زينب والطشت- براءة غسان أبو بكر

زينب، جيبي طشت المي لننكع اجرين ابوكي.

قفّعت زينب شفتيها وقطّبت حاجبيها وتلوّت أمعاؤها، وونونت في شيء ما، وحملتِ “الطشت” إلى غرفة جلوس والدها، الّذي يقعى في المكان بملابسه الداخليّة الصفراء، الممتلئة بالبقع البيضاء، الّتي يحتار بها كلّ مَن يراها؛ هل هي بيضاءُ في الأصل أم صفراء!

ركعت إلى رجليه واضعةً الطشت، وساحبة جسدها من الغرفة كلمح البصر، وأنفاسها ثقيلة ثقيلة كالحجر…

فالتقطها صوت والدها:

 

– لوين رايحه ريح ينفختش، تعالي قصيلي أظافري وأبرديهن.

– يابا بعرفش أنا اقصّلّك اظافرك، بس بخاف أنا أقرطلك اللّحمه.

هرعت أمُّها إلى المكان وهي ترتجف بثوبها البالي، آخذةً بحلّ الزنارعن وسْطِها وإسدال أقمشتها المبتلّة، وبصوت مرتجف وريق قصبيٍّ قالت:

 

– أنا أنا بعملك ايّاهن، دشرك منها يا أحمد.

وركعتِ الأمُّ إلى قدمي الأب…

دخلت زينب الغرفة وأوصدت الباب بالمفتاح وبالقفل اليدويّ، صفَقَت ظهرها عُرْض الحائط، شدهت أبصارها، وحملت رأسها بين قبضتي كفّيها وتمتّمَت:

-“أكرهك”.

“فيلم كل يوم جمعة”.

ثمّ قذفت بنفسها إلى فرشة على الارض وغطست في نوم عميق…

كانت زينب تعاني من تقلّبات حديّة في النوم؛ فمرّة تجدها كثيرةَ النوم قليلةّ الاستيقاظ لنوم قد يستمر لأيّام متوالية، واذا ما استيقظت، كثيرًا ما تراها تجرّ أرجلها جرًّا، وكأنّها مقيّدة القدمَيْن، أو أنّها تجترّ الأرق لليالٍ متتالية، فترى اللّيل الدامس يستوطن عينيها ويخفي وجهها الممتلئ بالبثور والثقوب الكثيرة.

كانت الأمّ حريصة أن تخفي عن زوجها حقيقة نوم ابنتها الدائم في غرفتها، خوفاً من  ردّة  فعل غاضبه عليها وعلى ابنته إذا عرف ذلك؛ كما كانت تحاول جاهدة إيجاد أعذارٍ لاختفاء ابنتها المتواصل عن الأب، كأن تدّعي أنها متعبةٌ من العمل، أو من مساعدتها لها في تنظيف المنزل، أو أوجاع دورة شهريّة، أو… أو… ما تيسّر من لقف لسانها بما أسعفها به، محاولة لملمة صرة الموضوع وحماية ابنتها.

ومعَ بداية كلّ يوم سادس من أيّام الأسبوع يكون جلب زينب “للطشت” سيدَ الموقف ومهدئَ الحال لساعات خفيفة قبل أنْ تعوم عائمة موضوع الطشت وقصّ أظافره مرّة أخرى لتخترق ثنايا أطرافها تلك الغرفة بعد ذلك. 

وفي أحد أيّام الجمعة الّتي عادت بها زينب هاربة الى هذا الملجأ مؤصدةً بابه، وكأنّ جيش أُحُدٍ خلفها، أخذت تدور في أحضان الغرفة تجوب زواياها، تفتح مصاريع خزانتها المهترئة، باحثة عن شيء ما يشبع جوع سخطها…  كانت تشمشم كلّ غرض فيها متمحّصة فاحصة، مفرغة غضبها بتقليب كلّ غرض فيها، فجأة وقعت يداها على كتاب كان موجودًا خلف الاغراض والأوعية، ملفوفًا في بطانيّة سوداءَ، بالي الغلاف أصفر الأوراق، يكاد عنوانه لا يرى، فتحت زينب الكتاب بحذر خوفَ تمزّق أوراقه بعد أن حاولت قراءة ما كُتِب عليه، لكنّها لم تستطع تهجئة كلماتِه إلّا كلمة “الأسود”.

– سسس سين سحححر، سحرٌ اسود.

– لف/ي حوله سبعة لفات واقرع داخله في قدم معزة سوداء سبعَ مرّات.

– اتفل/ي تسع مرّات.

– اجلب/ي دمية وألصق صورة الشخص عليها وقم بوخزها في إبرة ملطّخة بدماء  

 بشريّة لم تعقم، ثم ارمها في الماء.

تعالت ضربات قلب زينب وشهقت حين أدركت أنّها تغلق في أصابعها وتطبع ببصماتها على كتاب تعليمات السحر والشعوذة، رمته مذعورة تتمتم بكلماته، لا تصدق ما وجدت!

أخذت تجوب وتجوب في أرجاء الغرفة، مصعوقة مولولة الهمسات، شاردة تارة ومفكّرة تارة أخرى فيما قد يحصل إذا ما استخدمت هذه التعليماتِ على شيء ما… وتسوّل لها نفسها أنْ تجرّب، فلعلّ هذا يكون حلا للخلاص من معاناة حياتها… أخذت تحيك في خيالها ثوب حياة جديد لها ولوالدتها المبتلّة اذ ما تخلّصتا منه ، ولكن سرعان ما تقول “استغفر الله العظيم، هاظ الخراف حرام”.

 

صراع يحارب في أروقة دماغها، صدورٌ وورودٌ لخيالاتٍ لا تنفض عن رؤيتها حين تفكّر في الخلاص والانتقام بمساعدة سحر أسود قد لا يكلّفها الكثير من التنفيذ.

التقفت الكتاب آخذة في القراءة فيه بنهم، تحرّك عينيها يمنة ويسرة فيه، خاطفةً حروف كلماته خطفًا، مرددةً ألفاظه علّها تحفظه حفظًا خوف أن ينفلت من ذاكرتها ما تقرأ، وأخذت تفتش في نهاية الكتاب عن توصيات لفكّ السحر أو حماية الساحر من السحر!

 اخذت تفكّر ” من أين سأجلب قدم معزة سوداء؟”، خرجت مسرعة من المكان راكضة نحو ملقى نفايات القرية، حيث يقذفون هناك جيفًا وذبائح، عصرت أنفها بين السبابة والابهام، ودخلت تفتش في جيف المعز فوجدت رِجل معزة سوداء.

عادت الى المنزل متسلّلة إلى تلك الغرفة مخفية ما جلبت في ملابسها:
– والان، ماذا سأفعل، ماذا سأستعمل ؟ ما انسب غرض يا ترى؟

-الطشت الطشت… همهمت، “أنسب اشي الطشت، اللي مقلعطني في”

خرجت جالبة الطشت المعلق في فناء المنزل، ربعته في قلب الغرفة وافترشت الارض، بدأت تتمتم ما حفظته من عبارات الكتاب… لمعت عيناها وضربت بقدم المعز سبع مرات، رفعت هامتها الهزيلة ودارت حول الطشت كطواف الحجيج، تفلت أكثر من سبع مرّات، تمتمت… سخطت… شتمت وخارت قواها فوق الطشت، منهارة في نوم عميق.

ثمّ استيقظت فزعة تونْوِن:

بقيت مرحلة أخيرة، لم اجلب الصورة، لم أجلب الدمية… عليّ الّا انسى، وإلّا سيذهب كل ما فعلته هباءً منثورًا.

 

 

قفزت جالبة صورة قديمة لوالدها من دولابهم القابع في تلك الغرفة، صورة متفتتة الاطراف مكفهرة الألوان… أحضرت قماش وسادة وسخًا وقد لفلفته على هيئة دمية محشوّة، وأحضرت إبرة خياطة والدتها لتخيطها، وحين انتهت تذكّرت الدماء

البشريّة كشرط على الدمية، أخذت توخز بأصابعها الخمس؛ في رأس كلّ إصبع وخزة عميقة حتّى انسكب الدم منها فائضًا على الدمية المخيطة، وألصقت الصورة بدمائها ومن ثَم عادت لتخنق الدمية بيسارها وتبعّط بالإبرة إحدى عشرة بعطة متوالية متدانية، ثم قذفت الدمية إلى داخل الطشت.

أخذت تحدّق في داخل الطشت، في قعره تنداح دوّامة صغيرة آخذة في الاتساع رويدًا رويدًا واذابالدوامة ترطم في جوانب الطشت تملؤه ماءً مضمحلّا، قد امتلأ بقصاصات اظافر نتنة متعفنة، ريحها لا يطاق، لونها كالبُصاق، أصوات جعير ونهيق وشتائم تتعالى من جوف الطشت، بكاء وصرخات طفلة، شهيق امرأة وولولاتٍ كثيرة.

لا تحتمل زينب الاصوات، تطبق بكفّيها على أذنيها، تشدّ وتشدّ علّ الصوت ينخفض، ولكنّها تكاد تنفجر ممّا تسمع، تخبط نفسها في الارض عاجزة عن الصريخ او الكلام، تتلّوى في مكانها كزاحفة قُطعت وبقي ذيلها يتلّوى في المكان، أخذ الدوار يصفق بها من كلّ جانب كأمواج البحر المتراطمة التي اتّخذت الصخرة مستهدفا لها، فانهارت بين ثنايا الغرفة خائرة القوى.

وبعد ثلاثة أيّام كان والد زينب يجلس في مكانه الممتلئ بالباعوض والناموس، يمد قدمَيْة منتظرًا حلول بدر الطشت…  يمدّ قدميه الممتلئة بمسامير اللّحم، يغطسها في الطشت فيلحظ شيئا غريبًا على أظافر قدمية، فيراها تستطيل وتستطيل!

 

نعم تستطيل، ينظر إليها، لا يصدّق!ً هل ما يراه صحيحا أم أضغاث بصر! يمعن النظر اكثر فأكثر، فيراها تطول وتطول وتعكف وتتسمّر، لتخرج عن السيطرة وهي تستمر في النمو المتواصل.

طالت وطالت فغدت معقوفة متحجرة كقرون الأيل السمر، جحظت عينا الاب، صعق مشدوهًا، وتفاقمت ضربات قلبه واضطربت حرارته، وتصبب العرق كزخّ المطر، التوت شفتاه وانحنى جسده وتسمّر في مكانه.

صاح مرتجفًا:

زينب زينب ولتش زينب ولتش زينب.

زينب لا تردّ…

زينب في الغرفة، فاقدة للسمع، فاقدة للنطق، خرس لسانها وغارت عيناها، تتربّع على صقيع الأرض النتنة، تتساقط خصلات شعرها الخفيف مكوّنة أعشاش دوريّ رثّة، تحملق في داخل الطشت ترى فيه والدها، ترى أظفاره الجامحة كالمخالب الطويلة الجارحة، ثمّ أخذت تضرب جوانب الطشت وهي تتمتم بصوت كحفيف شجر جافّ لا يكاد الملاء يدركه. لا شيء ينبس ببنت تغيير، ومحاولات زينب تبوء بالفشل والدها سجين اظافره لا يبرح من مكانه، وزينب لصيقة الطشت حبيسة الغرفة والام لا أثر لها في المكان.

ضاقت زينب ذرعًا، عجزت وانتفضت، قلبت الطشت رأسًا على عقب بكلّ قواها، وسكب كلّ ما في الطشت على أرض الغرفة جامعًا الذباب عليه، وملتصقا به مشكلًّا إكليل خرزات مزرقة متلألئة، ورائحة الجيف تحلّق في المكان.

رفعت زينب هامتها، وهرعت إلى مربض والدها تصيح ذعرًا:

يابا يابا الطشت الطشت.

 

تعالى صوت والدها:

زينب مالتش يبنتي مالو الطشت؟

بسم الله بسم الله شو في هاظ كابوس حبيبتي، إصحي إصحي لي نايمه عهالارظ!

سمي بالله وتعوذي من الشيطان ابصر شو كايني تحلمي بهالطشت؟.

كتبت ضمن ورشة كتابة القصة – مع  د. منى ظاهر

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*