“طليت عاحيّن بعد غيبة سنه…
لقيت الدِني متغيّرة بهاك الدّني”! المكان ربوة بين جليلين أغرّين، غرّتها خصَل من تليلات لا يغادرها وجه الشمس إلّا كي تنام وترسم أحلامًا شامخة شموخ جبال النور… الزمان بين ليل ربيعيّ مقمر مضى، ومساء خريفيّ جرى خلفه على بُعد أربعة أعوام.
لم نسمع نباح تحذير، أو عوعوة ترحيب، ولا غرابة بهذا؛ فنحن نقصد أصحابًا لم يربوا الكلاب يومًا. بعد ساعتين على أكثر تقدير، سنلتقي هنا ثلّة من الأصحاب القدامى، وتكون ليلة أُخرى من ليالي الأُنس الجبليّة؛ فقد رفع السيد كورونا الحظر عن التجوّل، ومن المؤكّد أنّ مائدة العشاء الجماعيّ هذا لن تُلزم أحدًا باستعمال الكمّامة أو المعقّم!
فُتِحت أبواب القلوب ونوافذها لاستقبالنا، فُرِشت الشرفات وأُضيئت الشموع الشاعريّة على الرفوف ومصاعد الأدراج، حتى كدنا نتنكّر لأعيننا العتيقة ونساير المتجدّدة مع الأُسطورة! فلا أحسن من قراءة الأساطير بعد شوط من قراءة النشرات المُحذّرة من الوقوع في شبكة كورونا!
لنا المقاعد المنجّدة والمساند المحشوّة بالريش… والأواني الخزفيّة الملكيّة، والكؤوس البلّوريّة الأميريّة… لكنّ أمرًا غامضًا يدفعنا لاختلاس خطاب تناقلته عيوننا استهجانًا! ونكاد نتبادل القسَم بأنّ فيروس كورونا لم يبرح هذه الدار، وقد بقي فيها ساكنًا متخفيًا بزيّ آخر؛ كورونا الكلاب!
ويهزّنا فجأة شعور بأنّنا غرباء! وما هي إلّا ساعة حتى تأكّد لنا أنّ الأصحاب قد ابتلوا بفيروس الكلاب! كان مرور الدقائق من مشارف الحارة إلى العنوان شريطًا متحرّكًا زاد فيه عدد السيارات والكلاب على أعداد الأطفال والمشاة، حتى وإن احتسبنا أعداد مرافقي البوبيات إلى المراحيض وغيرها… وقد علمنا أنّها تتمتّع بديموقراطيّة تعطيها حقّ اختيار وترسيم خرائط مراحيضها!!
هذه كلاب ولاد ناس؛ تحمل شهادات ثبوتيّة/هويّات رسميّة، بطاقات صحّيّة… وترصد لها ميزانيّات خاصّة بالترفيه وارتياد الملاعب، عدا عمّا يلزم من الفرش والثياب… وما أدراك ما الثياب وأزياؤها… وأكسسواراتها!! لكلّ أُسرة كلب. والأفضل اثنان، لضمان حياة اجتماعيّة صحيّة. فاللعب والتسلية أثناء غياب الأهل مسألة مهمة جدًّا! فلا ننسَ أنّ هذا البوبي وذاك الكليب ولاد ناس، لا يجوز إيذاؤها مهما كان السبب! خدش شعور هذه “المُقتنيات” يعتبر تعنيفًا!
لكنّنا نتساءل: ما هي نسبة أعدادها مقارنة مع المضطرّين لاقتنائها لأسباب صحيّة اجتماعيّة؟ وهل باتت السلامة النفسيّة بحاجة ماسّة لطبيب كلب، ومعالج ابن كلب!؟ وهل من مبرّر مقنع لجعلها محور حديث المثقفين الشعبيين؟ وتتلعثم بغربتكَ وهم مسترسلون بذكر مآثر ظُرفها وذكائها…! وتعجب كيف، وخلال أربعة أعوام، صار الحكي شكل تاني، طعم تاني ولون تاني…كيف ولماذا تمزّق وشاح البساطة والدِّعة والسكينة عن وجه هذا السفح الأغرّ؟!
لم تفقدنا الصدمة أيًّا من حواسّنا، وقد غمر طوفان الحفاوة والضيافة كلّ ما عداه… لكنّنا، (أثناء ركوبنا سيارة العودة، تواردنا التعجّب؛ ماذا حلّ بالأصحاب؟ وهل يمكن أن يبقوا في البال علامات فارقة بأناقة الفكر والمظهر؟ هل يمكن أن يعود لألسنهم ذاك الانسياب؟ تمنّينا أن تكون هذه صرعة، وتعبر! دعونا لهم بالشفاء… وصلّينا.
لكنّ آلة الكشف حدس يصعب تخطيئه، ومؤشّرها يدلّ على فقدانهم حواسّ هواهم؛ فصمت أُمّ كلثوم وعبد الوهاب في هذه التجمّع، وسكوت وديع الصافي وفيروز وأسمهان، واختناق نجاة الصغيرة وليلى مراد وفايزة أحمد في هكذا أُمسية، يشي بدلالات دامغة على تكمّش عواطفهم، وتخدّر بهجة الحياة في عيونهم شاهد آخر!!
أهلَ بيت حضرنا، وغادرنا غرباء! ويلفّنا الشعور بالغربة، ويعتصرنا الأسف لعودتنا خاسرين رفاقًا لا يعوّضون؛ فقد اهتزّت أرضيّة تلك العلاقة العاطفيّة، وتركت أثرها تصدّعات متفرّقة في الذهنيّة…!
ويضيق بنا الدرب. والدروب الضيّقة تظهر الأشياء فيها بكلّ تفاصيلها. هنا، في جادة الصبا الأوّل، حُشِرتُ حشرًا مُقرِفًا! على رصيف الشارع الذاهب شرقًا إلى كنيسة سيّدة الجليل في البقيعة/المرج مشيتُ مع الذاكرة القريبة، حيث كان يوم آخر ودّعنا فيه عزيزًا آخر…ومشينا الرصيف الجنوبيّ نحاذر الزلق ب”صابون” الكلاب!! ما أبشع هذا وأغربه! فهل يجهل الكلّابون أنّ هذا الدرب موصول بمكان مقدّس؟!
كتبتُ بعد وصولي البيت مباشرة (قبل حوالي عام) منشور استنكار وتنبيه واسترحام… لكنّ وسيلة نشره في كلّ راحات القرية الحسناء قد عزّت… وأضربت طيّارات الورق عن الإقلاع في فضاءٍ أعراضُ إصابته بكورونا الكلاب واضحة! في هذا الحيّ الأعذر يستفحل فيروس ما كان عالبال والخاطر!!! لكنّ شرارة تشعل خاطري، فأثور مستغربة أين من هذه القذارة خيال مصمّمي أزياء الكلاب؟ ألم يخطر لأحدهم بعد، أن يكون السبّاق بتصميم حفاظات تليق بهم؟! أوليسوا ولاد ناس بأربعة وعشرين قيراطًا؟!
غرباء. لكنّني في الغداة عدتُ إليّ، تداويتُ من المغص والغثيان، ورويتُ لأحفادي قصة حقيقيّة بطلها كلبنا الأصيل “بطّاح” المتمتّع بسجلّ تاريخيّ حافل بمآثر الذكاء والوفاء… ومنها مبيته ليلة يحرس علبة سجائر أبي، رحمه الله، وقدّاحته، في وعر معتم عتم ستينيات القرن الماضي، يبعد عن البيت ثمانية كيلو مترات أقلّه! وعنه ما أكثر النماذج التي تستحقّ الذكر والتوقّف!
هذا الكلب وأمثاله ولاد ناس بحقّ وحقيق، ولم يُصنّف معالجًا مختصًّا! حارس صديق قام بواجبه وأكثر، فلقي العناية والرعاية والمحبة والاحترام أكثر ممّا لحق الحصان أبو التعب والعنزة أُمّ الإدام الأبيض على مدار العام!