وتقدّمْ! فهذا أيلولُ المنادي قد تقدّمَ رافعًا صوته ريحًا رقّاصةً تنعفُ شاربَ صيفنا المفتول… هذا قبطانُ مراكبِ الفصول يترجّل… وفي عرضِ البحر مراكبُ السنينَ تمخرنا، وتحط على مفارق الغيمِ زورقًا من هشِّ العيدانِ مغزول… فتصبّرْ! تبحّرْ وتبصّرْ تبصرْ أذرعَه تتقاطرُ أمواجَ أجنحةٍ تظِلُّ خدودَ الحصى، وعينُ الترابِ بحرٌ بالحياةِ مأهول…!
فتقدّم تشرينُ لا تخشَ الظما وأهاليلُ أيلولَ بشائرُ مطليّةً بالغبارِ أظافرها! فما اصفرّت مساءً إلّا واخضرّت صباحًا، عيونًا بينَ ينابيعِ السماءِ تجول… تعرّفُ النجومَ على شاعرِها، وجفنُهُ قوسٌ محنيّةٌ شمعةً تصلي، وتهاليلُ مدامعها سيول…! ما أُحيلاكَ خريفَ بلادي، وأيلولُكَ جرسٌ يمرّ الآذانَ رفيفَ رسول يطأ أرضَ السلامِ صليبًا مباركًا… من شرّابات حطّةِ جبل الزيتون قد انحدر، شلّالَ دمٍ للفداءِ منذورٌ… والعودُ حاملٌ سلةَ الرمّان قطفَ كرّامٍ مهول… جعلَ من أسنامِ الجمالِ مراكبَ حبٍّ سماويٍّ، ومن أمتانِ مهورِ الأرضِ ظهورَ خيول…!
لكَ السلامُ أيلولُ فارسُ القوافي الراسياتِ في صحنِ دارِنا حروفًا كسول… وأنتَ في الفناءِ تلعّبها؛ تدورُ حولها مودّعًا وتدور… ولا تدور إلّا منقّطةً بقطرِ غيثٍ على الأكفِّ الصغيرةِ محمول…! لكنّ الدربَ، يا صاحبي، نحّاتُ ساعاتٍ، “حكيكُها” في الصدورِ هديرٌ يفرطُ سنابلَ فجرِنا المجدول… وتبقينا عيونًا تتسلّقُ السياجَ حالمةً، تغامزُ الوردَ … وطرْفُ الوردِ “بالندى مبلول”…!َ
أيلولُ الرحّالةُ عائدُ من رحلةِ الصيفِ منمّشَ الكفِّ مسمرَّ الزندِ، يداعبُ ستي الختياره حافيًا خجول… يغمزُها والخدُّ معسَّلٌ أصيلٌ بالشمسِ مغسول… تاجرٌ جوّالٌ يساومُها على عكّازِها المبريِّ العجول… وظهرُها من الكدِّ “محلول”! فهل تعرفُ يا أصيلُ أنكَ مرآتُها؟ ستّي الجوّالةُ أنتَ أيلول! أنتها الزنّارُ المشدودُ لخصرِ رداءٍ مزيّتِ الأردانِ مغبرِّ الذيول… هذا أنتها الصدى المتردّدُ نهدات حكايةٍ راخمةٍ، محبوسةٍ بخيطٍ وصنّارةٍ، وزوبعةٍ في بطنِ المساءِ تعول…!
وتنحني، تشرينُ، لأيلولَ ساعةُ الأرضِ عجوزًا تجوبُ الحقولَ قشًّا يخشخش… وأعوادًا توشوش، حتى يتثاءبَ النهارُ فتقصرَ أنفاسُهُ… ويتّسعَ صدرُ الليلِ، وأنفاسُهُ بالأُنسِ تطول… فتقدّمْ يا جليلُ، وافرشْ لكانونِكَ الديوان! فقد دعونا الجارَ للعشاءِ، ومائدتُنا طبليّةٌ مطيّبةٌ بكبشة لوز وكبشة جوز… صرّة زبيب وصرّة قطّين من فائضِ السلةِ/ المريول…
وتعبقُ بهواكَ خيمةٌ ربطنا على بابِها حلمًا بحزامِ الغيمِ مشكول… وترشحُ السماءُ ندفًا ينهلُّ من ثغرِ أُمي درَّ ابتسامٍ بالحنيّةِ مشغول… ومن عينِ أبي ولاءً راكبًا الريحَ عزمًا من الصخرِ مسلول…!
فكيفَ لا نكذّبُ قولَهم: “كلُّ ليالي العاشقينَ ذنوب”، ونحنُ قلبٌ تتعاشقُ فيه عيونُ الشهورِ… والفصول؟!
(وبعد… ماذا عساي أقول لك اليوم أيلول……؟؟ أين عساها تبني السنوناتُ في سقوفِ بيوتِنا منازلَها، والطينُ في حدائقِنا ترابٌ بالدمِ مجبول…؟؟)
2018