فتى أمِّ الطوابين – حسين أمين كنانة

ورد عن الفيلسوف والأديب الروسي الكبير “دستويفسكي” أنّه قال: “البدايات للكلّ والثبات للصّادقين”. ولإن وافقناه في الشطر الثاني فإنّ لنا ما يقال عن الشطر الأول؛ فليست كلّ بدايةٍ بدايةً، وليس كلُّ إقدامٍ إقدامًا؛ فإنّ أصعب الصعوبات تكمن في البدايات؛ فترى الرجل يُقدمُ تارةً ويحجمُ أخرى قبل أن يعانقَ مِدادُهُ الأسطرَ الزرقاء. ولَكَمْ سموْتُ إلى الإتيان ببدعةٍ مستحدثة مستحسنة تُعجِزُ الأوّلين وتفوت الآخرين! وما العيب في الأحلام ما لم تكن مستحيلة أو مُلابِسةً حرامًا؟ لقد أبى قلمي إلا أن ينفثَ ما ينفث – هنا – ليزيح ثِقَلًا ناء به صدري؛ ثقلٌ سأخطّه كشظايا صور متناثرة لَمْلَمْتُها إما من أفواه رجال ونساء عايشوا ذلك الرجل الذي كبرنا على أخباره، وذاعت في البلدة شهرتُهُ، حتّى زاحم بمنكبيه أبطال جبل “أوليمبوس” في عيوننا نحن الصغار من أبناء إخوانه وأقاربه، وإما من أفواه أترابنا الذين ما زالت في أذهانـهم بقايا بعض صورٍ له يخاف الواحد فينا أن تندرسَ مع ازدلاف الدهر.

هو الوفاء إذًا؛ الوفاء لرجلٍ ربما لم أَكلّمْه في حياتي، غيرَ أنَّه بَقِيَ بصورِه التي تزيِّنُ جدران بيتنا وبعضَ بيوت العائلة في أحلام تراودني منذ صغري إلى أن بلغْتُ مبلغَ الرجال… كان كبار السنِّ إذا رأوني سائرًا في أحد شوارع البلدة فعرفوني من تلك السحنة الممَيِّزة لعائلتي – وليس هذا بالأمر العسير – ثمَّ سألوني عن “يوسف العلي” أجبتهم بلهجة ساذجةٍ غرَّةٍ يخالطها الفخار بأنَّه عمِّي… نعم، هو عمِّي، ثمَّ أرفع عينيَّ بخبثٍ طفوليٍّ ليرتطم ان بقسمات وجه السائل الذي سرعان ما تداخله الهيبة لتتدفَّق من فمه الرحمات والدعوات والرثاء؛ ففي ذات مرَّة – أثناء إيابي من المدرسة مع بعض أُصَيْحَابِي – سلكنا طريقًا مختصرةً لا نسلكُها عادةً في الذهاب وإذ بأحدهم – والظَّاهر أنَّ هذه الطريق كانت في أرضِه – يزمجرُ ويجرجر فلا تكادُ تفهم ما يقول، لكنَّنا أدركنا أنّنا غير مرغوب فينا في أرضِه، ثمّ إنّه استدرك بعض الاستدراك ناظرًا إليَّ، سائلًا إياي متمهِّلًا عن “يوسف العلي” – رحمه الله – مستفهمًا عما يجمعني به من أواصر الدم، فلمَّا علمَ مدى قرابتي أذن لي بالعبور دون البقيّة فتراجع الأصحاب – تشيِّعهم ابتسامتي التيَّاهة – مشدوهين من قوَّة كلمة السّرّ التي كانت بحوزتي رغم جهلي بها.

لقد ألزمني وفائي له بتقييد ما لُقِّنتُهُ وأنا صغير، غيرَ أنّه اتَّضح لي أنّني أعرف أكثر من بقية أترابي، بل وممّن يكبرني بأعوام، وليس ذلك ذكاءً منّي، ولا خبرةً استكننتُها – يرحمكم الله -، ولكنَّ والدي كان من رفقاء عمّي “يوسف” – وبالمناسبة فهو عمّ والدي وليس عمّي المباشر، ولكنَّ التبجيل والاحترام واجب لا بُدَّ منه – بل قُلْ: إنَّه كان ممن يظلّونه وقتَ الظهيرة؛ بحكم قرابته منه، وقرب السّنّ بينهما، وإعجاب الأوّل بالثاني ذلك الإعجاب الذي تجاوز حدَّ إعجاب المرء بعمِّه، حتَّى إذا راق صفو مزاجه – وهذا لا يتأتّى كثيرًا – ترى الكلمات تنثال من فيه؛ لتتوالى الأحداث تترى يعتلي بعضها بعضًا؛ لتصبَّ عندي كلُّها في عاديَّة لا تنزح، أو في قرار سحيق.

لطالما كنتُ قريبَ المكان من الشيوخ، كثير اللزوم لهم والتردّد عليهم، ولقد أوقع الله في قلبي حبَّ الصمت في حضرةِ هؤلاء، حتَّى إنّ الواحدَ منهم كان يعجب من ذلك الفتى الذي ترك أقرانه وملاعبهم، ومال إلى مجالس الشّيب التي يـملّها الغلمان.

أُحِبُّ القديـم وأعشقُ الأرشفة، أحافظُ على الماضي القريب كما لو كان تراثًا كنعانيًّا أو ثموديًّا. إن العثور على نصٍّ تائهٍ بين ثنايا الكتبِ يرتبطُ بماضينا يـجعل يومي ورديًّا للغاية. أسطِّر بين الفينة والأخرى أحداثًا آنيَّةً، وربـما أعلّق عليها؛ علّها تصبح أرشيفًا لأبنائنا من بعدنا. ضحك منّي البعض في مراهقتي في الثانويَّة حينَ علمَ أنّني أجمع الظروف الفارغة القادمة من البريد، بل وأرتّبها في مجموعات موضوعيّة متجانسة، وليته علم ذلك العاذل السّاخر أنّ هذا الفتى الغرّ إنــّما يروم من وراء ما يفعل أن يعضَّ بنواجذه على أصل ماضيه، أو على ما سيصبح ماضيه؛ فلا يفرِّطُ في قليل منه ولا كثير. ولقد جاء على لسان إحدى بطلات الجاحظ: “ولكنّ تضييع القليل يـجرّ إلى تضييع الكثير”، ومع ذلك فأنا أقرُّ بأنّي كنت مبالغًا بعض الشيء، ولكنَّها كانت خطوة لا بدّ منها في سبيلٍ نتحرَّزُ فيه من التفريط. إن الغفلة – إخوتي – أدوأُ أدواءِ الشعوب، وأنا اليوم أضاحك نفسي حينما يطالعني ذلك الغلام الصغير أخضر العينين، أشقر الشعر، وهو منكبٌّ على إحدى الحجارة الجيريّة سهلة التفتيت، يطعنها بسكّينه فيظنُّ أنّه يـخلق منها قطعة فنِّيّة فريدة لا ينقصها سوى النطق، ولا يكتفي بذلك، بل ويخبِّئها في إحدى الحفر الرمليّة على أمل أن يعثر عليها أحد الآثاريّين بعد ألف عام أو أكثر؛ لتغدوَ مناطَ الآمال، ومحطّ أنظار الرجال، فماذا بربّكم تبغون من رجلٍ ترعرع على هذه الضفاف، واستقى من تلك الشطآن؟

هذا هو الفتى، “ولا فتى إلّا عليّ”، فماذا عن أمّ الطوابين التي اعتلت عنواننا عُنوةً مقترنةً بذلك الفتى؟ ولو أنّك سألت هذا السؤال لجيل الخمسينيّات والستينيّات فلن تـجدَ العَنَت في الوقوف على الإجابة، بل إنــّها هي التي ستجدك لا أنت. و “أمّ” هنا بمعنى “ذات” وهي للتكثير بلغة الفلسطينيّين إنْ صحّ التعبير. وفي هذا السياق ستكون أمُّ الطوابين ذاتَ الطوابين الكثيرة، وهي قرية يافةالناصرة، وإنْ شئْتَ يافا الجليل؛ تفريقًا عن يافا البحر المشهورة، ولإن توغّلتَ في حنايا التاريخ حتى وصلتَ إلى آبائنا العرب الكنعانيّين، فسيكون اسمها “يافيع”؛ بمعنى البهيج ولطالما كانت كذلك، فلا تـخجلوا من اسمها اليافيعيّ؛ فهو عربيّ بامتياز قد سبق “يوسف” وأخوته بدهر، بل بأدهُر. يافة التي اشتُهِرت في الأنـحاء بكثرة الطوابين، وما أدراك ما الطوابين؟!

وأرى نفسي مضطرًّا إلى الشرح عن هذا الكائن الذي سيبدو مرِّيـخيًّا للأجيال الشابة الّتي أنا منها؛ فالطوابين واحدها طابون، وإيقاع الكلمة مألوف عند شبابنا، وقد يقترنُ هذا الإيقاع باسم مطعمٍ شهير في الناصرة لم يبغِ صاحبه من اقتباسه هذا الاسم سوى الإشارة إلى الأصالة والانتماء أو هكذا أحسبه، والطابون عبارة عن قالب ترابي مفتوح السقف صمَّمه الفلاحون الفلسطينيّون لصناعة الخبز، صنعوه من التربة الجيرية بعد خلطها بـمادة التبن والماء وتعريضه لأشعة الشمس حتى يـجف، ثم يطمر الطابون بعد ذلك في الرماد وروث الحيوانات الجاف (الزبل) بعد تغطيته بغطاء حديديّ خاصّ، ويوضع داخله حجارة مكورة ملساء يطلق عليها اسم الرضف أو الرظف (حسب لهجتك الفسطينيّة)، ويوقد عليه النار حتى يصبح بدرجة حرارة كافية لإنضاج العجين، ينبغي المحافظة على درجة الحرارة هذه باستمرار من خلال إضافة (الزبل) يوميًّا على الطابون. هذه الطوابين يستعملها الفلاحون أيضا للتدفئة عبر طمر الحطب الجاف في الزبل لنصف يوم حتّى يتحوّل إلى فحم ملتهب، ثم يـخرجونه من رماد الزبل ويوضع في الكانون، وتعكف النساء عليه فتخبز أرغفة الخبز والمسخّن والمناقيش وسائر الطعام الذي ورثته تلك النسوة عن أمّهاتـهنّ، وهنا يـمتزج الطعام مع الأرض مع التاريخ مع الصمود، فمع كلّ موسمٍ وابلٍ بالأمطار لا بُدّ من أنْ تتعهَّدَ ربّةُ المنزل طابونـَها مرّة أخرى، وقد صدق ذلك الفيسبوكّيالذكيّ الظريف حين قال: “أمّ الطابون ربّت رجال وأمّ المناكير ربّت أظافر”، وهكذا كانت ربّة المنزل تتعهده بالترميم إن تـهدّم بفعل موسم الأمطار المبارك، أو أصابه الشقوق والانـهيار بفعل لهيب صيف الجليل، وما أدراك ما لهيبه؟ وليعذرني القارئ الكريم على استرسالي هذا إن شعر بالملل والضجر، أو بأنّه يعالج مادّة نظريّة يعتريها السّآمة؛ فالمعرفةُ دواءٌ لا غنًى عنه، وموردٌ لازم للعطشى.

مع تزاحم كلّ تلك الأفكار، ومع تصادم هاتيك الصور والخطوات والومضات، علمْتُ أنّ الأمر يحتاج إلى صولة الكريم، والصبر الجميل؛ فادَّرَّعْتُ الجِدَّ، وتسربلْتُ العنادَ؛ خوفًا من تملّص ذكرياتٍ باتت مهدّدة بالفناء والزَّوال، وامتشقتُ يراعي خاطًّا السواد بالبياض؛ علّي أُنقذُ ما أستطيعُ إنقاذَهُ من أزمانٍ أُوقفْتُ عليها ولم أشهدها، أصاولها بـما عندي من آلة أخشى معها أن أتردّى في طلب ما لا يُرام؛ فأكون كما قال الأستاذ محمود شاكر في كتابه الرائع “نـمط صعب نـمط مخيف”: “كان كمن وقعت له صورة ممزّقة طرائق قِدَدًا قِدَدًا، صِغارًا صِغارًا، متناثرة مختلطةً، فرامَ أن يعيدها إلى ما كانت عليه قبل تـمزيقها، وهو في ذلك كلّه لا يدري كيف كانت الصورة، ثمّ هو لا يضمن أن يكونَ بعضُ أجزائها قد هلك، ويخشى أن يكونَ قد اختلط بـها ما ليس منها، من صورة أخرى ممزّقة كانت تشبهها رُقعةً وألوانًا”. وما دمنا قد ذكرنا واقتبسنا من دُرر الأستاذ محمود، فإننِّي أخشى أن يصحّ فيّ قوله: “فهو كما ترى مرتقًى عويصٌ صعب الجانب، متشعّب المذاهب سالكُهُ سارٍ على غَرَر، فمن رام التّوغّل فيه بلا موهبةٍ أوتيها، وبلا عُدَّةٍ هيَّأها، وبلا وَرَعٍ يُكفكِفُ من جرأتِه وتهوُّرِه، بلغ في الإساءة، وشمخ عليه الشِّعرُ، ولن يأمن أن تزلّ به قدمٌ إلى مهوًى بعيد القرار”، ولكنَّني أقول: حسبنا أن نحاول، وقد قالوا قديـمًا: “ما لا يُدرَكُ كلّه لا يُترَكُ جُلُّه”؛ ولعلَّ دعاءً من أحد القارئينَ يصل إلى صاحبنا فيفرح به بعد أن سكنت الجوارح وأُلجِمَت الألسن وانتظر أصحابُ تلك الدار ما يـجود به عليهم أصحاب هذه الدار، فسَقْيًا لك وَرَعْيًا عمَّاه، ولعلّ الله يجمعنا في جنانِهِ ورحماتِهِ، إنّه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.

ألف مبارك الاصدار متمنين لكاتبنا المزيد من العطاء


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*