تتناغم الكلمات وتتراقص التعابير حين تصاغ الأفكار والخواطر في أذهاننا لتنسج سبيلا ورديّا لحياتنا المرتقبة وسط زحمة الحياة وتعاقب الأيام، نفكّر في مستقبلنا حيث يتربّع النجاح ويتلألأ الإنجاز علّنا نرضي ذلك الصوت المنبثق من داخلنا ليحيينا في كلّ مرّة اقتربنا فيها من الوقوع والهزيمة، قد نجد أنفسنا في رحلة مستمرة للبحث عن الذات المكنونة فينا …. تلك الرحلة ليست بسيطة ولا مباشرة، بل هي مليئة بالمنعطفات، الدروب المتعرجة، والمفاجآت التي تجعلنا نتساءل عن حقيقتنا وعن غايتنا في هذا العالم.
كنّا قد بدأنا تلك الرحلة منذ طفولتنا، حيث تشكلت ملامحنا وتكوّنت أفكارنا ومبادئنا منذ تلك اللحظة التي خضنا فيها تلك التجارب الأولى، أحلامنا الصغيرة، وملاحظاتنا البريئة للعالم من حولنا خطّت في سجل ذكرياتنا لتكون لنا عهدا قد حفظناه في ألبابنا التي كبرت مع مرور الزمن. كلنا نعي أننا نتغير ونتحول، تمامًا كما تتغير الفصول، ففي كل مرحلة نكتشف شيئًا جديدًا عن أنفسنا نبحث فيها عن ذاتنا التي ما نلبث أن نضيعها حتّى نلملمها مرّة أخرى ونتشبّث بها، نلمسها في لحظات الفرح والنجاح، ونعرفها أكثر في أوقات الألم والخيبات….
بحثنا عن ذاتنا وتمسّكنا فيها لا يقتصر على فهم ما نريده من هذه الحياة أو على تعريف من نكون فقط، بل هي عملية مستمرة لتطوير أنفسنا، للتصالح مع ضعفنا وقوتنا، وللتكيف مع التغيرات التي تفرضها علينا تلك الحياة الصاخبة.
مع مرور الأيام نحتاج للوقوف أمام تلك المرآة القديمة التي شهدت علينا كلّ تلك السنين الطويلة بحلوها ومرّها … في بعض الأحيان لا لنرى فقط وجوهنا، بل نقف متأملين في عمق تلك العيون التي تحمل قصصًا لا تحصى، وجروحًا قد لا تكون مرئية أو محسوسة. نتساءل أمام تلك الصورة الغريبة التي ما عادت تشبهنا، من نحن حقًا؟ هل نحن مجموع تلك التجارب التي مررنا بها؟ أم أننا أكثر من ذلك بكثير.. نتساءل ونحن محدّقين بمرآتنا ما الذي حصل وجرى في تلك الصورة القديمة، لقد تغيّرت وتبدلت فعلا …. نستمر بالتحديق لنبحث عن معنى أعمق يتجاوز التفاصيل اليومية.
لعلّ تلك المرآة هي الشاهد علينا ولكننا لا نبحث عن ذاتنا فيها فقط بل يأتي البحث عن الذات أحيانًا مع لحظات من التأمل، حين نصمت ونترك ضجيج العالم وراءنا، فنستمع إلى همسات أرواحنا، وأحيانًا تأتي الإجابات على شكل مواقف صغيرة، كابتسامة غير متوقعة من شخص غريب، أو لحظة سكينة نشعر بها ونحن نراقب غروب الشمس حينها نكتشف خبايا قد سكنت في نفوسنا ، وربما يكون البحث عن الذات هو إدراك أن هذه الرحلة لا تنتهي أبدًا فنحن نكبر ونتعلم ونتغير، وفي كل مرحلة نعيد اكتشاف من نكون قد نجد في النهاية أن الجواب ليس نقطة وصول بل ما نحن فيه هو محطّة من محطات الرحلة ذاتها نحو التعلم واكتشاف المزيد ….
بين كلّ تلك الفوضى من حولنا نتابع المسير ليس من أجل رحلة لاستكشاف ذلك الضوء الخفي الذي يرشدنا إلى ما بداخلنا عبر مرورنا بتحديات الحياة ومصاعبها، بل لنتذكر بأننا أكثر من مجرد أفراد نعيش في هذا العالم بل نحن أرواح تبحث عن معنى لتلك الحياة التي باتت غامضة غير مفهومة، ندرك فيها أن هذا البحث ليس فقط عملية فردية، بل هو أيضًا رحلة تتقاطع فيها أرواحنا مع الآخرين.
انّ علاقاتنا مع الناس باختلافهم سواء كانوا أصدقاء، أفراد عائلة، أو حتى زملاء عمل هي مرايا تعكس جوانب من شخصياتنا لم نكن ندركها أبدا ففي تعاملاتنا مع الآخرين، قد نكتشف نقاط ضعف أو قوة كنا نجهلها، وقد نكتسب رؤى جديدة حول من نكون من خلال التأمل في ردود أفعالنا، مشاعرنا، واحتياجاتنا في تلك العلاقات فما تجنيه مواقفنا في تلك الحياة المزدحمة تجعلنا في عنان السماء نحلّق أحيانا، وفي قاع البئر نصرخ متألمين في أحيان أخرى …..
في ذلك المركب نستمرّ بالمسير، نقع في بعض الأحيان في دوامات من الشك والتساؤل: هل نحن في الطريق الصحيح؟ هل نتصرف بما يتناسب مع قناعاتنا؟ هل نحن صادقون مع أنفسنا ومع من حولنا؟ تلك الأسئلة رغم صعوبتها، تشكل جزءًا جوهريًا من عملية النضج والتطور الشخصي لدينا. قد تأتي لحظات نشعر فيها أننا ضائعون أو مشتتون، غير قادرين على تحديد ما نريده بالضبط في هذه اللحظات، قد يكون البحث عن ذاتنا مرهقًا، لكنه ضروري تمامًا كاحتياج البحّار إلى البوصلة ليرشد في طريقه عبر البحر الواسع، نحتاج إلى لحظات من التأمل الذاتي والتفكّر في أعماقنا لإعادة توجيه مسارنا، فتلك اللحظات تمنحنا الفرصة لإعادة النظر في اختياراتنا، علاقاتنا، وحتى أهدافنا في الحياة.
إنّ هذه الرحلة ليست مرتبطة بالعمر أو المراحل الزمنية، بل يمكن أن تبدأ في أي وقت، فهناك من يبدأ في استكشاف ذاته بعد أحداث كبرى تغير مجرى حياته، وهناك من يكتشف جوانب جديدة في شخصيته بعد سنوات من الحياة الروتينية لكنّ الأهم هو أن نكون منفتحين على التغيير، وأن نمتلك الشجاعة لمواجهة ما قد نجده في داخلنا، سواء كان جميلاً أو غير ذلك.
هويتنا في تطور وتغيّر مستمرّ ، تمامًا كتغيّر النهر وفق تيار الماء فيه ، في كلّ مرّة يمضي بنا موقف أو حدث نجد أنفسنا قد اكتسبنا مزيدا من المعرفة ونضجنا كما تنضج الثمرة مع كل لحظة عشناها، لنصل في نهاية المطاف بأنّ الأمر لا يتعلق بالوصول إلى “ذات” مثالية ، بل بالاعتراف بأننا في حالة دائمة من التحول، وأن الجمال الحقيقي يكمن في هذه الرحلة نفسها التي نحتضن فيها التغيير لنتقبل كل ما مررنا به في رحلتنا نحو السلام الداخليّ والتصالح مع كل ما نحن فيه، ومع كل ما سنصبح عليه فالتقبّل يعني أيضًا أن نسمح لأنفسنا بالتحرر من ضغوط التوقعات، سواء كانت من المجتمع، العائلة، أو حتى من أنفسنا. فنحن جزء من كون أكبر ومهما كانت النتائج التي نصل إليها، فإن جمال هذه الرحلة يكمن في عدم وجود نقطة نهاية ثابتة فذاتنا تتغير باستمرار، وكل مرحلة من حياتنا تحمل فرصًا جديدة لفهم أنفسنا بطرق مختلفة تروي قصة نكتب فصولها مع كل تجربة نمر بها ومع كل خطوة نخطوها في هذه الحياة لنرسم لوحة التفرد والأمل ….