وفي لحظاتِ الضّعف والهوان تتهاوى علينا تلك الغيومُ المتلبّدة لتطغى على المكان ناشرةً تلك الظّلمة الموحشة في كلّ الأرجاء حاملةً معها قطراتٍ رمليّة لزجة تسقطُ علينا بقسوة وفجأةً سرعان ما تتغيّر الأحوال، وينجلي ذلك البؤس والكدر وتلامس أجسادنا تلك القطرات المنتظَرة بملمسها النّاعم المنعش ، تلك هي الحياة فما بعد الصبر إلاّ الفرج …
فكم من مصائب بدأت عظيمة كجبالٍ ضخمة وسرعان ما تبدّل الحال لتختفي وترحل ، وكم من موقف عشناه خائبين بائسين نرى أنفسنا في القاع مع أولئك المحبطين… وسرعان ما بدأ يشعّ علينا نور الأمل كشروق الشّمس حين تمتدّ أشعّتها لتزيل تلك العتمة هنيهةً هنيهةً… لتنقلبُ الصورة باعثة معها جرعة من التفاؤل وذلك عند وقوفنا للحظات متأملين تلك العطايا الّتي أنعمها الله علينا، والّتي كنّا لا نراها أبدا ولكنّها كانت موجودة قائمة وبمجرد فقدان إحداها نعي قيمتها ووقتها نتأكّد أنّنا نقف على أعتاب نِعم لا تُحصى، بعضها ظاهريّ وجليّ، والبعض الآخر خفيّ وكامن في تفاصيل يوميّاتنا.
في حياتنا منحٌ تتلألأُ كأطياف قوس قزح، متنوعة كألوان الحياة تتفاوتُ بين الرّوحية والجسديّة والماديّة. قد نجد في الإيمان نعمة تعانقُ الرّوح، تهدينا السّكينة والسّلام الداخليّ، في حين تُعتبر الصّحة والقوّة الجسديّة من أهمّ النّعم الّتي منّ الله بها علينا ، رغم وضوحها ووجودها نصب أعيننا لدى معظمنا ، كثيرًا ما نغفل عن شُكرها حتّى تحلّ بنا وعكة أو نمرّ بمحنة لنعرف قدرها وأهمّيتها. أمّا النّعم الماديّة، كالرزق والمال والمسكن، فهي تدعونا دومًا للتفكير في كيفيّة توظيفها لخدمة أنفسنا والآخرين.
تلك النّعم الخفيّة الّتي تمرّ بنا دون أن نلحظ قيمتها حتى نفقدها مثل القدرة على الحركة بحريّة، الهدوء النفسيّ، وجود الأحبة حولَنا، هي نِعمٌ نعيش في ظلّها ولا ندرك عظمتها إلا عند زوالها كيف لنا أن نُقدّر نعمةً إلا حين نشعر بغيابها؟ هنا يكمن السرّ في ضرورة التأمّل والشكر لكل ما نملك، وما قد نملكه دون أن ندرك.
إنّ الاختبار الحقيقي للخيرات الّتي بين أيدينا يأتي أحيانًا في صورة مِحن ومصاعب، تُختبر فيها قوة الإيمان وصبر الروح، تلك الأوقات التي قد تبدو مظلمة وثقيلة، لكنّها في جوهرها قد تحمل نعمة خفيّة، درسًا نتعلم منه قيمة الصّبر والشكر وكثيرًا ما نكتشف، بعد مرور العاصفة أنّ في طيّاتها كانت نعمة مستترة تُعلّمنا وتصقل شخصيّاتنا…
ومن بين أسمى النّعم التي لا تُقدر بثمن، نعمة العلاقات الإنسانية، التي تربطنا بالآخرين من عائلة وأصدقاء، إنها هبَةُ الحبّ والعطاء المتبادل، نعمة الأمان الذي نشعر به في حضن الأمّ، ونصائح الأبّ وابتسامات الأصدقاء وفرح الأبناء… في هذا العالم الذي قد يبدو أحيانًا قاسيًا ومعزولًا، تظلّ العلاقات الإنسانيّة هي الجسر الذي يُبقينا متصلين بالآخرين ، ويمنحنا القوة لمواجهة التحديات الصعبة في حياتنا ..
مع كل هذه النّعم التي تُحيط بنا، تبرز مسؤوليتنا تجاهها، فما قيمتها إن لم تُستخدم لخدمة الآخرين؟ كيف يمكن للنّعمة أن تزدهر إن لم تُشارَك مع من هم أقل حظًا؟ هنا يتجلّى دور استثمارها في بناء المجتمع وفي إحداث تغيير إيجابيّ في حياة من حولنا، إنها مسؤولية لا تقلّ عن شكر النّعمة، بل هي الوجه الآخر للشكر الفعّال، الذي يُترجم إلى أفعال ملموسة فالعطاء جزء لا يتجزّأ من تلك المسيرة الكونيّة لدوام واستمراريّة النّعم..
لقد تناول الأدب والشعر موضوع النّعم أيضًا بطرق شتّى، فالأدباء والشعراء لطالما عبّروا عن امتنانهم لكلّ نعمة تحلّ عليهم ، بعضهم رأى في النّعمة ملاذًا في لحظات الشّدة، وآخرون اعتبروها منبع إلهام لا ينضب وتجسّد ذلك من خلال كلمات احتفت بالحياة وما وهبته لنا……..
كذلك يتجلى مفهوم شكر النّعمة كركيزة أساسيّة في قلب كل مجتمع حيّ ينبض بالتقاليد والقيم، حيثُ يتمثل عمق الامتنان للخير الذي نتلقاه يوميًا في عاداتنا وتقاليدنا الّتي كانت خير مؤسّس لروح العطاء والامتنان في نواحي مختلفة من حياتنا سواء بالتبرّع ، المساعدة، التطوّع وغيرها ممّا تورّثه الأبناء من قيم وفضائل . فالاهتمام بشكر النّعمة ليس مجرد ممارسة فردية، بل هو شعور جماعيّ يُعزّز التماسك الاجتماعيّ ويعكس قوّة الروابط الإنسانيّة فالمجتمع الذي يُقدّر النّعم ويشكرها هو مجتمع يزرع بذور الخير والمحبّة، ويُغذّي روحه بالتواضع والتقدير ، من جانب آخر، تأتي الشرائع الدينيّة أيضًا لتؤكّد على أهمية شكر النّعمة، والتفكّر في خلق الله وما وهبه لنا من نِعَمٍ لا تُعدّ ولا تحصى لنرفع أيدينا للخالق في كلّ حين شاكرين حامدين على ما منحنا إيّاه، الشّكر في الدّين ليس فقط كلمات نردّدها، بل هو فعل من أفعال العبادة، يُعبّر عن ارتباطنا الروحيّ بالخالق، واعترافنا بفضله وإحسانه حيث يتجاوز هنا حدوده التقليديّة ليصبح جسرًا يمتدّ بين الإنسان وربّه، وبين الإنسان ومجتمعه، داعيًا إلى نشر الخير والمحبّة، وتقدير ما وهبه الله لنا مما يعود الى الانسان بالخير أيًّا كان وضعه.
في نهاية المطاف، تبقى النّعمة هي السرّ الخفي الذي يربطنا بالحياة، كالنّسمة الرقيقة التي تهبّ علينا دون أن ندرك قيمتها حتى تهدأ…. تأملوا في النّعم التي تحيط بكم، وازرعوا في قلوبكم شجرة الشّكر والعطاء فالحياة التي تتّقد بالنّعمة هي حياة مليئة بالحبّ، مُضيئة بالخير، تُزهر فيها الأرواح وتثمر أجمل المعاني ، دعونا نعيش بوعي كامل شاكرين لكل لحظة، محتفين بكل هِبة، ومستعدين لمشاركة ما نملك مع الآخرين، لأن النّعمة الحقيقيّة هي التي تُضاعف بالمشاركة وتكبر بالامتنان.