“علَى هَذِهِ الأَرْض مَا يَسْتَحِقُّ الحَياةْ: خوفُ الغُزَاةِ مِنَ الذِّكْرياتْ.
خَوْفُ الطُّغَاةِ مِنَ الأُغْنِيَاتْ” (محمود درويش)
مدخل
أهداني الصديق الكاتب المحامي حسن عبادي إصداره “على شرفة حيفا” مجموعة قصصيّة (أنظر ملاحظة 1 في الهوامش). ترافق بعض القصص صور ولوحات تجسّد القصص. جميع القصص ملتزمة بالثقافة الفلسطينيّة خاصّة والعربيّة عامّة. كثيرًا ما نجد في القصص تعابير ووصف حالات من التراث الفلسطينيّ وشخصيّات شعبيّة وأماكن ومواقع موجودة في بلادنا. لغة السرد سلسة والمضمون مثير وقريب من القلب.
يهدي الكاتب كتابه لأحفاده ماهر وليم وإلى ابنتيه ديمة وشادن وإلى زوجته سميرة، التي كتبت تظهيرًا للكتاب مخاطبة إيّاه: “رفيق الدرب ونديم الشرفة، حيث تولد الفكرة وتطلق العنان للأفكار … من على هذه الشرفة أطلقنا العنان لأفكار كانت حبيسة الموقف فصارت قصصًا، منها ما أضحكنا ومنها ما أحزننا وأوجعنا. هذه القصص القصيرة تحكي عصارة مرارة هذا الشعب الشقيّ”. كلمات سميرة الموازية والمرافقة لمتن الكتاب تؤكّد رمزيّة عنوان الكتاب ومكانة شرفة حيفا كجزء صغير يرمز إلى فلسطين بأسرها، ويهدي الكتاب أيضًا إلى كلّ عاشق لحيفا.
“على شرفة حيفا” تحتوي على نصوص قصصيّة تتقارب في مضامينها، ففي أغلبها نجد الواقع الفلسطينيّ السّياسيّ والاجتماعيّ، ونلتقي بكاتب ملتزمٍ بقضايا وطنه وشعبه ويكتب بجرأة كبيرة وغير معهودة، في بعض القصص، مثل: “مش كل واحد لف الصواني صار حلواني”، “جوز الست”، “أريد منك ولدًا”. خلال عمليّة السرد يستعمل الكاتب عددًا من التقنيّات والأساليب الفنيّة نحو المجاز المرسل، التناصّ، الضدّيّة، الواقع والخيال، الترميز، التّصريح والتّلميح، وجميعها تخدم الجانب الشكليّ – الفنّيّ للقصص.
الشرفة عبارة عن موضع عالٍ في أحد جوانب البيت يُشرف ويطلّ على ما ومن حوله. في المجموعة القصصية التي أمامنا تُطلّ “شرفة حيفا” على حالات عديدة، سياسيّة، اجتماعيّة، اقتصاديّة وغيرها.
“على شرفة حيفا” موتيف Motif وهو تعبير أو صورة أو حالة أو حدث يتكرّر في العمل الأدبيّ للكاتب حسن عبادي. الشرفة هي شرفة بيته في حيفا الذي يُطلّ على البحر، ويستعمله مكانًا يُصَوِّر فيه كلّ كتاب يُهدى له وينشر الصورة مع استعراض للكتاب.
“على شرفة حيفا” عنوان المجموعة وهو عتبة نعبرها إلى متن مجموعة القصص، وهو أيضًا تعبير يرمز إلى فلسطين، فحيفا هي جزء من فلسطين والشرفة هي جزء الجزء ويرمز إليها كمجاز مرسَل (Synecdoche صورة بلاغيّة قوامها ذكر الجزء والمقصود منه الكلّ والعكس) وهو أحد أنواع الكناية، لفظ لا يُقصد منه المعنى الحقيقيّ وإنّما معنى ملازم للمعنى الحقيقيّ. من هنا كلّ كاتب يُهدي الكاتب حسن كتابًا يريد ويطلب منه صورة لكتابه من هذه الشرفة.
النوع الأدبيّ Literary genre للمجموعة
تحديد النوع الأدبيّ لأيّ نصّ يكون حسب التقنيّة الأدبيّة أو الطول، والفروق بين الأنواع هي مرنة. الأنواع الأكثر عموميّة في الأدب هي الملحمة، المأساة (التراجيديا)، الكوميديا، الشّعر، والقصّة الإبداعية على أنواعها (الرواية، النوڨيلا، ثلاثيّة قصصيّة، القصّة القصيرة، الأقصوصة، القصّة القصيرة جدًّا، الومضة وغيرها)، والمسرحيات والمقالة وغيرها.
المجموعة القصصيّة “على شرفة حيفا” تحتوي على 38 قصّة قصيرة (انظر ملاحظة 2 في الهوامش)، قد تكون قصّة مثل، أو قصّة عبرة وحكمة، طرفة، خاطرة وغيرها. بعض القصص يمكن اعتبارها قصصًا قصيرة جدًّا لاحتوائها على أقلّ من ثلاثمائة كلمة، إذ يؤكّد ذلك المناصرة بقوله: “إنّ نصّ القصّة القصيرة جدًّا المثاليّ ينبغي أن يكون في حدود خمسين كلمة، ومن ثمّ أيّ حجم هو مبرّر ومشروع وغير قابل للمصادرة ما دام يقلّ عن ثلاثمائة كلمة في تصوّرنا غير المثاليّ للسقف الأعلى الذي يصل إليه حجم القصص القصيرة جدًّا” (المناصرة، 2015، ص 8).
القصّة القصيرة: نوع أدبيّ سرديّ، يقدّم حدثًا واحدًا خلال زمن قصير ومحدود ومكان محدود يطرح موقفًا أو حالة حياتيّة. يقول محمّد واحي (2023): “غالبًا ما تكون القصّة القصيرة سردًا مكتوبًا أو شفويًّا، يدور حول أحداث محدودة، وهي ممارسة فنيّة محدودة في الزمان والفضاء والكتابة، ويقوم على الحدث، ويتخلّله وصف قصير، وقد يشوبه حوار أحيانًا، وتبرز فيه شخصيّة واحدة أو اثنتان غالبًا، محوريّة أو ثانويّة، تنهض بالحدث أو ينهض بها الحدث”.
تشترك القصّة القصيرة مع الرواية والومضة وباقي الأجناس القصصيّة في الخصائص العامّة، فلكلّ منها نصّ، وراوٍ، وحبكة وشخصيّة رئيسيّة تدور حولها الحبكة. وما يميّزها وجود حبكة واحدة فقط وتكثيف الحدث والسرد واللّغة.
ومن أسماء كتّاب القصّة القصيرة في الغرب: إدغار آلان بو، موباسان، إميل زولا، تورغينيف، تشيخوف، هاردي، ستيفنسون وغيرهم، وفي العالم العربي بلغت القصّة القصيرة درجة عالية من النضج على أيدي يوسف إدريس في مصر، وأحمد بوزفور في المغرب، وزكريّا تامر في سوريا.
تنوّعت مضامين مجموعة “على شرفة حيفا”، والمضامين الأكثر مركزيّة فيها:
قصص عن النكبة، قصص عن عادات وتقاليد، قصص عن العلاقات بين الجنسين، قصص حول الأوضاع الاقتصادية، وكثيرًا ما تتداخل هذه المواضيع، وفي أغلبها نجد للنكبة تأثيرًا على غالبيّة المضامين.
فلسطينيّة المضامين: المكان، الشّخصيّات، الأحداث
المكان: للمكان في الرواية والقصّة القصيرة وغيرها أهمّيّة كبيرة، وهو أحد الركائز الأساسيّة التي ترتكز عليها البنية القصصيّة وبدونه لا توجد قصّة، فلكلّ قصّة شخصيّاتها وأحداثها، وبالطبع هذا لا يتمّ إلّا في مكان كحيِّز أو فضاء تجري فيه الأحداث. يقول عساقلة ومرعي: “لن يكون هناك حدث داخل النصّ ما لم تلتقِ شخصيّة روائيّة بأخرى في مكان ما تجتمع فيه الصّفات الجغرافيّة والاجتماعيّة. وتظهر أهمّيّة الشّخصيّة بعد ربطها ببقيّة العناصر الأخرى، ولا سيّما المكان الذي يمنح تلك الشّخصيّة الهويّة التي تميّزها عن باقي الشّخصيّات الأخرى”(عساقلة ومرعي، 2024، ص 97).
وردت في “على شرفة حيفا” أسماء عشرين موقعًا فلسطينيًا تقريبًا جرت فيها الأحداث أو بمناسبة معيّنة أو صدفة، مثل: حيفا 10 مرّات ووادي صليب ووادي النسناس كأحياء في حيفا، القدس 8 مرّات، الجليل 7 مرّات، يافا 5 مرّات، عكّا 5 مرّات، وأيضًا الخليل وكفر ياسيف ومجد الكروم وعرّابة وشفاعمرو وترشيحا، والروحة وقرى مهجّرة، مثل: ميعار والدامون وزمارين وعسقلان ومجدّو. في هذه الأمكنة الفلسطينيّة جرت الأحداث وتفاعلت الشّخصيّات مع المكان ومع غيرها.
للمكان في “على شرفة حيفا” علاقة متينة مع الأحداث في القصص، فالمكان يمنح الشّخصيّة هويّتها، مثل: انتقل عبد من قريته الجليليّة الوادعة ليسكن في حيفا بعد أن صودرت أراضي أهله بالكامل، ومُنعوا من فلاحة أرضهم، ومات والده حسرة على ما فقد. واشتغل عبد بالمياومة…” (ص، 11)، قرية عبد التي صودرت تقدّم كمكان حالة جديدة تصف الشّخصيّة التي مُنعت من فلاحة أرضها، والآن في حيفا، المكان الجديد، يعمل عبد أجيرًا كَمُركّب جديد في هويّته نتج عن النكبة وعن اللجوء إلى المكان الجديد، حيفا. وهكذا في حالات أخرى تبرز الحالة قبل النكبة الفلسطينيّة وبعدها:
“ولد يونس في عسقلان لعائلة صيّادين، كان بملكيّة والده قوارب صيد وشَغَّل العشرات… كان ملّاكًا كبيرّا… وجاءت النكبة، وشُرِّد يونس مع عائلته إلى الخليل وعمره ستّة أعوام، حالمًا بعودة قريبة مع العائلة” (ص 47). ليلي (اليهوديّة زميلة رشيد في العمل نسيت بكيت شوكولاتة من نوع الجودايفا في سيّارته وحين التقته بدأت بالصراخ تطالبه بالشوكولاتة) فقال لها: “أنت متضايقة وحزينة عَ بكيت شوكولاتة، وشو أقول أنا؟ أعيدي لي بيت جدي وخذي كل “الجودايفا” إللّي بالدنيا”(ص 55). “انتكب مع غيره، وفقد كلّ ما يملك، وبعد مرور ثلاث سنوات، تشجّع وتوجّه لمالك أرضه وطلب منه أن يضمن سِرب عنب من كرمه”(ص 80).
عشرات الأمثلة الفلسطينيّة الشبيهة بهذه تؤكّد أنّ المكان يمنح الشّخصيّة هويّة تميّزها عن باقي الشّخصيّات الأخرى، وهكذا تتفاعل الشخصية مع المكان.
تتحدّث مجموعة “على شرفة حيفا” في الكثير من القصص عن الحالة الفلسطينيّة، تطرح قضيّة التشريد ومصادرة الأراضي والحقول والكروم والبيّارات والبيوت، والتحسّر على خسارة المكان، والبؤس والاضطرار للبحث عن مأوى جديد ومكان عمل جديد، وكثيرًا ما يجدون عملًا في المستوطنات الجديدة وفي أراضيهم هم.
الشخصيّات: لكلّ شخصية اسم والاسم الشخصيّ يميّز صاحبه عن شخص آخر، ومجازًا يدلّ على هويّته. هل سأل أيّ منّا عن سرّ تسميته؟ ما هي قصّة التسميّة؟
غنّت فيروز قصيدة جوزيف حرب أسامينا. كلمات تعبّر عمّا وراء الاسم. عينينا هنّي “أسامينا” والعيون هي مفتاح القلب:
“أسامينا، شو تعبوا أهالينا
تَ لاقوها، وشو افْتَكَروا فِينا
الأسامي كلام، شو خَصّ الكلام
عينينا هِنِّي أسامينا” (كلمات جوزيف حرب)
بعض الأهالي يختارون أسماء أولادهم بناءً على أسماء الأب او الأم أو الجدّ أو الجدّة، والبعض يختار الاسم تيمّنًا بشخصيّة يحترمها أو يحبّها. الاسم مجازًا يرمز إلى هويّة الإنسان.
يقول شادي مشنتف (انظر ملاحظه 3 في الهوامش) “أمّا أنا فلم يكن لأهلي عناء في اختيار اسمي، فقد اختارت والدتي هذا الاسم قبل ولادتي بسنوات كثيرة، فأطلقت عليَّ اسم شادي عند ولادتي عن سابق تصوّر وتصميم، وعندما صرت ناشئًا أخبرتني أمّي قصّة اختيار اسمي، إذ إنّ سبب تسميتي بـ “شادي” هو إعجابها الشديد بأغنية فيروز “أنا وشادي”، الأمر الذي دفعني إلى البحث عن قصّة هذه الأغنية، وكان الجواب أنّها تحيّة لفلسطين، أنشدتها السيّدة الكبيرة في الذكرى العشرين للنّكبة.
لا أدري إذا كانت قصّة اختيار اسمي سببًا لعلاقة روحيّة مع فلسطين، فكلّما وقفت على جبل نابو ومنطقة المغطس أو البحر الميت في الأردن، أو كنت على الحدود الجنوبيّة للبنان شعرت برهبة ووقار عندما أنظر إلى الداخل، فأستذكر أيام السيّد المسيح، وتبشيره حيث بدأ رسالته من هناك، كما يأخذني فكري على شكل شريط مسجّل إلى المرحلة السوداء الّتي شهدت تهجير الفلسطينيّين من أرضهم من دون وجه حقّ وسط صمت وتأييد من قريب وبعيد، فأحسّ نفسي وكأنّني كنت يومها في دير ياسين أو حيفا، أو في القدس.
أعود لأكرّر بأنّني لا أعرف سبب هذه الرهبة، فهل السبب يكمن في أنّنا بعد كلّ هذه السنوات لم نجد شادي بعد؟ هل مازلنا نبحث عنه؟ وأين سنبحث؟ في العراق؟ أم في سوريا؟ في اليمن أم في وطني لبنان؟ الذي زاره السيّد المسيح أيضًا، إضافة إلى أنّه كان مسرحًا لضروب من التهجير، والمجازر والحروب.
ربّما لا أستطيع أن أجد إجابة لرهبتي وشغفي تجاه فلسطين، وربّما أنا عاجز عن وضع حدّ لضياع شادي، لكنّي أعوِّض ذلك عبر سعيي الدائم في أن أكون في خدمة شادي اجتماعيًّا ريثما نستفيق جميعًا، ونجعل شادي العربيّ يعيش عيشة كريمة في بلده، وليس في المهجر، وريثما يعود شادي الفلسطينيّ إلى أرضه، حقّه كإنسان على وجه هذه الكرة الأرضيّة”.
تظهر في “على شرفة حيفا” علاقة متينة بين أسماء الشّخصيّات في القصص وبين فلسطين ثقافةً وشعبًا. فالأسماء كما وردت (تقريبًا):
حسين 40 مرّة (ربّما لقرابته مع اسم الكاتب “حسن” عبادي، المحامي الفلسطينيّ وصاحب مشروع “لكلّ أسيرٍ كتاب”. كميل 5 مرّات، ربّما لقريب له أو لصديق.
باقي الأسماء: بهجة، كفاح، جميله، خضر، عبد، فرح، سعاد، توفيق، ربحي، أحمد، ماجد، راضي، طارق، سالم، مصلح، كمال، محمد، مجد، ماريا، رشيد. كلّ هذه الأسماء عربيّة عامّة ولكن تكثر في فلسطين والأردن وسوريا، وتُبرِز فلسطينيّة مضامين قصص المجموعة. أمّا الأسماء: ميمي، سالي، تاليا فهي أسماء غير عربيّة وهي على الأغلب وردت في حالات دلع.
الأسماء أمنون، ماشه، نيسيم، ليلي هي أسماء عبريّة كانت لها غالبًا علاقة عمل مع الفلسطينيّين، وفي رأينا تشير أيضًا إلى مضمون فلسطينيّ ألا وهو الاحتلال.
الأحداث
تدور الأحداث في غالبيّة قصص المجموعة حول مواضيع عدّة، مثل: العلاقة بين الفلسطينيّ وأرضه ونباتاتها ومصادرتها ونهبها، واقتلاعه من أرضه وبيته، والنفي والتشريد واللجوء، والاحتلال ومقاومته، والأسر والسجن وحواجز الاحتلال التي نصبها الجيش الإسرائيليّ بهدف منع عبور الفلسطينيّين ومضايقتهم. نرى أنّ الكتابة عن هذه الأحداث في “على شرفة حيفا” هي عمليّة توثيق هامّة من أجل الحفاظ على الذكريات كقول محمود درويش: “خوفُ الغُزَاةِ مِنَ الذِّكْرياتْ” حتى لا تُمحى من الذاكرة وكيلا تنسى الأجيال الروايّة الفلسطينية، أمثلة:
قصّة “ردّني إلى بلادي” (ص 46): “جاءت النكبة، وشُرّد يونس مع عائلته إلى الخليل وعمره ستّة أعوام” (ص 47). “وانتفض أبناء شعبه ضدّ المحتلّ الغاشم، وشارك ثلاثة من أبنائه مشاركة فعّالة… أحد أبنائه استشهد”(ص 48).
قصّة “فيضي يا دنان الخمر”(ص 58): توجّه المحامي إلى “مسغاف” (مستوطنة يهوديّة) “حين اقترب منها وجدها بلدةً وهميّةً، مُقامة على أراضي قرية ميعار المهجّرة، أُنشأت بعد يوم الأرض الخالد بهدف السيّطرة على الأرض ومنع التواصل الجغرافيّ بين البلدات العربيّة بنيّة تهويد الجليل” (ص 59).
قصة “خلّيت السيّرة دايرة” (ص 44): “سافر حسين من حيفا إلى الخليل وعَبَر ثمانية عشر حاجزًا على أنواعها، منها الثابت ومنها الطيّار، منها ما يشغله الجنود، ومنها ما يشغله حرس الحدود أو المستعربون” (ص 44).
قصّة “مش رايحة أوصّيكم” (ص 73): اشتغلت الحاجّة عفيفة لإعالة عائلتها في المستوطنات المجاورة، وعندما أُجريت لها عمليّة جراحيّة وجد الطبيب الجرّاح آدم في معدتها مفتاحًا فاستأصله من معدتها، فتمتمت قائلة: “مش رايحة أوصّيكم” ثمّ فارقت الحياة” (ص 75).
قصّة “بدي أقدّر عصاتي” (ص 40)، وقصّة “رُدّني إلى بلادي” (ص46) نجد حالة مغايرة تحكي عن المتعاونين مع الاحتلال الذين يعملون في السّمسرة على الأراضي وبيعها للاحتلال وإثارة الفتنة والطائفيّة في القرى، ولكن أهل الخير كانوا يتدخّلون ويصلحون ذات البين، وكان الشعار “خوريها مسلم وشيخها مسيحيّ”.
لغة السرد:
لغة السرد في القصص فصيحة مُطَعّمة باللهجة المحكيّة الفلسطينيّة، مثل: “من وين جبتيها”، “زت وامشي”، “حلونجي”، “رمى ربحي المريول”، “من وين نسايبنا”، “ومين كمان”، “شو تغير، حسين بقي نفس الزفت”، “انت متضايقة وحزينة عَ بكيت شوكولاتة”، “إيدو طايله”، ” تنَطّح له”، “قطع الحكي”، “مثل اللي أكلناها”. إلى جانب التعابير الّلغوية الشائعة، مثل: “علينا يا مندلينا”، “جوز الست”، “الحب ديني”، “بدي اقدّر عصايتي”، “ردّني إلى بلادي”، “كلها طبخة عكوب”، “ريحة الحبايب” وغيرها، والمثل الشعبيّ، مثل: “ربيان ع البز الرفيع”، “في كل عرس له قرص”، “عارفين الطاسة وغطاها”، “مش كل واحد لف الصواني صار حلواني”، “ريحة الجوز ولا عدمُه”، “فيضي يا دنان الخمر فيضي”، “لولا الحكّي والمكّي”، “من طينة بلادك حُط على خدادك”، “هواة الغشيم بتقتل”، “سِبِرنا ببلادنا” (انظر ملاحظة 4 في الهوامش). كلّ هذه الأمثال هي عناوين قصص ممّا يعني رغبة الكاتب في إبرازها وإيصالها إلى المتلقّي بسلاسة، فالتعابير الشعبيّة والأمثال الشعبيّة واللهجة المحكيّة تجعل السرد مثيرًا وشائقًا. فاللّغة سلسة بسيطة لغويًّا ولكنّها عميقة مضمونًا وقريبة من المتلقّي بواقعيّتها، فتجعله يشعر أنّه جزء من الأحداث. كثيرًا ما تثير اللّهجة المحكيّة والتعابير الشائعة والأمثال الضحك والقهقهة، وأحيانًا بعد الضحك يأتي هدوء وتحديق تمعّنًا بالتعبير الذي سمعه والضحكة التي تلته متسائلًا: هل هذا مضحك؟
التلميح والتناصّ كأسلوب سرديّ ورد في قصة “الطمبوريّة” (ص 34) بصورة ساخرة. الطمبوريّة تلميح Allusion)) لأصباغ شركة طمبور الإسرائيليّة للدهانات، ليصل إلى “الشويعرة”، كما يسمّيها الكاتب، ومكياجها، لقّبها طمبوريّة لأنّها كانت كثيرة المكياج. وعندما جاء دورها للصعود إلى المنصّة دعاها عريف الأمسيّة باستهزاء قائلًا “والآن مع الشاعرة الطمبوريّة” فأجهشت بالبكاء وأغمي عليها. وحدث مع الإعلاميّ الذي حضر الأمسية تناصّ بين لقب “الطمبوريّة” الذي ذكَّره بأبي القاسم الطنبوريّ عندما طلب من حضرة القاضي أن يكتب أنّه يتبرّأ من حذائه.
الراوي:
في قصص المجموعة الراوي عليم، يعرف بالتفصيل كلّ الأحداث التي يسردها للمتلقّي وفي بعضها راوِ شاهد أي الذي لا يكون واحدًا من شخصيّات القصّة، هو شاهد على الأحداث، ويرويها كما رآها بدون تَدَخُل.
الراوي المشارك/المتدخّل: هو راوٍ يميل إلى التدخّل بالأحداث والتعبير عن رأيه بما يحدث. يحدث أن يفسّر سلوك الشّخصيّات من وجهة نظره، أحيانًا يتحيّز مع إحدى الشّخصيّات. أمثلة من المجموعة:
– “كانت ميمي “شويعرة” في البدايات” الراوي يستعمل كلمة شويعرة ساخرًا منها. (قصّة “الطمبورية”، ص 34).
– ” قامت روابط القرى بزعامة سيّئ الذكر مصطفى دودين وأعوانه (قصّة “ردّني إلى بلادي”، ص 48).
– “بعد أن كانت تتوضّأ للصلاة كعادتها، انقضّوا عليها مثل كلاب مسعورة” (قصّة “كلّها طبخة عكّوب” ص64).
– “انتبه فارس، كاتب شاب يكتب الشعر والنقد، وله مكانته وحضوره الجادّ، لهذه الفقاعة، ونبّه إليها” يستعمل الراوي كلمة فقاعة ساخرًا من شخصيّة رماح. (قصّة “البقرة الحلوب” ص 94).
ملخّص
عالجنا في هذه المقالة المجموعة القصصيّة “على شرفة حيفا”، وسمّيناها حول “شرفة حيفا” ــــ كناية عن فلسطين. نرى أنّ المجموعة توثِّق وتحافظ على الرواية الفلسطينيّة حتّى لا تُمحى من الذاكرة وكيلا تنساها الأجيال الفلسطينيّة، لذلك ثبَّتنا لها شعارًا يتمحور حول أهمّيَّة الذاكرة. وتطرّقنا أيضًا إلى مكوّنات العمل القصصيّ، لذلك ابتدأنا المقالة بمدخل يوضِّح تداعيات عنوان المجموعة وتوضيح المجاز المرسل فيه، ثمّ تطرّقنا إلى النوع الأدبيّ، وإلى فلسطينيَّة المضامين ولغة السرد وثبَّتنا بعض الملاحظات كهوامش مع المصادر التي اسْتَعَنَّا بها.
هوامش
1. مجموعة قصصيّة تحتوي على38 قصّة قصيرة في 108 صفحات، مراجعة الأستاذ فراس حج محمّد، صمّم الغلاف والكتاب الأستاذ ظافر شوربجي.
2. 15 قصّة تحتوي على 120-200 كلمة.
13 قصّة تحتوي على 200-300 كلمة.
9 قصص تحتوي على 300-550 كلمة.
قصّة واحدة تحتوي على 720 كلمة.
3. شادي مشنتف -أستاذ في علم الاجتماع.
4. “سِبِرنا ببلادنا” من عاداتنا ببلادنا، وهو قول يستعمل كحجّة للقيام بسلوك غير مقبول. ارتكاب خطأ ومخالفات وتحميلها على العادات قائلين “سِبِرنا ببلادنا”.
المصادر
عبادي، حسن. (2023). على شرفة حيفا. الرعاة للدراسات والنشر، رام الله – جسور ثقافيّة للنشر والتوزيع – عمّان، الأردن.
عزرائيل، أوخماني. (1979). معجم المصطلحات الأدبيّة. سفريات بوعاليم، تل أبيب.
عساقلة، عصام، ومرعي، خديجة. (2024). بناء الشّخصيّات في روايات أيمن العتوم: رواية رؤوس الشّياطين ورواية أنا يوسف نموذجًا. دار يزن للنشر والتوزيع، دالية الكرمل.
المناصرة، حسين. (2015). القصّة القصيرة جدًّا: رؤى وجماليّات. عالم الكتب الحديث. إربد، الأردن.
مشنتف، شادي. (2020). أسامينا.
موقع الخيام
https://khiyam.com/news/article.php?articleID=35300
واحي، محمّد. (2023). القصّة القصيرة: النشأة وصعوبات التعريف.
موقع مؤسّسة عبد الحميد شومان.
https://shoman.org/Readblogs/ID/4620/Short-Stories-in-Literature