ليست هناك مدينة بلا ضباب، فلقد أصبحتَ مزعجاً في قلبي وما هنتُ على رصيفٍ كانت به يوماً ضحكة تواسيني، فقد مررت عن ظل يدِ عابرةٍ سبيلٍ تستجدي منديلا لتمسح دمعة لربما تلتحلف بقاياه في ليلة عوجاء.
الجسر فر صامدا بريحه النسيمي يلاحق فراشة تنتظر الضوء كي تنتحر في أحضانه، أو يموت شوقها في الأسى الدامج بنظرة ما.
أيّ تنهيدة جاورت مسامعي؟ أهي رجاء طفلتي المسائية تعدو بين عينيّ ونظري؟ وأضحك على فلسفاتي العادية كدق ناقوس خطر والحرب في جرابها معلنة هدوءً يداعب رذاذاً متملقاً بات بغيمة دون بلل فقد أصبح الكلام يأويه كل ألخجل. أستصعب المسير من خطوط الضباب العالقة بفكرة جاحدة حالت دون يقين، فهل يمكن أن أتعثر خطوةً نحو هاويتها؟ ليس الخيار أن تعلقَ بين الناب والضرس إنما أن تبقى تجتر توهانك في جعبة المصل المتخثر.
هرولت بضع خطوات نحو الأسفل. لا أشك بموقعة الانحدار التي أمامي كقصيدة تبحث عن مستمع تضررت أذناه من شوق مستقبل مختوم وأي ختم بسخرية الدجى؟ فالستار لا يهبط إلا برفقة الضباب، يستتر بين حين وحين يرسم نقشا فرعونيا كمسلة عالية ترتقي إلى تاريخ أبله المعالم، أكرر ضحكاتي كوني بخلوة مع نفسي، وروحي لا تعرف اليأس، فوحدها الخسارة واحدة وأن تحترق أنت واللهيب في نيرانك سويا وأنت لا تعلم. دخان من سيجارة فقير أشعلها كي يستدفئ فما تبقى منها ألا جرعات. خذها أيّها المسكين وأجب عن لوعة المسكن ولا تلتفت حولك فالماء سيبللها إن لم تفعل. يستدرج الصوت سلما أخر بحنجرة فجرية ويخرج منه اهزوجة ورقصة قد أعياها الانتظار. الوقت غير المناسب بأن تلبس ثوبا وقد علقت به قصة وهي تسعل ولم ُتحْبك كما شاء القاص، أو لربما اختلفت معالم القص والأثر في إرشاده، عند ضياع الدليل ستعلم مدى الشمس وأهميتها ببوصلة الاتجاهات إن تهت بعدها.
لا يرغب إلا بالوقوف. أيظن أنّه سيلج لعالم الكتاب الخرف بأرقامه الجارفة نحو القمم. وأعتذر إن قلت إن اللحد بعدها سيكون اسمك عالياً وأنت لست أنت كي تبرد نفسك بكاهل متكسر. إنّ الذهاب إلى البيت لا يجدي نفعا، فالطريق ضيق ومضبب، ترى أناملك بالمد وإن لوحت بها لن يشاهدك أحد فالحل ما الحل إن يحل فكرة ذات سلام فقط أو هدوء صارخ دون رجف.
دليلي في المسير ان أتتبع خطوة ما سبقتني، تراودني الشكوك الملعونة، لربّما هو الخوف على طفلي المستقبلي الذي سيذهب ليلعب في منتزه الأزقة العام، ففي الشارع وضع حجرين تخيلهما عارضة كي تتلقف ضربات الخصم، لا يهاب متعة الركلات الجزائية فلم تبعد النقطة البيضاء عن جاهزية الصد. سيلج صوت امه أن العشاء قد حان تعال شارك اخوتك على المائدة فالخبز حافٍ والشوك منثور الساق يعرج فوق أفواه المساكين.. لا تنسَ إغلاق الشباك الوحيد الذي أتى بالمساء وشروقه صدفة.
لن يكون الإلغاء مناسبا بين أسطر الضباب، فلا بدّ من فرحٍ حتى لو كان الوحل رسمة فنان تشكيلي اشترى ألوانه من سوق العبيد والنخاسة يدير لعبة أحلامنا، لن أعجل على هنية لربما تستبق أنات الرجاء الزاحف، إذا سأقف محايدا كي تمر القافلة أو أنتظر الشاطر كي يحقق أمنتيه فيها، فليس معقولا أن نرى ذراعا تمتد للمساعدة فتبتر، وليس من المعقول أن ننقذ غريقا مات مرتين فالتجربة عنوانها قشة، فسحقا لظهر بعير قصفته من بعد ذاك. سأمر تارة وأجدف أخرى فتقشع حلكة بظلال النخوة المربوطة بمنصة المنابر الساحقة وهياكلٍ كهيئة بشر.
هتافات وأوراق أكثر على رفوف الضباب المستلقي على عتبات الخطوات وقفزات الجنادب لا تنتهي، وصوت الغراب هديل في ذاك اليوم.
من الماضي كان وأفعال ناقصة دون كمال، وعليلة لا حاضر بها ولا تسويف غير حروف الشمس بطاقتها، وليلة كي تسعف شاحن النور. فهل أسمح أن أنحني وأن التقط بطاقة العضو الذي اشترى منفضة كي يزيل الغبار عن أصوات مخشبة؟ ويلمع التراب عن باقي الظنون فلا، جدوى من علاج الغصن المتضرر بالقطع، فاليباس سيكون يوما حليفه، سيخضر ربيعه إن زال خريفه ويتجمل بمكياج الغرفة ويلبس حلة بيضاء ويسهر مع قمره إن تسنى له.
اكرر بسمتي التي ما زالت تراودني أنني أعيش وهماً ضبابياً متشبث الوصال وأخطو لخطوات محذوفة الأمل. جردت الحان المساء فهل أصحو من حلم بين ضباب الخيالات؟ فالظلال تمشي بلا أجساد، وعباءة تليها عصا تضرب وتدق الهواء فيرتفع صوت الأنين. الجاني قد اختفى عن مسرح الجريمة وأسدل الستار بعدها كي نصفق أن التحقيق جار في موقعة الحدث.
فالسين مستقبلها هافت واو العطف بنقص حنانها، سأعود لعودة الشواهد وأسال صمتها. والكلام الغابر قد بنى الأوهام غرته وجال لرغداء على أضوائها. الانقشاع يغرّد رفرفة الجوانح، فلا بدّ أن أستلقي معه جانبا وأعلن حنين الفجر، فالعنان ينتظر الغيث والحجارة ما زالت تنتظر الضباب القادم لعرس جديد ….
(عمار محاميد من ِكتاب مصرع الياسمين)