صحيح أنّ “مؤونة” ناطور بلدنا كانت على حساب كلّ أهل البلد، ولو ظلّت على ما بدأت: “كلّ بيت وعلى قدر ما يطلع من نفسه”، لكانت أربح للناطور وأفضل لأهل البلد، ولكن كانت للمختار حسابات أخرى، فالفرق كبير بين أن يستلم الناطور مؤونته من أيدي الناس مباشرة وبين أن يستلمها من يد المختار، مع أنّها في الحالتين من كيس الناس، كان الفارق أنّه عندما صار “الدفع” على يد المختار وجب إيصالها إلى داره “كل راس شهر”.
ناطور البلد حطّ في البلد قادمًا راحلًا من قرية في إقليم البلّان شمال هضبة الجولان راغبًا بالإقامة في البلد، ولحاجة الناس لرجل “لا قدّامُه ولا وراه” يقوم في مهام الناطور جاءهم الرجل هبة من السماء، فاتّكلوا على الله وعلى فراسة شيخهم ومعرفته بالناس، فتوافقوا على الرجل. ولا تغرّن أحد هذه ال: “توافقوا” فلم تكن البلد “المدينة الفاضلة”، ولكن بما أنّ أجرة الناطور على الكلّ فكان لا بدّ من أخذ الموافقة، ولو شكليّا، من كبير العائلة قدرًا ووجاهة وليس بالضرورة من كلّ فرد وفرد.
لم يخذلهم الله ولم تخِب فراسة الشيخ فمرّت الأشهر ولم تُظهِر الأيام من الناطور شرّا، اللهم إلّا أنّ البعض كان يشكّ، رغم معرفتهم أنّ بعض الشكّ إثم، أنّه عين عليهم للمختار. صحيح أنّ في ذلك بعض شرّ إن صحّت الشكوك ولكنّه أهونها، فبلعوها مثلما بلعوا كثيرا قبلها، فإن لم يكن الناطور العين فغيره من العيون لبرّة ولجوّة من “أولاد الحلال!” كثرة ووفرة بينهم، وعلى رأي أحد ظرفاء البلد: “إن رميت صرماية لفوق تنزل على راس واحد منهم قبل ما توصل الأرض”.
المهمّ في نهاية وجوهر الأمر، أنّ حصّة المختار والحكومة من الغلّة مدبّرة، ولا منصب وزير ولا رتبة غفير مطمحًا لأحد من أهل البلد. تركيّا والسفربرلك والجراد وراءهم والانجليز أمامهم، ومثلما حكى من قيّض له وعاد من الشباب من غياهب تركيا وعسكرها، أو القلّة من الذين عادوا من جنود الشريف، فإنّ الإنجليز والشريف حسين والعرب “خوش بوش”.
المختار ظلّ مختارا والشيخ ظلّ شيخا والناطور ظلّ ناطورا، ومؤونة الناطور و”عشاءات” أو “غداءات” ضيوف المختار، وإذ لم يكن تسنّى للبلد أن تحظى بطريق تصلح للآليّات فعلَف وتِبْنُ دوابّ ضيوف المختار، ظلّت كلّها على الناس يقتطعونها من أرزاقهم القليلة أصلًا ويقدّمونها للمختار والقائم على ضمان القدر والنوع؛ الناطور ضامنًا الحاجة وفائضا إخلاصًا للمختار!
بقاء الحال من المحال، فبدأت ترد إلى أسماع المختار أمور وأقوال غريبة جديدة لم يتعوّد عليها لا هو ولا أهل البلد، فهؤلاء الذين عادوا من العسكر “راجعين حاملين كلام يوزّعونه وكأنّهم مْفَتْحين في ديار عميان”، يحكون عن: رابطة وطن عربي، وجمعيّة نهضة عربيّة، والعربيّة الفتاة، والعهد، وأسماء أخرى غريبة عجيبة على المختار وزُلْمِه فلا يحسنون جمع كلمة منها على كلمة، وكم بالحري على الناس.
المختار والذي كان سارع وشبّك مع الحكّام الجدد من الإنجليز ورحّب به هؤلاء، وبدأت وفود أجرائهم تفِد إلى البلد أو الأصح إلى دار المختار، “مقطورة” وراء ضابط إنجليزي يرافقه مترجم، هذا المختار قلِقَ من حكي هؤلاء “اللي راجعين ومفكرين حالهم مفتحين في ديار عميان”، وكان لا بدّ أن يتصرّف، خصوصا وأنّ بعض الحكي يدور كذلك في السرّ في قعدات خاصّة، ويدور عن وجوب مقاومة الحكّام الإنجليز، الذين أخلّوا بوعودهم للعرب ويدعمون اليهود، ويدور حول محاسبة المتعاونين معهم.
لم يكن المختار يستوعب كلّ ما يُنقل إليه من كلام يدور على ألسنة هؤلاء وفي قعداتهم مع الناس، ولكن بفطرته أدرك أنّ هذا كلامٌ خطِر عليه وعلى مركزه وعلى علاقاته مع “عمُّهْ الجديد اللّي أخذ أمُّهْ” ولا ضير عند المختار إن كان “الأخْذ” تمّ رضاءً أو عنوةً، والكلام هذا خطِر أيضًا على “العمّ” بذات نفسه.
كان لا بدّ من تحرّك، ولأنّه صار “ابن دولة” عند الإنجليز كما كان عند العثمانيّين فلن يصعب الأمر عليه، وما عليه إلّا أن يتوجه لمشورة أفندي المنطقة أو في لغة العمّ الجديد؛ ضابط المنطقة، وهو العارف إنّه على زمن تركيا على مثل هكذا حكي وأقلّ، كان لحبل المشنقة القول الفصل، ففقط قبل كم سنة علّق جمال باشا في الساحات مثل هؤلاء، وهو متأكّد أنّ الإنجليز الأغراب لن يكونوا أسهل من الأتراك أبناء الملّة، وتأكّده هذا وصل حدّ الإيمان.
كانت مفاجأة المختار لا توصف حينما ردّه ضابط المنطقة خاوي الوفاض، لم يعطه حتّى وعيد باعتقال هؤلاء كم يوم وواسطة منه وخروج، ولا “فَلَقة” ولا “نَتْفة” شارب، لا بل أكثر فقد صعقه ردّه حين توجّه إليه، وفي لهجته صرامة وحدّة، قائلًا: “خليهم يحكوا يا مختار وما عليك نحن ندبّرها!”
مرّت سنوات قليلة والحكم العسكري صار مدنيّا سمّوه: انتدابًا، وأعضاء الجمعيّات هؤلاء علا صوتهم وكثر من حولهم، ولم يعد المختار محلّ مشورة أهل البلد في الصغيرة والكبيرة وإن ظلّت داره مركز استقبال وفود الحكومة، ولم يكن يفوّت وفدًا دون أن يطرح أمامه القضيّة، فلا يجد من الضابط إلا بعض الكلام الذي “لا يروي من عطش ولا يشبع من جوع”، اللهم إلّا أنّ ضابط الدوريّة حمل له معه في الزيارة الأخيرة دعوة للقاء حاكم اللواء، وكان هذا بالنسبة للمختار شرفا كبيرا إذ كان لقاء القائم مقام في القضاء شيئا كبيرا ونادرا، فكم بالحري حاكم اللواء بذاته.
استبشر المختار خيرا، فلم يكن الحاكم ليتعب نفسه ويدعوه ليلتقيه لو لم يكن في الأمر شيء “يحرِز”. كانت دار السراي تعجّ بالمخاتير والمشايخ من كلّ قرى المنطقة، يعرف المختار بعضهم والبعض الآخر لا يعرفهم. كدّسوهم في قاعة من قاعات السراي بعد أن ضيّفوهم عند المدخل بكأس عصير وشقفة “بسكوت”. بعد أن طال انتظارهم أعلن آذن عن دخول الحاكم فهبّوا وقوفا، وظلّوا إلى بعد أن جلس الحاكم وسوّى من جلسته “على أقلّ من مهلُهْ”، فقعدوا ليس قبل أن يعطيهم الآذنُ الإذنَ بعد أن التقط الإشارة من مساعد الحاكم.
كان المختار كما كلّ المخاتير طبعا، قد جهّزوا أنفسهم لخُطب “عصماء” في شخص حضرة الحاكم وبريطانيا العظمى وصاحب الجلالة ملكها المعظّم، غير أنّ القائد فوّت عليهم هذه الفرصة، وراح وهو جالس يحكي، والمترجم يترجم. كان كلامه مقتضبا، وإن بدأه بالإشادة بدورهم في خدمة جلالة الملك لكن فحواه الأهمّ كان: “أنّ حكومة صاحب الجلالة ممثّلة بالمندوب السامي وإضافة لأفضالها الجمّة، وتقديرا منها لهم ول”ربوعهم” قرّرت أن تمنح جائزة سنويّة لكلّ أعضاء الجمعيّات تعبيرا عن روح الدولة السنيّة، يقدّمها المندوب السامي طريقة لجنة سينتدبها حاكم المنطقة من الحضور وسيرسل التعيين لاحقا إلى الأعضاء.”.
مختارنا وأكيد كما كلّ المخاتير والشيوخ أمثاله لم يفقهوا سرّ هذه الخطوة، هذا أصلا إذا كان بمقدورهم أن يفقهوا، وحتّى إن كانوا أو كان أحدهم فلن “يرفعوا أعينهم فوق الحاجب”، والدولة حاجبهم العالي. المهم حالف الحظ مختارنا و”طلع” عضو في اللجنة وصار بابه مطرق المتقدّمين من أعضاء الجمعيّات، وعلى الغالب يطرقونه بعد أن يكونوا قد كانوا طرقوا خطابا أمام أعضاء الجمعيّة ضد الاستعمار والانتداب وسياسته مع اليهود ومن أجل الاستقلال والحريّة، ورتّبوا أن يُنشر في إحدى صحف نهاية الأسبوع القليلة والمراقبة وإن كان ببعض تعديل أو تحوير يشغل فيهما المحرّر قلمه فلا بأس.
الغريب أنّ هؤلاء ما كانوا يعرفون أنّ المختار عضو اللجنة “ما هو إلّا شرّابة خُرج”، أو قل: “فصّ كُر لا ينفع ولا يضر”، صحيح أنّ المندوب أعطاه صلاحيّة أن يستلم الطلبات ويوصلها ولكن بين هذا وبين أن يوصي أو يشير حتّى على مرشّح للجائزة فالبون شاسع. ألم يقُل أحد “المشاغبين” من تلك الجمعيّات عن المجلس الاستشاري الذي عيّنه الإنجليز حينها إنّه: “أقل من أن يُستشار لا بل أقلّ من أن يُشار إليه”، فكم بالحري أعضاء مثل هذه اللجان الكثيرة؟!
كان المندوب حين يوقّع على وثائق الجوائز يفرك كفّيه مرتاحا، ودأب أن يقوم أحد موظّفيه بإعلام الفائز مع نسخة من الرسالة إلى أعضاء اللجنة من الشيوخ والمخاتير، وأنّ يرتّب اجتماعا في داراتهم “حسْب الدُّور” لتقديم الجائزة، وكم كان المختار مزهوّا وقد أوكل أن يسلّم الفائز الجائزة بيده وبعد أن يكون سلّمه إيّاها ممثّل الحاكم وأمام الحضور اللّافت، وبعد أن يكون ضمن أن “متّع” الحضور أنظارهم بشعار الدولة العليّة الظاهر عليها بشكل بارز، والأهم كان: أن تُضمن رؤية الظرف المُغلق النازل من يد ممثّل الحاكم إلى يد المختار، وبتاتا لم تكن يد الحاكم من فوق لأنّه أطول من المختار.
كلّ هذا الحكي على ذمّة حفيد الناطور، ويقسم أغلظ الإيمان أنّه يرويها تمامًا كما سمعها من جدّه، لكنّة كان يمتنع أن يقول إن كان جدّه حين كان يرويها، يرويها هازئًا أو مشفقَا، ففي نهاية الأمر أهل البلد “نطّروه” وأكرموه والله دعا بالسّتْر والحفيد حافظ للأمانة.
كان هذا التساؤل ملحاحًا وظلّ، لأنّه وعلى ذمّة الحفيد: تكرّر الأمر سنة بعد سنة وظلّ المختار لا يفقه لماذا يفعل الحاكم ما يفعل، ولا دأب الحاكم أو ممثلوه أن يفهموه سرّ ذلك، وبات المختار مقتنعًا أنّهم من وراء ظهره وبينهم وبين أنفسهم يقولون وساخرين: “يفهم واللّا ما يفهم مثل بعضُهْ… المهمّ يظل هكذا مختار”. خلاصته هذه، وبالذات عجزُها، لم تُرح باله، وظلّ لا يعرف لماذا لم يجد من مشير له في أزمته هذه يريح باله إلّا الناطور، غير أنّ هذا “اللّعين”، وهذه اللّعين على ذمّتي أنا فالحفيد منها براء، أفصح ولم يفصح، فقد كان قال للمختار ردّا:
“هدّي بالك… دولة قرود وعارفة شو عمّال تعمل… هذِهْ مَعارض جوّا وإن احتاجت فللمَعارض برّة … والسيف اللي سقيْتُهْ من يد خصْمُهْ ما يْحِتّ… انتَ راح تظلّ مختار بس الجمعيّات ما راح تظلّ جمعيّات، واسمع منّي: قبل كان الحكي على موّال وصار اليوم على موّال… واللي أخذ صار شاطر… وكثروا الشُطّار… وبيني وبينك طُز في هالشطارة!”
وختمها وقطمها الناطور ب: “هدّي بالك… إن جاءتك ظرْبِهْ… مش من هون راح تيجيك!”
واكتفى المختار بابتسامة عريضة، ربّما إعجابًا بكلام الناطور!
أواسط أيار 2020