يستنهض الفجر رقيقَ الوتر جليلَ الخفَر، فأهبّ نشوى، أخلع عني ثوب الضجر…أُصبّح على النافذة… أُزيح عنها نقاب الكدر، فأهيم ذرّةً من التراب مستَفَزَّةً تناور ذرّات الزمن!
طلائع النهار المخدّدة بالبِشر تستبسمني، فأتبسّم! وأنخرط في المشهد حتى التوحّد!
“عيني بترفّ”! فما الخبر؟ إنّها شهقة الحياة تنبعث من عنق اللحظة: سوف أحيا! وأستنشق من هواها، بنهم عجيب، جرعات تكفيني قوتًا لساعات وساعات… وتدوّي صافرة الإنذار، فأُغلق النافذة، أُلاطف الستار، وأنغلق داخل قبضة نفسي، وهي الركن الأكثر أمنًا بين محميّات الدار.
هنا لن “أشغل البال بماضي الزمان…”، وما كان منه حتى الآن! لكنّني لم أتمكّن من تجاهُل آتي العيش، وأنا محتجزة على خطّ النار…! فأعمل على استجماع ذاتي تحت جناح طنّان أربكه ارتجاج الفضاء… فهل أُنجح بتزيين أتي العيش، وصداه يكسّر الأرض قبل انطلاق الصاعقة؟ لا! وهل أتغافل عن واقع يدوّر ساعة الزمن بعكس الثوابت العلميّة؟ لا! وهل أُكذّب حقيقة أنّ “العالم واقف عكفّ عفريت”؟ لا! فالوقائع المحسوسة تدلّ عليه غازيًا مدجّجًا بالنار عازمًا على شيطنة الحياة، وإخضاعها حتى يتمّ انقلاب الزمان على هذا المكان من الدنيا! ويعلو صوت الحياة: هيهاتِ هيهات!
هكذا نمنّن النفس بالآمال نرقبها، فنستولي على الزمان لحظة، لنحيا!
ويستولي عليّ الخدر… فأرتعد مدوّيةً: “يا ربُّ هل يرضيك هذا الظما ___ والماءُ ينسابُ أمامي زلال”؟ لكنّ الله فاقد حاسّة السمع! فكيف يسمع مع ضجيج آلة الدمار!؟وأُعتَصَر، فأُبصر غير الظاهر من أوجه الموت السريريّ.أجل؛ فبرودة أطراف النفس موات. وهذا أحد أشكال الموت السريريّ، ومثله شيخوخة الأمل، وتلبّد آفاق البهجة، وانكسار الأقلام والأوتار… والتواء الألسن ورقاد الحروف موات يمهّد لموت محتّم!
ارتعاشة كفّي دليل على وجودي خارج حزام الموات! فأُسارع بتحسّس حرارة ذاتي، بالاحتكاك بذاكرة الأيام الدافئات… وينشلّ قلمي مع معاودة الإنذار! فهل أُلقيه للقدَر؟ لا! انعطفتُ به لنعبّ معًا عبّة من الماء الزلال ذاك… فإنّ ” الأوْلى بهذا القلب أن يخفق…”
هكذا نراوغ حين تضطرّنا الحياة للنفخ في حناياها!
أمّا الذاكرة فنادرًا ما تنتهج المراوغة، فتجرّني مباشرة، وتخرجني، برفق بالغ، من طوق عصافير ونايات هذا الصباح المرتعد، وتدفع بي إلى مسيل خمريّات المساء، فأنأى بي عن اللحظة، وأغرق بين سويعات الأصيل! بل أعوم وأنتصر… فأصعد انتصاري سلّمًا إلى قمة صخريّة لا تخترقها الإنذارات الأرضيّة… وتعود لله حاسّة السمع! فأنتشي وأوغل بالصعود، حتى بلغتُ ناطحة سحاب ربّانيّة قائمة على أحد مرتفعات الشباب! هنا سأنفرد بنفسي ساعة وأكثر…
لستُ بوارد الطيران في هذا المجال من الدنيا، وإن كنتُ لا أخاف المرتفعات. لكنّ الذاكرة تطلقني، فأُحلّق عاليًا نحو المفاعل الذريّ الذي أنتج قلادة كلاميّة تترجم لغة السماء وفلسفة الأرض في آن! ” ولإن تفصل القطرة عن بحرها ___ ففي مداه منتهى أمرها”! من هنا أجاز اللاهوت الكونيّ النجوى “تقاربت، يا ربّ ما بيننا مسافة البعد على قدرها”!
ما أقوى عزيمة الحياة، وأنفذ خطابها اللهَ حين تتلاعب الأقدار بمحاسنها! من هنا أتعلّق بالكلمة، وأنجو بمعجزة كلاميّة متكاملة لغة ولحنًا وصوتًا وفكرًا وجدانيًّا كونيًّا. رباعيّات تفاعلتُ معها، وطربتُ لها عشرات المرات، حتى النخاع، اليوم تخترقني وتمسحني مسحًا شاملًا حتى النخاع! لا مجال الآن للغوص في يمّ هذا المجهول من النفس. لكنّني أغوص وأمعِن في أبعاد هذا المحيط الروحانيّ…!
“رباعيات الخيّام” منحوتة صوتيّة مصوغة ببالغ الدقّة والإتقان، بحيث يمكن القول بأنّ توحّد أربعة عناصرها بمحاكاة روحيّة خالصة، قد أخرج ملحمة وجدانيّة ألغت الحواجز الضمنيّة بين عمر الخيّام وأحمد رامي، كما بين رياض السنباطي وأُم كلثوم! وتتجلّى الأُسطورة بعزف الصوت تناغمًا مطلقًا مع نطق الوتر، في لحظة انبعاث عمق الفكر الفارسيّ بإيقاع عربيّ النفحة والقافية!
من المؤلم أنّ يكون اقتناء هذه النوعيّة من الجواهر محرَّمًاعلى المستأجرين شققًا سكنيّة في ناطحات السحاب الأرضيّة!
ويصغي الزمان المثقَل بالآثام لصرخة الحياة في هدير تشرين: سوف أحيا!
وتطفو على السطح حقيقة أنّ الحياة لا تُهزَم، أو تُشكَم ما دامت تسمّع الآفق خالدات شرقها بلوحة تنطق: سوف أحيا!