صمت رهيب رتيب يطبق على الدنيا! فهل اختنقت زغاريد حقول الريح؟! نكوشتُ في أُذني لعلي أسمع تكتكة نبض في وريد هذا الزمن الدمويّ! ولم أسمع غير صرخات استجداء وْلاد زغار كثار! دُوار الدار يبكّي المواويل، والصغار، في البال، بعدن تحت السما الزرقا عميلعبوا!!
نام الليل متخمًا بعشاء، خصاصته ألف جناح زغلول حمام! ونامت على الطوى ريمه! وعصفورة الشجن، في البيت سهرانه تحيّك دندنة تهدّيء من روع قناديل ضيعتي المرتجفة. “أنا ومتكيّه عبابي” أفتعل النعاس، “مرقِت نحله بكّير”، قبل عيون الضوّ! فهل ضيّع نحل وطني قناديل الشروق؟! كيف تحدّى خريفًا تجلّد ليله والتهب صبحه!؟ النحلة تخبّر عن حال القفران بطنين ملحّن متقطّع وجيع، سلبني كبوتي! وتشبّ فيّ النار حنينًا لمفارش الشمس فوق سطوح بلادي، ولا تلبث أن تخبو، وتتركني صرخة في مهبّ رياح عمياء هائجة مشبعة بالدخان ورائحة الدماء… والعدم!
ويتفجّر العدم عن أنّة حلم يستعطي السماء: “شتّي يا دنيا تيزيد موسمنا ويِحلا…”! فيسكت الأولاد! هؤلاء المرعوبون من متساقطات السماء يتبخّرون تباعًا! “فلّوا”! وصدى استغاثتهم بالحياة يرعد في الفضا…ّ “لوين رايحين”؟ الجواب في ضمير العدم! “ما في حدا… لا تندهي يا أنا! ما في حدا”! ويلفّني عتم أنكى منه صمت كهذا! تقوقعتُ كما الحيّ منقبضة؛ أين نواطير الحريّة؟! مَن يستعيد بقايا ابتسامات طواها المدى مبلّلةً بالخوف من ظلمة العدم؟؟ لا صوت يخترق العدم!
وكان يوم آخر، وآخر… وصبح آخر تلاه مساء آخر… “ولمّا عحالي سكّرت الباب، لقيتُن بيني وبين حالي” زهورًا بيضاء بلون الحريّة، يصفّرون لعصافير الشمس الجاي من سفر طويل! وتحطّني الذاكرة في دوّارتها نشيدًا تشرينيًّا يحكي مواسم العزّ في ظلّ “توتة” الحارة! حيث درنا… لعّبنا الريح، وطيّرنا طيارات الورق رسائلَ حُبّ “مش معروفه لمين”! وتبادلنا الهدايا موقّعة ببصمات شفاه ووعود… وأسامي معروفه لمين! وكانت هذه كلّ ثروتنا! وتفرّقنا، وحين الوداع نسيناها هدايانا! وامّحت أسامينا الملفوفة بورق الدوالي، والقُبل! ونزعم أنّ الدهر الغادر قد نسّانا!!
“غاب نهار آخر”، وآخر… وكان مساء آخر تردّد بين جدرانه صوت أيقظ المارد: “هونيك في سجره ورا النبع الغميق_ محفور لي صوره على كعبا العتيق”… وتحضرني حكاية الشال الليلكي! فأُصدّع القوقعة، “ألقح” الشال عليّ، وأمضي… افترش بسطة من ورق تشارين، والريح تخشخش في المديات. وأنا أحلم بمصلِح أُمميّ يرمّم بعض ما أفسده الدهر، أُغالب النوم… حتى غلبني!
ويسرقني من عزّ النوم صوت رفرفة نغّمت الأيام والليالي، ويطلقني إلى دوّارة دارتنا كركارةِ نبع البرَكات. وأسمع ترجيع أنفاس ذاك الغربال كما عهدتُها؛ مزيجًا من غناء مرنَّم وابتهال مغنًى! وتحطّ عصفورة الشمس على أرض البيدر، تتمشّى “غندره”، فيقف مارد الشوق على قدميه إجلالًا…! ثمّ تخطو نحو البيت ملبّية دعوة ستّي، تنقر من الحَبّ حاجتها، وتحلّق في الفضا…
وتبقى ظلَّ جناح يزقزق حائمًا فوق مساطب الحصاد، وستّي تنحني، تحفن من تحت الغرباَل حفنتين من الردايد (الحبوب التي تلفظها عيون الغربال)، وتنعفها للعصافير الضيوف، بعيدًا عن مائدة الدجاج مخاطبة: تعالو حبايبى كُلو، تعالو وخلّيكو حوالينا! إحنا كلّ مألله أطعمنا منطعميكو، وألله كريم كثير… تخافوش! (وتحذو أُمي، بعد الغياب، حذوها)! فتبقى العصافير برَكةً للمواسم!
هذه الهدية عند الوداع ما نسيناها! وما كانت لتنجو من محرقة النسيان لولا أنّها محفورة عميقًا في صنّ جداريّة الذاكرة، محميّة بين قوسين: (زقزقات طير الفيروز وردايد ستّي)، وهما جوهر مختزل مبسّط يصلح مرجعًا إنسانيًّا. مؤرّخ في 21.11.2015 (يوم ميلاد فيروز الثمانين). وكنتُ فيه قد عاهدتُ ذاكرتي، وفاءً لها ولي، أن أُبيّض مسودّاتي العتيقة. فقمتُ لها. وكان بيدر، لفيروز فيه “كلّ عرس (أُسبوعيّ)، كُبّه، وقُرص من خالص الشهد “! تُرى، ما وراء هذا الانحياز؟!
ويحلّ موعد تحيّة هذا العام المتشظّي أخلاقيّا وروحيّا، فتختلط عليّ العبارات بالعَبرات اختلاط تسابيح الريش الفيروزيّ بمدائح غربال ستّي القمحاوي! مكلومة مرتبكة، وليس لي ما أُضيف على ما قيل، محليًّا وعالميًّا، بهذه الجوهرة النفيسة! فأستعير ما نسختُه في محفظة العام إيّاه:
((… وتُجمِع الدنيا، وبحقّ، على أنّ صوت فيروز عملة صعبة، ونادرة. ولكن، ما كان هذا الصوت أداة نافذة لاقتناص شغاف النفوس، لولا مخزونها الهائل من المزايا البنيويّة الخاصّة. ففي خلفيّة هذه القامة المهلّلة بالعظَمة، جملة من مقوّمات السحر الأُنثويّ المتجلّي خفَرًا غير مفتعَل وخفّة ظلّ مبطّنة بالعذوبة وذكاءً معزّزًا بالرقّة والتواضع… اجتماع هذه الطاقة من العناصر، رفّعها رتبة، وصنّع من حنجرتها كركة لبنانيّة تقطّر الخمر، كما تقطّر ماء الورد وزهر الليمون!
صوت فيروز موصل جيّد، بل الأجود، حين تؤخذ الذات كوحدة لا تتجزّأ. فالمسموع والمرئيّ لديها يختصران شاعرة نحّاتة أحاسيس، ناقدة مدقّقة في لغة الخطاب ومتخصّصة متفوّقة بتبسيط فلسفة الروح. حنجرتها آلة لتعقيم الكلام، وشخصها مزيّنٌ، يقدّم عرائس الشِّعر العاميّ فصيحًا تامّ الشكل، التوزيع، حسن الهندام، بحيث يستهوي الرضيع، كما الشابّ والكهل. والأُميّ، كما الواعظ والعالم… والحزين، كما الفرحان والحائر والمتخم، والجائع والمحروم! ولا تجد بين هذه الطلعات والنزلات أدنى مؤشّر على استثارة غريزة عابرة للذائقة المرعيّة؛ فهي إن” دقّت على صدرها، وقالت: افتحو”، إنّما ليدخل القلب كلّ هؤلاء! من على هذه السلالم، تكرّس شخصها ضابط إيقاع “العقيدة” الرحبانيّة. وقارها أضفى على قماشة صوتها الأصيل، دماثة أغنته عن التطريز، أو الترقيع باستعراض فاقع؛ فلا كتع ولا عرج، لا دلع ولا غنج! فقد أتقنت حبك الألفاظ بأبعادها، وما تعرقلت قطّ بقطبة أو خيط معقوص، سواء تحرّك أو سكن! ولم ترتجل، أو تستحدث عِرَبَة، إلّا وحلّقت باللحن عاليًا حتى الذرى… ممّا زاد الهوى الرحبانيّ اشتعالًا، وثراء إلى حدّ التضخّم!
لم تتمكّن هذه الطاغية من النفوس، إلّا باحتكارها أَساليب وأسرار غزل شالات أُبّهةٍ وطهرٍ أسقطت على الحُبّ صفة القدسيّة، وأسقطت عنه الشبهات الأخلاقيّة! (بل وحرّرته من قمع الجهل، وأطلقته من قفص المحرّمات)! وتنغرس في الوجدان الجمعيّ رائدة، تصوّرها الحياة رحّالة في فضاء يردّد: بروحي تلك الأرض التي أنجبت مَن أنشأ معبدًا للحُبّ والفرح، داخل نفق الحريّة!))
في هذه الأيام الكالحة تعصف بي زوبعة من الحنين لتلكما الهرمين اللتين صمّمتا السلوك رقّةً على مقاس الهيبة. “معلّقة بحبال الهوا”، أستحيل ورقة تصفّر مع تشرين! فأفتعل الشعور بالأمان، وأحطّ عينًا على قمر مشغرا، وعينًا على قمر “صوّانه” البقيعة. وأُراوح المكان أُذنًا يوشوشها غربال “عليادي ليادي” يحكي لامّ سليْمان بلدي، حكاية لبنان المجد المتوّج بالغار. لبنان العظْمة العالقة في حلق غول المال والسلطة العالميّة… لبنان العَظَمة عظْمة لا يجرؤ لقلق، مهما غلّظ ومطّ رقَبّته، على انتزاعها، لأنّه مدرك كلّ الإدراك أنّه سيُلتَهم، إن عاجلًا أو آجلًا!!
دخلتُ فستان طفلة فلاحة تلحق فيروز مربوطة بحبل طيّارة من ورق! وينهكني الجري، فأغفو مبلّلة بالدمع، خوفًا من حرق الورق، حينًا، ودمع الرجاء أحيانا! وينتهي مفعول المسكّن، لأستفيق على واقع يختصر تسعة وثمانين ربيعًا فيروزيّا بورقة خريف لبنانيّة الشاعريّة والألوان تواجه صواعق الدهر، فيما الأقربون سكارى مخدّرون والأبعدون يفكّكون حبّات التاج، وعليها يقترعون!