بكر غير مسبوقة في مثل: ” ويبدو خيالُك كالسحبِ”، “وصوتُك كأغنيةٍ قديمةٍ”. فكيف يكون الخيال كالسحب؟ وكيف يكون صوت الإنسان مثل أغنية قديمة؟

لقد تحدَّث الدارسون عن مستويات اللغة، وهو مجال شاسع لا مجال للحديث عنه هنا، لكنا نرى كيف قامت الشاعرة بخلق استعارات غير تقليدية بالرغم من وجود كاف التشبيه المعروفة التي تحمل عادة توازنا بين طرفي التشبيه، لكنها هنا انحرفت عن وظيفتها التقليدية بحيث لا نستطيع أن نتحدّث عن وجه الشبه بين المشبه والمشبه به، كما اعتدنا سابقا، بل علينا أن نبحث عن الدلالة. وهو ما يميز قصيدة النثر الحداثية التي تسعى إليها علا عويضة كما سنبين لاحقا.

إنها تبتكر الصور والاستعارات والكنايات وتلقيها للمتلقّين كي يتحاوروا معها ومع دلالاتها، لا مع معانيها المباشرة ولا مع مفاهيمها المعجمية القارّة. سيغوص المتلقي في البحث عن الليل وعن الفجر وعن دلالتيهما وعن علاقتهما بمجمل القصيدة ليرى إلى أن الشاعرة تحمل رؤية متفائلة ومتحدية وثورية. وسيرى أن المفردات خرجت عن إطارها المعجمي، وباتت في اجتماعها بمفردات أخرى تكوّن مفاهيم جديدة لا تسعفنا المعاجم في فهمها، وأنها تحتاج إلى قارئ متمرس قادر على الفهم والتفسير والتأويل.

 

تعدّد القراءات وغياب المرجع

هناك ثلاث سلطات مترابطة: سلطة المؤلِّف، وسلطة النص، وسلطة القارئ. يخلق المؤلِّف النصَّ ويضمِّنه في كتاب. ويبقى هذا “ميتا” حتى يأتي القارئ/ الناقد ويقوم بإحيائه. وتحدّث وولفجانج إيزر وأمبرتو إيكو وآخرون عن العلاقة بين القارئ والنص وعن ضرورة التفاعل بينهما، وعن أهمية دور القارئ وعن تعدّد القراءات. وقد شدّد إيكو على دور القارئ النموذجي الواسع الثقافة القادر على إحياء النص، بحيث إذا لم يكن القارئ ذا كفاءة عالية فإنه سيأخذ نصا أبيض ويتركه أبيض كما هو. أما القارئ النموذجي، أو السوبر كما يسميه ميشيل ريفاتير، فهو القادر على فك شيفرات النص من خلال القراءة الأولى والثانية التي أسماها إيكو “قراءة ما وراء النص”. ولن يقوم بذلك، وفق رؤيته، إلا قارئ موسوعيّ المعرفة حتى تكتمل عملية التعاضد بين القارئ والنص.

أقترح على القارئ أن يجرّب ذلك على النص أعلاه، فسيرى في القراءة الأولى أنه يقف في حضرة نص نثري فيه بعض الإثارة المحفّزة على متابعة القراءة لا أكثر، وقد يبدو للبعض نصا مباشرا وعاديّا، لكنه حين يتمهّل في القراءة وفي لملمة الأفكار والصور، وفي الوقوف عند الانزياح وعند التكرار والتضاد بين المفردات والصور، على حد سواء، فإن النص يأخذ في التكشّف عن دلالات ورسائل تشير إلى أفكار تبعث الأمل، عبر تحقيق الذات. إن البحث في تضاعيف الكلام عملية مضنية، لكن النص حين يكون قابلا للانفتاح على أكثر من تأويل وأكثر من تصوّر يستفز ذوق القارئ المتمرّس ويبعث اللذة والشعور بالراحة وهو يكتشف ما تعسّر عليه اكتشافه من قبل.

وللحقيقة فإن التجربة علمتنا أن هناك أكثر من عملية مواجهة، ففي القراءة الأولى يجب أن يحدث بعض التفاعل بين هاتين السلطتين: سلطة النص وسلطة القارئ. تتلو ذلك عملية الفحص والتمحيص في جماليات والنص، وكأن الناقد يبحث في مسبِّبات الشرارة التي انطلقت من النص نحو القارئ في المواجهة الأولى. وباعتقادنا أن ذلك لن يتحقّق إلا إذا كان النص غنيّا بالفكر وباللغة المكثّفة الدالة. وللوقوف أكثر على دلالات النص وإشاراته يحتاج الناقد إلى قراءة ثالثة أو أكثر وكأنه يقوم بعملية تنقيب عن أسرار النص وما يحمله من دلالات.

تقول الشاعرة في قصيدة قصيرة مكثّفة بعنوان “واقفة”:

“عندما غابت الشمس

وتلحّفت السماء بالسواد

أشرقت الشمس في عيوني

فبتُّ نجمة

أستمع لحفيف الأشجار

لهمسِ الليل

علّني أخطِف من أسراره

فأكتب قصيدة

أو أخطِف من لونه

كحلا لجفوني.

 

قرأت ساعتي

وتساءلت

كيف تُمضي الأشجار

أعوامها

واقفةً

تراقب الشروق والغروب

ولا تشتكي الزمن”.  (الديوان، ص11-12)

كتبت الشاعرة الشابة هذه القصيدة، ربما، في المرحلة الثانوية أو بعدها بقليل، تطرح من خلالها فكرة فلسفية استلّتها من صميم الواقع. تبدو المقطوعة الأولى في قراءتها الأوّلية قطعة رومانسية تجلّت في مفرداتها وتعابيرها المستمَدَّة من عالم الطبيعة: غابت الشمس، تلحّفت السماء بالغيوم، بتّ نجمة، حفيف الأشجار، همس الليل، أخطِف من لونه كحلا لجفوني. لا أحد ينكر هذا البعد الرومانسي، لكن في قراءتنا الثانية وما يتلوها من قراءات يتفتّق النص عن رؤى أبعدَ، وعن دلالات وإشارات يتضمّنها النص، وذلك من خلال خلق حالات من التناقض والتضاد ما بين العتمة والإشراق، ومن خلال تحوّل المتكلمة/ الراوية إلى نجمة/ إلى عنصر من عناصر الطبيعة، وبالتالي يمكنها أن ترى ما لم تكن لتراه من قبل، وأن تحقّق ما كانت لتحقّقه من قبلِ أن تتحوّل إلى نجمة. والشعر يجب أن يفجأ القارئ وأن يخضّه من خلال منطق جديد تخلقه الكلمات: “عندما غابت الشمس/ وتلحّفت السماء بالسواد/ أشرقت الشمس في عيوني”. فما كان للشمس أن تشرق وللخيال أن يثور وأن يهيج إلا بعد أن تغيب الشمس، وتتلحّف السماء بالسواد.

الكل يعلم أن لغة الأدب هي اللغة المنزاحة كما حدّدها جان كوهن في كتابه “بنية اللغة الشعرية” منذ زمن، وبالتالي فإن “الشمس” الثانية في النص ليست ذاتها “الشمس” الأولى، بل هي تشير إلى تفتّح الذهن وتفتّقه عن أفكار جديدة ما كانت لتولد إلا في حال العتمة. إن عملية الانزياح لا تقتصر على المفردة التي تنحرف عن معناها المعجمي، بل هي أوسع وأعمق وتتعدّى ذلك إلى التعبير والجملة وإلى النص بعامة، بل قد تصل حد البنية والشكل. وبالتالي فإن الألفاظ هجرت معانيها المباشرة وتعدّت الرومانسية نحو الانحراف الكلي باتجاه الدلالة الثورية والدعوة إلى تغيير الوضع القائم وعدم الاستسلام له.

وفي المقطوعة الثانية يثور تساؤل آخر في غاية العمق حول قدرة الأشجار على الوقوف الدائم بلا حراك تراقب الشروق والغروب دون أن تشكو الزمن. نصٌّ مفتوح على أكثر من إشارة أو دلالة تجيز للمتلقي أن يحلّق مع النص وأبعاده، وذلك لأن الحالة التي خلقتها الشاعرة لا مرجع واقعيا لها إلا مرجع الممكن في عملية التخييل. أما الحديث هنا عن التأنيس وعن الاستعارة، كما اعتدنا سابقا فمن شأنه أن يأخذنا إلى ما هو أضيق مما تتغيّا الشاعرة. ولكي نحلّق معها ومع نصّها يجب أن نتحرّر من سطوة تأثّرنا بكُتّاب الشروح الكلاسيكيين لأنه كان أشبه بترجمة النص إلى كلمات أخرى لا أكثر، بعيدا عن الدلالات والإشارات وعن البعد التفاعلي. لقد قامت الشاعرة بتبديل مفهوم الرومانسية المألوف، وأخذته نحو الطبيعة البشرية الثائرة التي ترفض الجمود والتصحّر. هي دعوة إلى التفكير. ويكفي الشعر أن يكون حافزا على التفكير بسرّ الكون وبحقيقة الوجود، وبالتالي لم تعد الأشجار مجرد عنصر طبيعي، ولا النجمة مجرد جرم في السماء، بل تحوّلا إلى فعل دلالة، وإلا كيف نفسّر هذه الاستعارات والصور في النص السابق؟ وكيف يجب النظر إلى تحوّل المتكلّمة إلى نجمة؟ وكيف نتعامل مع الأشجار الواقفة في مكانها تراقب الشروق والغروب؟!

نتحدث كثيرا عن الواقع والخيال وأهميتهما في عملية الإبداع في الفن والأدب، ونعلم أن عملية التخييل تحتاج إلى مهارة أولا، وإلى خلق أفكار غير مطروقة من قبل، ثانيا. ولنا على ذلك مثالان بارزان، في القصيدة المكثفة أعلاه التي تقول الكثير بأقل الكلام؛ التحوّل إلى نجمة وما يتلو ذلك من رؤى، والدعوة إلى التفكير في “ظاهرة” وقوف الأشجار طوال هذه الأعوام وهي تراقب الشروق والغروب دون أن تشتكي الزمن. فكرتان مبتكرتان خلقتهما الشاعرة من صلب الواقع. تنبع فرادة هاتين الفكرتين من عدم وجود مرجع واقعي حقيقي يمكن أن تنسبا إليه، لكن التخييل جعلهما ممكنتي التحقّق، من خلال خلق منطق جديد هو منطق الشعر في مجافاته للمحاكاة، من ناحية، وفي قدرته على التحاور مع أكثر من متلق، من ناحية أخرى.  ومما لا شك فيه أن قراءة أخرى لناقد آخر سترى في النص أبعادا أخرى، وقد ترى ما لم نره نحن.

 

التكرار وانفتاح النص

للتكرار في القصيدة دور هام منذ خلق الشعر وحتى اليوم، ويتوقف نجاح الشاعر في ذلك على طريقة صياغته. وهو ليس حكرا على شاعر، ولا حكرا على الشعر العمودي أو على قصيدة النثر. والتكرار قد يكون لفظيا وقد يكون معنويا. لفتت هذه الظاهرة أنظار دارسي قصيدة النثر فوجدوا فيه عامل تعويض عن الإيقاع والنبر الموسيقي، كما بينا في دراسة لنا حول لغة الشعر لدى الشاعر طه محمد علي، وله دوافع أخرى وقد يتحول إلى فعل دلالة إذا أجاد الشاعر في صياغته.

تقول علا عويضة في قصيدة بعنوان “آخَر”:

“بين قتيل وآخرَ

بين موتٍ وموتٍ

أركض إلى أبي

أجلس على ركبتيهِ

وأضيع في عينيهِ

حيث رمت الأيامُ رماحَها،

وأضيعُ بنفسي

بالترابِ

الذي بنيته قصرا

فداسوه،

بطائرةِ الورقِ

التي صنعتُها

من دفتري

فمزقوها،

أضيع بطفلة

تكبر،

بطفلة كانت تكبرُ!

 

بين دمعة ودمعةٍ

بين لحظةٍ وأخرى

أسافرُ

إلى عين الشمسِ

أجلس على جَفنها

أمشّط أهدابَها

وأزرعُ أوتارَ القمحِ

على كفِّها،

وفي عتيم الليلِ

أغفو على خدّ السماء

وبريشِ حمائمِها

أحطّم قيدي

فتمطرُ تجاعيدُ سحابها

ثورةً.

بريش حمائمها

أرسم لي كرمة

هناك،

شجرة خضراءَ

وردةً حمراءَ

وبيتا عند باب

الليل.

 

بين قتيل وآخرَ

بين موتٍ وموتِ

أركض إلى أبي

أجلس على ركبتيهِ

أعانق عنقَه

كطفلةٍ

تودّ لو تضيع

في عينيه

عند الحارات القديمةِ.

 

بين قتيلٍ وآخرَ

بين موتٍ وموتٍ

أركض إلى أبي

أجلس على ركبتيه

وأضيع في عينيهِ. (الديوان، ص31-34)

يشعر المتلقي أنّ هناك شرارة قد انطلقت من النص، بفضل ما يبثّه التكرار في بعده اللفظي أولا. هذه الشرارة هي الرسالة الأولى التي تربط بين المرسِل والمرسَل إليه. لا يجوز لناقد هذا النص، الذي يحمل مواصفات الشعر الحديث، أن يقوم بشرحه شرحا تقليديا، كما أسلفنا أعلاه. فهو نص مثير ومستفزّ ومحفّز على فتح باب الحوار على أكثر من رؤية، بحيث يتمكّن كل قارئ متمرّس أن ينظر إليه من زاويته، منطلقا من خلفيته الثقافية والفكرية.

في المقطوعة الأولى هناك طفلة، وهناك قتل كثيف مرعب، وهناك أب هو ملجأ للطفلة الهاربة من هذا الواقع الأليم نحو الأمان الذي تجده على ركبتي الوالد الذي صقلته التجربة الحياتية القاسية، “حيث رمت الأيام رماحها”، فأصبح قادرا على توفير الأمن والأمان لصغيرته. وتتكرّر صورة الواقع القاتمة في المقطوعات التالية. يتيح هذا التكرار اللفظي والمعنوي تجذيرَ هذه الصورة. لكن الشاعرة لا تترك القتامة تسيطر على الواقع المعيش بل إنها تبحث لها عن حل فتجده في “عين الشمس” وعند “خد السماء”.

هذه الرؤية التي طُرحت أعلاه، تلائم، ربما، جانبا من هذا النص الذي يمكن أن يفتح باب التأويل على مصراعيه أمام المختصّين النفسيين للتحدث عن صدمة الأطفال وهم يواجهون العنف والقتل وما ينتابهم من خوف وقلق، أو بحث أهمية العلاقة بين الابنة وأبيها. ويمكن لقارئ آخر أن يتحدّث عن دور التضاد، والتنافر، والاستعارة والصورة في بناء النص، وفي تحفيز المتلقي. وقد نجد من يتحدّث عن طريقة العرض المستمدّة من الأقصوصة وعن الشخصيات ودور كل منها. وقد يقيم أحدهم مقارنة بين التكرار في مثل هذه القصيدة والتكرار في قصائد شعراء آخرين، مثل تكرار مفردة “تقدموا” في قصيدة “إلى غزاة لا يقرأون” للشاعر سميح القاسم، حيث لإيقاع تكرار هذه اللفظة، “تقدموا”، دور هام ومركزي في الحث والتحفيز على التحدي، وفي التعبير عن الغضب، فإن للتكرار هنا نفس الهدف في الدعوة إلى التحدي وإلى الثورة، لكن النبرة هناك صوتية وهنا النبرة هامسة.

تقودنا هذه المقاربة، في كل الأحوال، إلى البحث عن سر اختيار عنوان هذه القصيدة، “آخر”، ومدى الترابط الوثيق بينه وبين النص الكلي. تأتي أهمية العنوان، بشكل عام، من كونه إشارة، في كثير من الأحيان، إلى الفكرة المركزية للنص، ومن شأنه أيضا إذا كان اختيارا موفّقا، أن يثير القارئ ويحثّه على متابعة القراءة. تكررت كلمة “آخر”، أو ما ينوب عنها، أو ما يحمل معناها، في أكثر من مقطوعة، ما يجعل “آخر” هذه مرافقةً للمتلقي منذ السطر الأول وحتى السطر الأخير من القصيدة، ما يعني أن هذه اللفظة لها دلالتها الترميزية؛ إنها قد تعني هولَ ما يجري من أحداث مؤلمة لا تني تتكرّر وتعود على ذاتها، ويشير إلى ما لهذه الأحداث الأخرى من أبعاد وتأثيرات على مسيرة حياة البشر، وبالذات على جيل الطفولة.

إن الربط الوثيق بين مجمل النص والعنوان “آخر” في مفهومه القريب المعجمي وفي دلالته الرؤيوية هو عامل بنيوي ومعنوي وفكري في آن معا. يدلّل على نفسية الشاعرة وعلى ما واجهت من تجارب مؤلمة، فكان التكرار دعوة إلى المشاركة بين المتكلمة وبين القراء، وإلى فتح باب الحوار معهم حتى تتّسع الدائرة. كما أتاح للشاعرة أن تتنقل بين زمن وزمن بالذات من خلال تكرار لفظة “بين” الزمنية ليصبح هذا التنقل دلالة على دوام الظلم والضيم، فالطفل يتألّم جدا حين يدوسون قصره الترابي، وحين يمزّقون له طائرة الورق، والكبير يتألم جدا لرؤية القتل المتكرر. وفي كل الأحوال يظل الأب ملاذا سواء كنا صغارا أو كبارا، فهل تتغيا الشاعرة أن تتحدث عن دور الأبوة؟ أم عن مظاهر العنف وتفشيه؟ أم عن كليهما معا؟

 

قصيدة الدلالة

قامت القصيدة العربية الكلاسيكية على أسس حافظت عليها قرونا، أما العمدتان الأساسيتان اللتان لا تقوم القصيدة بدونهما فيتعلق الأول بالنظم الموسيقي والثاني يتعلق بالقصدية، وظل عامل الإيقاع أحد أهم هذه الأسس مع ظهور شعر التفعيلة منتصف القرن العشرين على يد السياب والملائكة ومجموعة من الشعراء العرب.  ولما ظهرت قصيدة النثر كان على الشعراء أن يجدوا بدائل للتأثير في القارئ تعويضا عن إيقاع القصيدة وما له في الأذن من وقع، إذ إن أي كتابة تحتاج إلى متلق، وعلى المبدع أن يخلق المحفّزات لاقتناص القارئ.

أدركت علا عويضة كنه القصيدة الحداثية التي تسعى نحو التأثير في القارئ وذهبت باتجاه “قصيدة الدلالة” موظفة المجاز اللغوي، والصورة، والتكرار، والتناص، والترميز، والبناء المتماسك للفكرة. وأعرضت عن الشعر الصارخ في بعده الصوتي واستبدلته بشعر صارخ في بعده الهامس. كما مضت باتجاه الاستفادة من مزايا السرد، فاستعارت بعض مركّباته القصصية حيث السارد والمسرود والشخصيات، وقد بات مألوفا أن الأنواع الأدبية الحديثة تتبادل فيما بينها الأدوات التعبيرية والتقنيّات الفنية، كما يتجلى في القصيدة أعلاه وفي قصائد أخرى مثل قصيدتها بعنوان “حالة”:

“(1)

أنا صوتٌ ضائعٌ في السماءِ

يفجّر الغيمَ هناك

ويعودُ للأشجارِ فرِحًا،

يختبئُ في حنجرة العصافير

ويبحث في الليل

كي يرسم الشمس،

يسأل عنهم

عن الهدوء

كي يكتب نفسه.

(2)

البحر أغرق كلَّ شيء

وبقيتُ أنا

عشبة حمراء

على كتفيه.

 

الشمسُ تغامزني

تلتقط صورتَها مع الشفق

ولا تغرق.

(3)

كأعماقِ البراكين

برودتي،

كالعشبِ الأخضر

موتي،

وكبريق الشمس

حريتي!” (الديوان، ص20-21)

في النص الكثير من الاستعارات، والكثير من اللغة الدالة، والكثير من الإشارات. في مثل “أنا صوتٌ ضائعٌ في السماء”، وما يحمله هذا التعبير من تناقض بين معناه المباشر وبين ما يحمل من مضمون لا يتناغم مع مفهوم المفردة “ضائع”. فهذا الصوت يفجّر الغيم، ويبعث الخير والفرح للشجر وللعصافير، وبالتالي فهو صوت متحرّك جوّال في السماء، غايته أن يرسل مطرا تفرح به الأشجار وتغرّد له العصافير، وبالتالي أصبح دلالة فرح.

تكمن قوة هذا النص في ضمير المتكلم الذي يجعل الراوي مشاركا فيما يحدث وشاهدا عليه. ونحن إذ نتحدث عن الراوي المشرف العليم المشارك في الأحداث إنما نستعير ذلك من عالم السرديات، وما كنا لنفعل ذلك بهذه الأريحية لولا تداخل الشعر الحديث بالسرد الحديث في تجنيد بعض الوسائل، إذ لم تعد الشاعرية تقتصر على القصيدة ولغتها فقد تعدّت ذلك إلى السرد النثري. وبالتالي لا عائق يقف بعدُ أمام هذا التداخل، خاصة وقد جمع هذا النوع الشعري، كما ذكرنا، بين مركبين كانا لعصور طويلة يدلّ كل منهما على نوع أدبي مغاير وباتا اليوم في اجتماعهما معا نوعا أدبيا حديثا. بعد أن أطلق على هذا الجنس الأدبي “قصيدة النثر”.

وبما أن التأويل في مثل هذا النوع من الشعر، وفي مثل هذه الصياغة مفتوح على مصراعيه فإن الأمر يتيح لنا أن نجتهد وأن نبحث عن ثقافة المبدع وعن رصيده المعرفي لنرى أن هذا الصوت يعيد إلى الذاكرة جملة مأثورة في العهد الجديد هي “صوتُ منادٍ في البرية” (انظر: متى:3: 1-3) أو “صوتُ صارخٍ في البرية” التي تحمل دعوة إلى الخلاص من الشر ونشر الخير. وبالتالي فإن وجه الشبه بين الصوتين: “صوتُ صارخٍ/ منادٍ في البرية” و”صوتٌ ضائعٌ في السماء” أن كليهما صوت يجب أن يُسمع، وأن كلا منهما لا بد أن يظهر في مكان بعيد هناك؛ ذاك في البرية الواسعة وهذا في السماء الشاسعة وسيكون لكليهما دور خيّرٌ.

مثل هذا النوع من النصوص لا يتكشّف أمام القارئ ولا يبوح بقصده إلا بعد البحث والتنقيب في ملامحه الخارجية والداخلية وفي شكله وبنيته. وهو خلال ذلك يولِّد حوارا مع القارئ المنقِّب عن دلالة القول الشعري وتناصّه مع مقولات وأفكار أخرى. والحوار هو أهم مقوّمات قصيدة النثر وقد نجحت علا عويضة في إثارة القارئ ودفعه إلى البحث والتنقيب والمحاورة.

يبعث النص صورا وحالات من التناقض تصل حد المفارقة، وتترك القارئ يبحث عن الدلالات والإشارات. وإلا كيف يمكن للقارئ أن يدرك حالة المتكلم في المقطوعة الثالثة؟ وكيف يكون البركان باردا، والموت كالعشب الأخضر؟ فقد عهدنا البراكين حارقة، والموتَ أصفر. ثم كيف تنسجم هاتان الحالتان في تناقضهما مع التشبيه الثالث، “وكبريق الشمس حريتي”، في المقطوعة نفسها؟

للتوصل إلى ما يجمع هذه “التناقضات” وجب النظر في بنية المقطوعة؛ إنها عبارة عن ثلاث جمل، وكل جملة تتكون من ثلاث كلمات، تبدأ كل جملة فيها بكاف التشبيه، وبالتالي في كل جملة هناك صورة. ولو دققنا أكثر لوجدنا أن هناك ثلاثة أبعاد مكانية: تبدأ من الأسفل حيث البراكين في الأعماق، ثم هناك منطقة المركز حيث العشب الأخضر ومن ثم تقع السماء في ارتفاعها وسموها. إذًا لا بد من تعالُق مكاني يوصل إلى ترابط منطقي يقود إلى فكرة ما تبيح بها الجملة الثالثة “كبريق الشمس حريتي”، ما يؤكد أن “حريتي” رهينة ب”برودتي”، و”موتي”. فهل استعارت الشاعرة فكرة البعث من الكتب السماوية؟ أو من معتقدات الشعوب القديمة؟ قد يكون ذلك صحيحا، فالأفكار تقبع في أعماق النفس وقد تخرج بصورة لا إرادية.

نرضى بهذا التأويل لهذه المقطوعة لأنها تحمل في مركباتها الثلاثة صورة إيجابية تشير إلى التحدي والصمود والاستمرارية في الحياة رغم الصعوبات والعراقيل. تحمل هذه النقاط “الجغرافية” في اجتماعها معنى الشمولية بين الفوق/ السماء، والوسط/ العشب الأخضر، والأسفل/ أعماق البراكين. ويحمل هذا النص بعدا إيقاعيا، وإن كان لا يلتزم ببحور الخليل ولا بموسيقى شعر التفعيلة. يستطيع القارئ أن يحس به بسهولة عبر التوزيع الثلاثي الذي بيناه. هذا الإيقاع هو دفقات شعورية، لا مجرد إيقاع شكلي، وهو عبر هذا التوزيع الإيقاعي يساهم في الترابط الكلي الدلالي للفكرة.

يرى جميع من تحدث عن أهم ميزات القصيدة الحداثية هو “غياب المرجع”، كما أسلفنا أعلاه، الذي يخلق واقعا تخييليا لا يمكن أن يقوم على أرض الواقع لكنه خلق لعوالم ممكنة يقيمها الشعر، وبالأحرى تقيمها اللغة الشعرية. وإذا عدنا إلى أساسيات علم الدلالة وإلى فرديناند دي سوسير وحديثه عن اللغة والكلام فإن اللغة لها قواعدها وأصولها الثابتة، وللكلمة دلالة واحدة هي الدلالة المعجمية، أما الكلام فهو لغة الأدب والأديب. والأديب قادر على خلق دلالات جديدة للمفردات في اجتماعها معا.

لم تلتزم علا عويضة بلغة المعاجم ولم تكرّر ما قاله الآخرون، وكان حوارها مع القارئ عبر التناص لإغناء القصيدة، وعمدت إلى الانزياح عن المألوف، وأتت بصور جديدة عمدتها ومرجعها الممكن التخييلي الدلالي لا الممكن الواقعي. بلغة أخرى انتهكت الشاعرة اللغة المعيارية في شكلها وفي بنائها وفي دلالتها المألوفة، ووظّفت من السردية بعض ميزات القصة القصيرة جدا وجعلت السارد مشاركا (ضمير المتكلم/ أنا)، ولكن اللغة، عبر التكثيف والصور المبتكرة كسرت مفهوم السرد التقليدي، كما انزاحت الاستعارة عن دورها التقليدي في خلق حالة من التوازي بين المشبه والمشبه به ونحت باتجاه اللغة الدلالية وتعدد الرؤى التأويلية كما بينا أعلاه.

 

خلاصة

دخلت علا عويضة تجربتها، وبالأحرى مغامرتها الشعرية بعد أن أنجزت الكثير في مجال الدراسات. إذ يبدو أنها مثل كثيرين ممن أغراهم هاجس الشعر الذي يتيح لهم أن يقولوا ما لا يستطيعون قوله من خلال الأبحاث. أو لأنهم يقولون ذلك بطريقة أكثر جاذبية، خاصة وأن النقد قد يكون في غالبه جافا. وبالتالي يتمكن الشاعر أن يخترق القارئ وأن يتواصل معه أكثر.

لم تقتصر المغامرة على خوض تجربة الكتابة الشعرية بل ذهبت باتجاه قصيدة النثر التي أثارت ولا تزال تثير نقاشا حادا مع من ينكرون عليها رداء الشعر، فما هي برأيهم سوى نثر تنقصه الشاعرية. ومع ذلك وجدناها تصدر بدل الديوان ديوانين ينهجان نفس الطريق. وبما أن القصيدة العربية عمدتها الموسيقى والإيقاع الذي اعتادت عليه الذائقة العربية قرونا من الزمن، كان على هذا النوع الشعري أن يجد الطرق والوسائل التي تعوّضه عن الإيقاع، فذهب شعراء هذا النوع باتجاه الإيجاز والتكثيف والدلالات والمحاورة والصور المبتكرة. كما استلوا من القصة القصيرة جدا بعض ميزاتها ليقولوا الكثير من خلال كلام قليل.

اختارت الشاعرة السير على حبل دقيق، تجنبت المباشرة والتقريرية والخطابة، من ناحية، وتجنبت ظاهرة التغريب والغموض التي تميز “قصيدة النثر”. وأثرت نصوصها من خلال التلميح والدلالة اللتين تتطلبان قارئا ذواقة مزوّدا بثقافة واسعة.

من الطبيعي أن يتساءل القارئ قبل دخول صفحات الكتاب عما يمكن أن يجد داخل الكتاب من مواضيع. إن أفق التوقع من شاعرة في مثل سنها – حين كتبت قصائدها- قد ينحصر لدى المتلقي في البحث، ربما، عن قصائد حب، وعن تجارب تتناسب مع مثل هذه السن، أو يتوقع منها طرح أفكار تتماشى مع أبناء جيلها، فإذا القارئ يقف وجها لوجه مع أفكار فلسفية تُطرح بعمق أولا، ومن خلال لغة شاعرية ناضجة ثانيا. لغة تتناسب مع العصر وتتماشى معه غير تلك التي عهدناها قديما.

أما أكثر ما يلفت في شعرها فهو تغليب عملية التخييل على الواقع وبناء نص يعتمد على تكسير المرجعي وهدمه ليحل بدله واقع شعري ممكن تخيله ولا يمكن تحقيقه والقبض عليه إلا من خلال دلالات النص وإشاراته. ما يدفع المتلقي إلى ملء الفراغات وفق رؤيته، وبناء على عمق ثقافته واتساعها.

أتقنت علا عويضة هذه اللعبة الشعرية، فنجحت في مواقع ونجحت أكثر في مواقع أخرى، ولكننا لا يمكننا أن نقول إنها أخفقت في بعض هذه القصائد لأننا نخمن أنها وضعت بعض أوراقها تحت طائلة المقص قبل أن تصل إلى مقص الناقد. وكي نكون أكثر وضوحا وأكثر صدقا مع علا عويضة فإنها ستكون تحت أضواء النقاد والدارسين الجديين الذين ينتظرون خطوات قادمة تقدم فيها جديدا آخر تخطو من خلاله خطوات أخرى نحو الشعرية التي تتيح لها أن تكسب من خلالها لقب شاعرة كما اكتسبت لقب ناقدة.

تعاركت قصيدة النثر مع الذوق العربي، ولا تزال، حتى وإن خفتت حدة الرفض لهذا النوع الشعري، وذلك لأنها انتهكت عدة مسلمات، ربما أهمها الإيقاع الشعري، وانتهكت شكل القصيدة المألوف بل ودمجت بين الضدين؛ الشعر والنثر. إن أي تحول في الذوق يحتاج إلى مدة زمنية من ناحية، وإلى الانفتاح على الآخر وعلى التفكير المغاير، من ناحية أخرى. وبما أننا نتحدث عن الذوق فإننا نذكّر أن الذوق العربي قد قبل، وإن كان بعد لأي، أنواعا أدبية حديثة ومنها شعر التفعيلة، وقبل ألحانا موسيقية مغايرة وأطعمة كانت غريبة. وقبل أن يدّعي بعضهم أن هذه الموازنة تمسّ بمكانة الأدب فإننا نؤكد على أنها موازنة عادلة، ونؤكّد على أن الذوق في الأدب يحتاج إلى مهارات يمكن تطويرها عبر الممارسة وعبر القراءات المتروّية، وعبر البحث عن جماليات النص، لأن الذائقة الأدبية هي ضرورة أولى لفهم الشعر وتفسيره وتأويله اعتمادا على دراسات تنظيرية ما زالت تتوافد، ونرى أننا ما زلنا بحاجة إلى عدة دراسات منهجية لتحديد أسس “قصيدة النثر” وقواعدها منعا للاعتداء على حرمة الشعر وحرمة الأدب.

في شعر علا عويضة أفكار وصور جديدة، ولغة مبتكرة، وطرح عميق لشابة كانت ترى وتراقب وتفكر. سيكون لهذه الشاعرة الشابة شعر أعمقُ وأجمل، وستحمل الكلماتِ على راحتيها وتحلق بها بعيدا.

 

المراجع

عويضة، علا. أجراس عاصفة. رام الله: الرعاة للنشر والدراسات، 2024.

إيزر، وولفجانج. فعل القراءة. ترجمة حميد لحمداني، والجيلاني لكدية. فاس: منشورات مكتبة الناهل، 1994.

إيكو، أمبرتو. القارئ في الحكاية- التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية. ترجمة أنطوان أبو زيد. الدار البيضاء، وبيروت: المركز الثقافي العربي، 1996.

إيكو، أمبرتو. “القارئ النموذجي”. نظرية الأدب: القراءة، الفهم، التأويل. ترجمة أحمد بو حسن. الرباط: دار الأمان، 2004

بارت، رولان. لذة النص. ترجمة منذر عياشي. حلب: مركز الإنماء الحضاري، 1992.

برنار، سوزان. “مدخل إلى قصيدة النثر”. فصول مج 15 ع3 (1996)، 185-210.

درو، إليزابيث. الشعر كيف نفهمه ونتذوقه. ترجمة محمد إبراهيم الشوش. بيروت: مكتبة منيمنة، 1961.

دي سوسير، فرديناند. علم اللغة العام. ترجمة يوئيل يوسف عزيز. بغداد: دار آفاق عربية، 1985.

الصكر، حاتم. “قصيدة النثر والشعرية العربية الجديدة”. فصول، مج15 ع3 1996، 74-93.

كامل، رياض. توهج الكلمةدراسة في لغة الشعر عند طه محمد علي. الناصرة: مطبعة فينوس، 2001.

كوهين، جان. بنية اللغة الشعرية. ترجمو محمد الولي ومحمد العمري. الدار البيضاء: دار توبقال، 1986.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*