54 عاما وعبد الناصر عصيّ على النّسيان – زياد شليوط

نصف قرن وأربعة أعوام، تمر على رحيل قائد الأمة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، الرئيس والزعيم جمال عبد الناصر، ذاك الرحيل الجسدي المحتوم والمقدّر. 54 عاما مرت على ذاك اليوم الحزين الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1970، فيه توقف قلب الإنسان الكبير، والد الجميع، ومعه توقفت الحياة في جميع الأقطار العربية، وفي كل بلدة وحارة وبيت عربي، حيث ساد الوجوم وخيّم الحزن الثقيل، وسالت الدموع في الشوارع العربية تبكي وتندب الزعيم، بل تبكي حالها وتندب مستقبلها.

هناك من يعتبر أن عبد الناصر عاش ما بين العامين 1918 و1970، صحيح أن تلك السنوات هي التي عاشها على الأرض. لكن عبد الناصر الفكر، النهج، المبادئ، المواقف، ما زال حيّا ينبض ” في فرح الشعب وحزن الشعب، في الأمثال وفي الكلمات”.  عبد الناصر رحل جسدا وبقي روحا وفكرا خالدا، لم يتركنا وإن نحن تركناه، لم يتخلّ عنا وإن نحن تخلينا عنه، “قَبِلَ المجيءَ إلينا رغم أنه كانَ كثيرًا علينا”. رفضناه، تركناه يصارع ويحارب لوحده، أدَرنَا ظهرنا له، رميناهُ في نار عمان وجنوب لبنان، وحمّلناهُ مشاكلنا وخلافاتنا وألقينا عليه كلّ قصوراتنا وعيوبِنا، “قتلناهُ بكلتا يدينا وقُلنا المنيّة”. ورغم كل ما فعلناه به، لم يتركنا ولم يغدر بنا، وبقي معنا وإلى جانبنا “في صلواتِ مصلّينا وفي أصواتِ مغنّينا”.

ربما سافر وربما نام، من حق القائد أن يرتاح قليلا من الحروب والهموم وثقل الأحمال. جمال لم يمت، وهل للهرم الرابع أن يموت؟ كيف له أن يموت والألسن تلهج باسمه صبح مساء، كيف يموت وذكره يقض مضاجع خصومه وأعدائه كل ليلة ونهار؟ كيف يموت، وحبّه في قلوب وضمائر الملايين من أرجاء المعمورة، ومختلف الشعوب والأقوام؟ “السّيدُ نامَ ودخلَ الغرفةَ كي يرتاحَ وسيصحو حينَ تطلُّ الشمس”. الوالد سافر ولم يسافر “المعلّمُ دخلَ غرفَتهُ” كي يعيدَ التفكيرَ بفلسفة الثورة والميثاق.

يقولون بأن عبد الناصر مات. حسنا فاذا مات، لماذا لا يتوقفون عن مهاجمته؟ ولماذا يستمرون بتزييف تاريخه ونشر الأكاذيب عنه؟ إذا غاب عبد الناصر حقا، لماذا يستحضرونه ويحيون ذكراه على مدار العام، من خلال الافتراء عليه واختلاق القصص والروايات الخيالية والوهمية؟!

من المفارقات أن أعداء عبد الناصر يذكرونه أكثر من مريديه. حتى أنهم أنشأوا صفحات “فيسبوكية” لمهاجمته وتشويه تاريخه والتشنيع عليه شخصيا. هذا بعدما سبق لهم وأن نشروا مئات المقالات وعشرات الكتب لذات الهدف وفشلوا. فهل سينجحون بأساليبهم الجديدة؟ إنهم بكراهيتهم لعبد الناصر، يخلّدون هذا الزعيم ويجعلون سيرته حيّة بين الناس. فلو أن عبد الناصر مات فعلا، لما ذكره أحد بعد أكثر من نصف قرن على وفاته!

وإذا كانت وكالة المخابرات المركزية قد فشلت في مسعاها بتشويه سمعة عبد الناصر، فهل سينجح تلامذتها ومقلدوها في ذلك؟ لكن الفارق بينهما أن المخابرات اعترفت بفشلها، بينما أولئك الصغار يناطحون الحائط دون فائدة. لقد اعترف وصرّح مدير وكالة المخابرات الأمريكية قائلا: ” إنّ مشكلتنا الأساسية مع عبد الناصر، أنه بلا رذيلة، مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح، فلا نساء ولا خمرة ولا مخدرات ولا مال، ولا يمكن شراؤه أو رشوته أو حتى إخافته. نحن نكرهه ككلّ ولكنّنا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئا، لأنه رجل بلا رذيلة وغير قابل للفساد”.

والمخابرات السوفييتية اهتمت أيضا بشخصية عبد الناصر وفي ذات النواحي وإن كان بتوجه مختلف، حيث يشهد ضابط الأمن السوفييتي، فاديم كيربيتشينكو الذي عمل في مصر حوالي 10 سنوات على مظاهر التقشف في حياة عبد الناصر، وكتب عن ذلك يقول: “كان ناصر غير مبال تماما بالمقتنيات والرفاهية الشخصية، وأكثر من ذلك بأي نوع من الاكتناز، وعاش فقط من أجل المصالح الأيديولوجية والسياسية. هذه الصفات في ناصر تتضح جيدا من خلال منزله. عاش طوال حياته في نفس المنزل على أراضي معسكر للجيش في حي العباسية، والذي حظي به بصفته بكباشي- مقدم في الجيش المصري. في وقت لاحق، تم تحديث المنزل قليلا فقط”.

بناء عليه، نقول لجميع الحاقدين والمعادين لعبد الناصر ونهجه: هذا هو عبد الناصر فآتونا بمثله.

 

إشارة: الاقتباسات الواردة في القسم الأول من المقال مأخوذة من قصائد الشاعر نزار قباني في عبد الناصر.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*