“الجمهور عايز كده”!
مقولة للاستهلاك…! إذا كنتُ أعرف أنّها كِذبة وأُصدّقها، فأنا فرد من شعب “إذا ضُرِبَ الحذاءُ برأسِهِ_ صرخَ الحذاءُ: لأيّ ذنبٍ أُضرَبُ؟”
عصريّة من عصريّات صيف مضى، تُنزَع مني أُذنيّ وتُلقى في الشارع المحاذي لبيتنا. أرسلتُ عيني تستطلع الأمر. بيّاع متجوّل يذرع الطريق جيئة وذهابًا، يعرض بضاعة مسحوبة من الأسواق! لا أرى شيئًا، لكنّني أسمع أشياء كثيرة! أثار الأمر فضولي فانزرعتُ مكاني لا أتزحزح. مَن تراه يكون؟ مَن الذي يبيع هذه المحرّمات الطربيّة؟ وبالمجّان؟
فتىً دون العشرين حاصل على رخصة قيادة سيارة! لكنّه يقودها باتّزان ملفت! ما أحسن هذا وأغربه!! لكنّ هذا ليس الأحسن. فأحسن ما كان هو الحقيقة؛ الجمهور مش عايز كده!
بيّاع مِذوِق وشاطر تطوف الصبح بين كركارات العبقريّ الظريف/الياس الرحباني، وما أدراك ما ستلاقيه هناك من مرح وفرح ونشاط روحيّ كنتَ على وشك أن تنساه… من هنا ستدخل بوّابة النهار، وقد بُعثت فيك ذاكرة الأصالة! هنا أسمهان وفيروز ومحمد عبدو وناظم الغزالي… هنا ستلتقي العصر بعبد المطلب وهدى سلطان ونجاح سلام وفايزة أحمد… بين ربوع سميرة توفيق وسطوح وديع الصافي… فتتساءل: كيف يكون هذا؟ ومَن عوّز الجمهور ذاك ال كده؟ ولماذا؟
هي الحرب الطاحنة بين الفكر والإحساس! ومن آليّاتها إفراغ الشباب من طاقاتهم الإيجابيّة بالنطّ والخبط والدوران في دوّامة الضجيج! خطوة ضروريّة لتفكيك العلاقة بالجذور الثقافيّة العميقة، تمهّد لتكريسهم أيتام ثقافة على أبواب لئام! هكذا تُدار الحروب الناعمة… وهذه أخطرها! غارة خاطفة تضرب الجبهة الأماميّة، تضمن التشويش على الذكاء السمعيّ. وهكذا يُقطع الإمداد عن الوعي العاطفيّ… ويتحقّق ما لا يمكن تحقيقه بالسلاح الذريّ!! أمّا التقارير المتعلّقة بهذه الجبهة، فتؤكّد أنّ خسائرنا فاقت كلّ التوقّعات!
ما أوجع الإحساس بأنّ غدنا أسير أبناء يُجنّدون مرتزقة! يتحلّقون حول موائد تعجّ بالوجبات السريعة والخُمور على أصنافها… حتى فقدوا الإحساس بالفرق بين الماء الفاتر والبارد والحارّ! وكان التحوّل الكارثيّ! وما كان هذا ليحصل، لولا تجنُّد الإقطاع الإعلاميّ بفضائيّاته ومطبوعاته، وهو سلطة جبّارة لا يمكن عصيانها! ولا تجوز مناقشتها!
ويُتّهم الجمهور الناشيء بالرعونة والابتذال والسطحيّة! بينما يسحب من التداول كلّ ما يشهد أنّ العكس هو الصحيح! فمن يغامر، يمسّ بهيبة الإعلام، ويقول: مأجور!؟ لكنّ مخطّطي مسارات الفكر الجديد يدركون أنّ شعبًا مستسلمًا مربوطًا بالأرسان، لا يُنتَظر منه أن يكون حرّ اللسان. واللسان القصير عن التعبير تهون عليه الاستدارة لتاريخه الجاري في جمهور آبائه، وهم أحياء يرزقون!
هذا الفتى يثبت أنّ جين الإحساس بأناقة الكلمة وعذوبة هوى الأوتار غلّاب! ويدعوكَ لجولة في آفاق عصر الفنون الذهبيّة، حيث اجتمع الفكر الخلّاق واللسان الراقي والأُذن المرهفة على تثبيت حالة ثقافيّة لم تشطّ عن هوى طبيعة النفس. ورسخت في اللاوعي الجمعيّ خلفيّة تربويّة مراجعها أُدباء، شعراء وشاعرات من كلّ الأقطار العربيّة من المحيط للمحيط…
جمهور بطوله وعرضه ما تناول من مائدة خلت من لمسة أحمد شوقي، أو نزار قباني، أو الرحابنة أو أحمد رامي… جيل بحاله وأحواله سمع من قريب أو بعيد بالجواهري وعمر الخيّام وعبد الرحمن الأبنودي ومارون كرَم وجورج جرداق وإبراهيم طوقان… والعشرات، بل المئات من صيّاغ الكلمة العذبة! فهل تكمن الإشكاليّة بطريقة التقديم؟ أم بالأصناف؟ من يدري؟ فقد تكون المسألة مسألة مذاق خاصّ؟ ومن الطبيعيّ أن يفضّل هذا الكبه… والمقلوبه، وذاك البيتسا… والهمبرجر! لكن، من العار على الفضائيّات أن تروّج لما يُفسد الذائقة الشرقيّة!
ويتعامى المربّون عن واجب احترام المعلمين الذين نحتوا بالحروف عاطفة أصيلة وفكرًا أديبًا! معلّمون عبروا زماننا قَدَرًا مضيئًا رفع صروح الثقافة المشرقيّة عاليًا! ومنهم المقرئون الذين جوّدوا وأجادوا… والمرنّمون الذين حلّقوا في فضاءات الروح… ومنهم الملهَمون الذين وحّدوا ما بين أصوات النفس وأوتار الطبيعة… عظماء أورثونا حضارة ليست للاستعمال لمرة واحدة، وقد تجوهرت بالروحانيّة والحسّ الإنسانيّ العالي! فشبّت قويمة معصومة عن الانحراف! وما عابها الزمان على انطلاق ألحانها من السريانيّة والبيزنطيّة، وتمازجها مع الإندلسيّة والأمازيغيّة والخليجيّة…
المجد المسموع قام على تشكيلة من النكهات مضبوطة العيار، صبّت في الوعي قبل جريانها في الحناجر! عظَمة على عظَمة على عظَمة أقلقت عدوّ الإنسانيّة! وبينما كنّا نثبّت لوحة ثقافتنا مكتملة متناسقة على جدران التاريخ، زاد تصميمه على تفجيرها تصميمًا! وخير بداية تكون بتقطيع شبكات اللغة والفنون. من هنا كانت الطلقة التي فجّرت المنظومة التربويّة الصاعدة أدراج الحضارة المقبلة. حرب ذكيّة بدأت بتفكيك الذهنيّة، مع تكثيف الضربات الغريزيّة الاستباقية؛ بالألعاب الناريّة والمفرقعات الصوتيّة، إلى المنشّطات الدعائيّة، إلى أقراص الهلوسة التي خدّرت الوعي بجمال وعظَمة الحياة! وكان حريق طال المكتبات ودور النشر، من بيروت إلى القاهرة إلى بغداد، الشام، عمّان وتونس… فتحطّمت واجهات الأدب ولوت ألسن المبدعين!
أقفرت مطابخ الثقافة، فعمّت المجاعة الإذاعات والمسارح ودور السينما ومراكز البحث في تاريخ الموسيقى… وما نجا إلّا طويل العمر! موات شبه شامل وصل إلى دراما الربع الأخير من القرن الجائر، وما غادر إلّا وقد خلّف ” ربعًا خاليًا” مقفرًا! وبدأ العمل الجديّ على تصنيع شهوات تتوافق مع قوالب المعروضات في الأسواق الجديدة. وكلّ جديد مرغوب.
لكنّ الجيل الشاهد على العظَمة قال هيهاتِ هيهات أن يقوى المارد على خيط من أدبيّات ذاكرتي المكنوزة بالجواهر! ويردّد في سرّه وعلى راس السطح: أنا محظوظ وقد أمّنتُ على نفسي من سرقات العصر وحرائقه، وسأُورّث هذه الحصانة لأبنائي!
(إذا كنتَ يا هذا جادًّا فيما تقول، استعر لولدكَ ذاك الشريط المسجّل من ذاك الفتى المتمرّد، وسمّعه ما تحبّ نفسه أن تسمع! إفعل هذا قبل أن تغرُب شمسكَ/كِ!!)
ففي بيادر بعلبكيّات طلال حيدر رائحة حنطيّة من رائحة جِلده… وفي منقوشات جبران خليل جبران برقيّات فكريّة، وفي سنابل جوزيف حرب الكادح في الحقل الجنوبيّ أرغفة شهيّة… وفي مغارات سعيد عقل نوازل وصواعد حبّ يمشي على الأرض رخيمًا… ومساقط شلالات زكي ناصيف تتدفّق بعذب الشراب وشفافية الروح… ومن قطّارات مشيل طراد تعبئات من الرهافة والبساطة الحلوة… أو سمّعه شيئًا من طلقات العاشق المجنّح فلمون وهبي خفيف الظلّ والحركة… وغيرهم الكثيرون من الرحّالة بين الأرز والبيّارات… وكلّهم أرقام صعبة على الرضوخ لإرادة زمن يجعل من عاشق الحياة تمثال شخص كريكاتوريّ!
هذا إذا كان متأثّرًا بهواك، وكنت شماليّ الهوى. أما إذا كنتَ جنوبيّ الأُذن، فيكفيكَ أن تمرّر له لقب” موسيقار الأجيال”، فالهرم يعرفه، والنيل يعرف الهرم! معلومة قد تدفع بفضوله للذهاب وركوب بساط ريح فريد السويداء، والتحليق فوق تونس الخضرا وسائر الميادين… إلى وادي الأهرام حيث يمكنه تلمّس شيء ممّا يسمع عن سلاطين مصر. فقد يدخل القفص النيليّ ويعلق فيه!
فنحن أُمّ الصبي/” الجمهور”، وبإمكاننا أن نعوّزه ما يعيد له توازنه العاطفيّ! أو نعترف أنّنا أُمّة ” تأكل من فكر لا تنتجه، وتلبس من عواطف لا تنسجها”!