حكاية شعب وقصّة وفاء_ قراءة في كتاب “لمّا إمّي تحكيلي”للكاتب سمير أبو الهيجاء – مصطفى عبد الفتاح

احترت في تصنيف كتاب سمير أبو الهيجاء “لمّا إمّي تحكيلي”، أهو كتاب مذكّرات أُمّ ينقلها سمير بطابع أدبي، أم نص أدبي بطابع صحفي نقله حرفيًّا عن أمّه ليفيها حقّها وليقدّمها إلى القارئ كبطلة مُضحية، مُتفانية في تربية أبنائها، قامت بدور الأم والمربّية والعاملة الجادّة والمضحّية في تربية الأبناء بكلّ تفاني وإخلاص، وهو يعيد إليها جزء بسيط من الجميل الّذي يكنَّه الإبن لأمّه؟  ام هو تاريخ شفويّ لحقبة زمنيّة غاية في التّعقيد من حياة شعبنا الفلسطيني، الّذي خرج من نكبته الكبرى مشتّت الشّخصية والهويّة؟

هل يُحاول سمير المهجَّر من قرية “عين حوض” الجميلة ألّتي بقيت على حالها دون أن تُهدم، ولكنَّها تُثير الحسرة والألم في نفس الكاتب، وهو يراها أمام عينيه، وعلى مرمى حجر دون أن يستطيع العيش فيها، كما تعيش هي فيه، إعادة تركيب الهوية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لشعبنا من جديد؟

الجميل في هذا النّص الأدبي الّذي اختاره سمير، أنَّه باللغة العاميّة أو الفلسطينية المحكيّة، وقد استطاع أن ينقل إلينا بكلّ أمانة وصدق، لواعج قلبه وقلب أمه، وأن يرسم لنا صورة المجتمع الفلسطيني بكلّ تفاصيله الدّقيقة في تلك الحقبة السّوداء من التّاريخ الفلسطيني.  وبذلك يكون سمير قد كتب التّاريخ المحكي للمجتمع الفلسطيني بلغته العامية ولهجته الفلسطينية، دون ان يعير اللغة الفصحى اهتمامًا كبيرًا، والحفاظ على المبنى والمعنى الذي أراده لنصّه الأدبي، مما يثير إهتمام القارئ والدّارس، وعشّاق اللّغة الفصحى في أهمية استعمال اللغة العاميّة المحكيّة الفلسطينية، والأمر بحاجة إلى التّوقف والتّفكير والنّقاش المستفيض في التّباين بين العاميّة والفصحى، واهمية العامية في إيصال الرّسالة الأدبية، بحيث تكون قريبة من الواقع، وقريبة من طبيعة الحياة التي عاشها ويعيشها الفلسطيني.

حبذا لو قام سمير بالتّوفيق بينهما بأن يكتب كلمات الأم بلغة الام العامية، ويتدخل الكاتب بالشرح والتّفصيل باللغة الفصحى لتبقى هي الغالبة، ولكنّه اختار أصدق البيان بلغة اللّسان اللغة المحكيّة. لا شك أن هذا الأسلوب من الكتابة بالعامية، يجعل القصص والأفكار أكثر قربًا من القرّاء خصوصًا الصّغار والأمهات، حيث يعكس عمق اللغة اليوميّة ألّتي يتواصلون بها، لا شك أنّ استخدام العاميّة يجعل النّصوص والنّصائح أكثر وضوحًا وسهولة في الفهم مما يعزز تأثيرها الإيجابي على القراء.

سمير أبو الهيجاء شخصيّة صحفية وأدبية معروفة في مجال كتابة التاريخ الشفويّ الفلسطيني، كتابه يركز على التجارب الشخصيّة والسيرة الذاتية لوالدته وللعائلة والمرتبطة ضمنًا بتاريخ الشعب الفلسطيني وخاصّة القصص التي تُروى عبر الأجيال في العائلات الفلسطينية، وبذلك يكون قد دخل تلقائيًا، في كتابة التّاريخ الشّفوي واصفًا الحياة اليومية والعلاقات الاسريّة والاجتماعيّة للشّعب الفلسطيني من خلال السّرد التّلقائي ليوميّات أمه.

والتّاريخ الشفوي هو أسلوب بحث تاريخي يعتمد على جمع المعلومات والبيانات من خلال المقابلات الشخصيّة مع الافراد الذين شهدوا او شاركوا في احداث معينة، وهو يركز على الرّوايات الشخصيّة والشّهادات الشّفوية لنقل التّجارب والاحداث من منظور الافراد العاديين. والتّاريخ الشفوي يشمل مجموعة متنوّعة من الموضوعات مثل الأحداث التّاريخية الكبرى، الحياة اليوميّة، التّقاليد الثّقافية، والتحوّلات الاجتماعيّة، والتّاريخ الشّفوي يُعتبر أداة قيّمة لملء الفجوات في السّجلات التّاريخية المكتوبة ويقدم منظورًا أكثر تنوعًا وشمولًا عن الماضي، رغم أنَّه أكثر عرضة للتّحيّز الشّخصي والذّاكرة الإنتقائيّة، وهو يركز على التّفاصيل الدّقيقة والتّجارب اليوميّة للأفراد، مما يساعد في تقديم منظور مُختلف ومكمّل للتّاريخ المكتوب. وهو في النهاية يهدف إلى حفظ ونقل القصص الشّخصيّة والتّجارب الحيّة ألّتي قد لا تكون موثّقة في السجلات المكتوبة. وكتابه هذا يعكس أهمّية التّاريخ الشفوي في الحفاظ على التراث والهويّة الثّقافية، ويوفر نافذة على الحياة اليومية والاحداث التّاريخية الّتي مر بها الفلسطينيون من خلال منظور الافراد والعائلات.

لقد كان دافعي الأول للكتابة والتّطرق الى الكتاب هو ما اثاره في نفسي من شجون عندما عدت بالذّاكرة الى تلك الحقبة من سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي حين زرت لأول مرة في حياتي، قرية عين حوض المهجرة من أهلها، والباقية في بنائها الأصلي دون تغيير يذكر، بجمال ورونق وروعة القرية الفلسطينية وتناسق مبانيها والخاصّة والعامّة، وسحر التّعرف على طرقاتها التي خلت من ساكنيها. وزرت بيت أبو حلمي جدّ الكاتب في قريته المُستحدثة والّتي تقع على مرمي حجر من القرية الأُم عين- حوض والّتي هُجِّرت منها عائلة أبو الهيجاء وتنتظر العودة اليها، وتعرّفت على طبيعة حياتهم دون أن أعرف أنَّه سيأتي يوم وأكتب عن تلك الزّيارة الغريبة من أيام الطفولة، ويذكرها سمير بجملة واحدة في كتابه، فأعادت لي كل الذّكريات “في السبعينيات من القرن الماضي أجت عيلة من عربى البطوف، شاركو عمي على قطيع الغنم والمعزة، فكان عليهن يقوموا بكل الشغل المتعلق بالمعزا من تنظيف وحلب وخلافه..” ص: 72، ففتحت ذاكرتي على مصراعيها، وأعيش تفاصيل ما كتبه سمير في كتابه.

بعد ان حمَّلتني أمي بعض الحاجيّات التي أرادت أن ترسلها لجدّي عبد اللطيف، وهمست في أذني ما يجب أن أقوله لجدّي دون أن يسمعه أحد، وأوصتني أن انتبه للطّريق وللأغراض التي أحملها أثناء السّفر، وبعد توجيهات والدي الدّقيقة عن كيفيّة الوصول والتّنقل من حافلة عمومية (باص) إلى أخرى، أين أترجّل وأين أصعد وماذا أقول لسّائق الحافلة حتى أنزل في المحطّة الأخيرة، وكم عليَّ أن أمشي سيرًا على الاقدام حتى الوصول، حفظت التّوجيهات عن ظهر قلب، ولا زلت أذكر مستوطنة نير عتسيون الّتي سانزل بقربها ثم التّوجه إلى القرية، ربما كانت المرّة الأولى التي أخرج فيها من القرية لوحدي، ولذلك ترسّخت الطّريق والرّحلة في ذهني حتى اليوم، وقد أثار سمير أبو الهيجاء ذكرياتها فأخرجتها من درج الذّاكرة، لم أرَ قريةً هناك، بل مضارب تٌشبه مضارب البَدو الرّحل، بضع بيوت من الزّنك والحديد وبعضُها بيوت شَعر عاديّة، وربّما بيت واحد أو اثنين من الباطون أو الحجر، وما خلا ذلك ساحة واسعة داخل الاحراش، وزريبة محاطة بالسّياج مليئة بالحيوانات من الماعز والأغنام والدّجاج وغيرها من الحيوانات الأليفة، كالحمير والكلاب وغيرها كثير، كانت مثيرة بالنسبة لي، ولكنها مألوفة أيضًا، ولكن كثرتها شدّت إنتباهي، كانت سعادتي لا توصف عندما خرجت مع خالي لرعي القطيع الكبير من الماعز والأغنام والعودة في المساء، ورؤية الجداء تتراكض لترضع من أثداء أمّهاتها، والأصوات المختلفة الّتي تُصدرها الحيوانات في كل ناحية تمتزج الأصوات وتختلط النّغمات فينطبع في الذّاكرة منظر مثير جدًا . لم أفهم يومها طبيعة العلاقات الأسرية، ولا طبيعة الحياة هناك، ولم أع لماذا يقطن هؤلاء القوم في تلك المنطقة الموحشة بالقرب من قرية من أجمل القرى التي رايتها في حياتي، والخالية من السكان، قرية عين حوض، وقريبة من مستوطنات يهوديّة، وقد شكّل المكان صورة مُصغّرة عن حياة البيت الفلسطيني، في مركزه الأب والمؤسس، ومن حوله يسكن الأبناء والاحفاد، وهو المسؤول الأول والأخير اقتصاديًا واجتماعيًا عن سير حياةالاسرة، وحتى عن حمايتها، وقد قام هذا الرّجل، محمد محمود أبو الهيجاء (ابوحلمي) ببناء بيته بالقرب من قريته واستطاع أن يثبّت وجوده في المكان حتى تشكيل قرية جديدة تحمل اسمه وتعيش فيها عائلته بانتظار عودتهم إلى قريتهم الام، عين حوض، إنّه الفلسطيني الأصيل المتشبث بارضه ووطنه.

واثناء النبش في الذّاكرة، وبعد مراجعة الكتاب، وقد استغربت العلاقة التي جمعت بين جدّي عبد اللطيف الأحمد من عائلة كناعنة العريقة من قرية عرّابة في الجليل مع عائلة أبو حلمي “جد سمير” من عائلة ابي الهيجاء العريقة في أعالي جبال الكرمل، لأتذكر قصص وأحاديث وذكريات جدي عبد اللطيف الكثيرة والمثيرة عن سنوات الثّورة والانتداب الإنجليزي في فلسطين، وعمله في سلك الشرطة الإنجليزية مع أحد أعمامي، محمد عبد الفتاح وقد سكن الاثنان في قرية عين غزال، وهناك ولدت لعمي هناك ابنة وحيدة، توفيت والدتها اثناء الولادة، وتربّت فيما بعد في حضن جدّتي لابي، بعد أن استشهد والدها أيضًا محمد عبد الفتاح عام 48 في معركة “الصنيبعة” التي استشهد فيها أيضًا الشّاعر المناضل نوح إبراهيم، عندما ثاروا من أجل الحرية والاستقلال، وهي قصص بحاجة لتوثيق” . وكما عرفت أنّهم “أي عمي وجدي لامي وعائلة أخرى من سخنين في تلك الفترة قد سكنوا في عين غزال”، ومن هناك كانت المعرفة والصّداقة بين أبي حلمي مع جدي، واستمرّت الصّلة والعلاقة بعد النّكبة وحتى الاتفاق بينهم على المساعدة اوالمشاركة في تربية الماعز والاغنام في قرية عين حوض.

ونفس هذه العلاقة من فترة الانتداب هي التي جمعت بين عمي وجدي وتعارف العائلتين، حيث نتج عنها المصاهرة بين العائلتين، عبد الفتاح وكناعنه، حيث تزوج والدي محمود عبد الفتاح من أمي فاطمة في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وكانت أمي يتيمة الامـ، صغيرة السن في الرابعة عشر من عمرها حين اقترنت بوالدي. وهي قصّة تستحق أن تروى للأجيال لما فيها من دروس وصور حياتية عاشها شعبنا الفلسطيني في مرحلة إعادة بناء ما دمّرته النّكبة.

تعود معرفتي لسمير ابي الهيجاء من خلال لقاء ثقافي تربوي أقامه الاتحاد العام للكتّاب الفلسطينيين الكرمل 48 ضمن سلسلة لقاءات مدرسية في جميع انحاء البلاد وكان لقائي معه في مدرسة الفريديس الإعدادية، ولفتني إسم عائلته “أبو الهيجاء” وهو جزء من اسم قريتي التي تقطنها هذه العائلة الكريمة منذ مئات السنين. ويقترن اسم كوكب باسم القائد الثائر، محمد حسام الدين البخاري الملقب بابي الهيجاء، وهو أحد القادة العسكريين المشهورين لدى صلاح الدّين الايوبيّ، وقد عمل معه على تحرير عكا والمنطقة من يد الصّليبيين حوالي عام 1175 م، وقد أثني صلاح الدين على مجهوده الحربي، ونضاله العنيد في الحروب التي خاضها، فاقتطعه عدة قرى ليدير شؤونها ورعايتها وبقيت تحمل اسمه واسم العائلة مثل: سرين والرويس وكوكب وعين حوض وغيرها من القرى التي بقيت جذورها الفلسطينية تمتد إلى يومنا هذا، ويُقال أنّه قُتل واستشهد ودُفن في كوكب، ومقامه ما زال شاهدًا. وفي اللّقاء كانت عين حوض مثار اهتمامي، وايقاظ مشاعري تجاه قرية حافظت على مبناها الأصيل، وتذكرت رواية “بينما ينام العالم” للروائية الفلسطينية سوزان أبو الهوى، وتذكرت انني قرأت الرّواية عندما رأيت اسم عائلة “أبو الهيجاء” في السّطر الأول وان أحداث الرّواية كانت أو انطلقت من قرية عين حوض، ليتحدّث عن النّكبة والتّهجير والمعاناة الفلسطينية، وحنين العودة، وما لقيه أبناء العائلة من عذاب وحزن وحنين وتشريد، فتشدك الرّواية من السّطر الأول حتى الأخير.

وعودة إلى قصة سمير أبو الهيجاء، “لما امي تحكيلي” التي كتبها سمير بذكاء وحنكة شديدة، تثير الكثير من الأسئلة والتساؤلات فهي أولا وقبل كل شيء، يمكن اعتبارها وثيقة تاريخيّة تسجّل وبصدق اللغة المحكيّة، وتعابيرها الصّادقة للحياة اليومية لشعب منكوب في وطنه، وهي قصّة المرأة الفلسطينيّة الّتي لا تقول “آخ” بل تتحمّل كلّ الصّعاب والألم وتمضي لتبني حياة أفضل، وهي تقاوم الظلم والاضطهاد المضاعف من الأهل ومن الرّجل كما تقاوم الظّلم واضطهاد السّلطة. وهي أيضًا وبلا شك تاريخ محكي وقد أثارت في نفسي الكثير من الاحداث الّتي أعرفها مما يثبت أنّ التاريخ الاجتماعي والسّياسي والنّسيج الوطني للشّعب في كل مكان هو نسيج متجانس وصورة رائعة لشخصية وحياة شعب مظلوم، وهو تاريخ لا يقلّ أهميّة عن التّاريخ المكتوب. وفي النّهاية هي قصَّة وفاء وتقدير، قصّة محبة وعطاء إنساني بين إبن وأمّه، فهذا التّاريخ لأمٍّ بسيطة حملت روحها وحياتها على كفها وخرجت لتحارب الحياة القاسية من أجل تربية أطفالها وللحصول على لقمة العيش، وإبن أراد أن يوثّق تاريخها لكي يخلّدها ويحفظ إرثها في دفاتره كما في قلبه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*