عودة جفرا ديوان شعر للشاعر مفلح الطبعونيّ، ابن مدينة الناصرة. صدر الديوان عام 2022 عن دار عنات للطباعة والنشر، التصميم والخطوط، الأستاذ عايد علي الصالح، لوحة الغلاف تيم طبعوني، قدّم للديوان الباحث والناقد د. رياض كامل.
عنوان الديوان لافت، ويثير العديد من التساؤلات: هل ستعود جفرا حقّا؟ أم أنّها عودة روحيّة فقط من خلال الحنين والذكريات؟
في هذا الديوان يتناول الشاعر قضايا وطنيّة، إنسانيّة واجتماعيّة، مسلّطا الضوء على ما يعانيه أهل هذه البلاد من ظلم وجور وغدر، كما نجد في الأبيات التالية ص 41:
” نحن أيتام العصر
لا نعرف الفجر
والمركز يطردنا نحو القهر
نعيش في لُبّ العجف
فتنطوي حضارتنا وراء السواتر
في الأرحام تتقلّص إفرازات البعث
عاتبنا السيف وبكت الخيل
أنكرنا القلم
وانتصرت آبار الغدر”
ورغم أهميّة هذه المواضيع التي تناولها الشاعر، إلّا أنني آثرت في قراءتي للديوان، أن أكتب عن قصيدتين وجدتهما أجمل ما فيه، قصيدة ” عودة جفرا“، وهي القصيدة الأولى في الديوان،التي يحمل اسمها، وقصيدة ” جفرا” ص 104
فمن هي جفرا، ولماذا كتب عنها الشاعر؟
جفرا هي رمز تراثيّ فلسطينيّ ارتبطت بحكايتين: الأولى قصّةحبّ تراثيّة، والثانية قصيدة حديثة أصبحت رمزًا وطنيًّا.
جفرا التراثيّة:
في أواخر ثلاثينيّات القرن الماضي، في قرية كويكات بقضاءعكا، أحبّ الشاعر الشعبيّ أحمد عبد العزيز علي الحسن،المعروف بـ ” أحمد عزيز”، ابنة عمه رفيقة نايف نمر الحسن،وأطلق عليها لقب “جفرا” تشبيهًا لها بأنثى الظبي الصغيرة،للدلالة على جمالها. تزوّجا، لكنّ الزواج لم يستمر سوى أسبوع،حيث طلبت الطلاق وتزوجت من ابن خالتها. استمرّ أحمد عزيزفي التعبير عن حبّه لها من خلال أغانيه الشعبيّة، ومنها أغنية“جفرا ويا هالربع”، التي أصبحت جزءًا من التراث الفلسطينيّ.
أنشد أحمد الكويكات قصيدته قائلا:”
جَفْرا ويا هَالرَّبِعْ
ريتِكْ تُقُبْريني
تِدْعَسي عَلى قَبْري
تِطْلَعْ ميرَمِيَّة
جفرا في الشعر الحديث
في عام 1976، نشر الشاعر الفلسطينيّ د. عز الدين المناصرةقصيدة بعنوان “جفرا الوطن المسبي”، رثى فيها حبيبته،الطالبة الفلسطينية جفرا النابلسي، التي استشهدت في غارةإسرائيلية على بيروت. فأصبحت القصيدة رمزًا للمأساةالفلسطينية، وغنّاها فنّانون مثل مارسيل خليفة وخالد الهبر،وترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، مما ساهم في انتشار اسم“جفرا” عالميًّا.
هكذا، تحوّل اسم “جفرا” من قصة حبّ تراثيّة إلى رمز وطنيّ وثقافيّ، يعبّر عن الحبّ والمأساة في الذاكرة الفلسطينية. (عزّالدين المناصرة، شؤون فلسطينيّة، عدد حزيران، بيروت، 1982. وعزّ الدين المناصرة، (جفرا الشهيدة وجفرا التراث، دار الصايل، ط3، عمّان: الأردن، 2013.).
ومما كتبه المناصرة في قصيدته ما يلي:
من لم يعرف جفرا فليدفن رأسه
من لم يعشق جفرا فليشنق نفسه
جفرا جاءت لزيارة بيروت
هل قتلوا جفرا عند الحاجز، هل صلبوها في تابوت؟
للأشجار العاشقة أغنّي
للأرصفة الصلبة للحُبّ أغنّي
للسيّدة الحاملة الأسرار رموزا في سلّة تين
تركض عبر الجسر الممنوع علينا، تحمل أشواق المنفيّين
جفرا الوطن المسبيّ
الزهرة والطلقة والعاصفة الحمراء
جفرا .. إن لم يعرف من لم يعرف غابة تفّاح
ورفيف حمام وقصائد للفقراء…..
وها هو شاعرنا مفلح الطبعوني يكتب عن جفرا فيقول:
عادت جفرا
من قلب الجبّ
عادت تحمل أوجاع الحُبّ
تذرف مع أحزان الفلّ
دمعا يروي أرض الغلّ
جفرا تحلم بالغيم
تنهل من نبع الخصب
أعرف جفرا تسكن فوق تلال الوجد
أعرفها من بوح العشق
وأراقصها مع سرب حمام
في أعشاش الصمت
وينابيع الأعناب
نعرف جفرا
نعرفها كتقاسيم الخدّ
نزرعها في هذا الكون تتعمشقها أعناق الأنهار
في هذه القصيدة الجميلة التي اقتبست بضعة أبيات منها، تبدو لنا جفرا وقد عادت من السبي، عادت من قلب الجُبّ، في هذا التعبير نجد تناصّا مع سورة يوسف، حين ألقى أخوة يوسف أخاهم يوسف في قعر الجبّ، فأنقذه بعض المارّة. فهل في ذلك إشارة إلى تخلّي العرب عن الوطن “جفرا”، وهل سيأتي خلاصها من الغرباء؟
تأخذ جفرا الشاعر مفلح الطبعوني في رحلة في ربوع الوطن، من
“جبل المصلوب حتى باب العمود”
” تحت الكرمل دمع وشموخ
يافا حنّاء البخور
أخذتني من وادي القرن حتى جبل النار
وأريحا صارت كالصبّار”
في هذه الرحلة يعبّر الطبعوني عن عشقه لجفرا، هذا الوطن الشامخ الصامد كالصبّار. ويجزم الشاعر في قصيدته، أنّ من لم يعشق جفرا، فليبق في ظلّ القهر. فعشق جفرا إذن، باب للخلاص من الذلّ والقهر.
” من لم يعرف جفرا لا يعرف عطر الورد
فليسكن في القاع
من لم يعشق جفرا
فليبق في ظلّ القهر”
ومن شدّة عشق الشاعر لجفرا نجده يراقصها مع سرب حمام، إلى جانب هذا العشق فإن جفرا
” تحمل ذكرى أتلام منسيّة
ورضوخا في جرح الأبديّة”
فهي إذن هذا الجرح الذي اكتوى به عاشقوها، فنجد الشاعر ينزف معها ويذكرها مع كلّ ما تجود به الأرض من غلال وحبق.فجفرا
“عادت من عمق الصحراء،
عادت تحمل رائحة النزف من ساحات الأسر”
ويرى الطبعوني أن جفرا الصادقة
“تتلاقح مع حبّات التين، تتمازج مع زيت الزهر”.
القصيدة إذن تحمل الكثير من الرموز، بدءا بالتخلّي عن جفرا وإلقائها بالجُبّ، ثمّ إصرارها على البقاء والصمود و التجلّي بصور عدّة، بين الغيمات، مع المطر، وعودتها وهي تحمل رائحة النزف والألم، لكنّها مع ذلك تبقى شامخة تتلاقح وتحمل حيفا ويافا وعكّا و… فيتجلّى الوطن جفرا كامل البهاء.
كما نجد في القصيدة تناصّا من قصيدة المناصرة الذي قال عن جفرا
من لم يعشق جفرا فليشنق نفسه، وشاعرنا الطبعوني يقول:
” من لم يعشق جفرا فليبق في ظلّ القهر” ص 21.
يتضّح لنا تأثّر الشاعر الطبعوني بقصيدة المناصرة، ففي قصيدة أخرى له في هذا الديوان والتي أسماها” جفرا”، اقتبسهذين البيتين من قصيدة المناصرة:
” من لم يعشق جفرا فلشنق نفسه
من لم يعرف جفرا فليدفن رأسه
يهدي الشاعر الطبعوني قصيدته جفرا للمناصرة ويقول فيها:
” أعرف جفرا تسكن فوق القمم الناريّة
أعرفها تسكن في المدن المنفيّة
حيث الريح الرعديّة
أعرف جفرا تسكن قلب الليمون
أعرفها تعشق حبّات الزيتون
وتعشّش بين سنابل هذا الوطن المفتون
تتجوّل فوق سهول الحُبّ المبثوث
أعرف جفرا تسكن في الأزهار البريّة
تحت الأجواء الغسقيّة
عينا جفرا مطر عاصفة تابوت
يا جفرا لا أملك غير النبوت
والرقص على أنقاض النصر المهزوم
يجرحني في الظهر المشطور
سيف الأهل يخون
أعشق جفرا وأغنّي
لمعارك تل الزعتر ومعارك أرض المل
أغنّي
مع أحجار الأطفال أغنّي….
في هذه القصيدة نجد الطبعوني يستخدم الرمز جفرا (الوطن)في التعبير عن اللوعة والحزن والعشق الكبير لجفرا، مستخدما لغة تراثيّة موظّفا عناصر الطبيعة: النور، الشجر، المطر وغيرها،لتتشكّل لوحة فنيّة ساحرة، تمتزج فيها عناصر الحياة، فتغدو السنابل وحبيبات الزيتون وبيّارات الليمون، رمزا للحياة والتكاثروالتجدّد، وهو بذلك يوجّه خطابه للمناصرة مؤكّدا له أنّه يعرف جفرا وربّما في هذا اعتراف من الطبعوني برمزية جفرا التي كتب عنها المناصرة، فيقول له:
” نعرف جفرا نعرفها يا عزّ الدين
نعرفها تعرفنا
نعشقها، تعشقنا..
وفي حين يعبّر المناصرة عن شوقه وحنينه للوطن المسبيّ، يعبّر الطبعوني عن جفرا التي يعرفها حقّ المعرفة، من خلال الطبيعة والموروث الشعبي والتأمّل في الوطنيّة والهويّة، فهي عشيقتهالأبديّة، الشامخة الأبيّة الصادقة المعطاءة، كلّ ذلك بلغة شاعرية رمزيّة تلامس شغاف القلوب، وتدعو القارئ للتأمل والتحليق في ربوع الوطن.
ويبقى عنوان هذا الديوان” عودة جفرا” مبعث أمل لجميع عشّاق جفرا.