(1)
صدرت عن دار فضاءات الطبعة الأولى من رواية “أنثى ما فوق الخطيئة” عام 2021 في عمّان، للكاتبة الفلسطينيّة أغصان محمود حسن، ابنة قرية المشهد الجليليّة. وحال انتهائي من قراءة الرواية كتبت منشورًا على صفحتي الخاصّة في تطبيق فيسبوك.
وهذا هو النّص الإنطباعي الأوّلي الذي كتبتُه:
“إنّها رواية، وأحيانًا الرّواية هي التي تستدعيك، تُكفيك عناء البحث عنها، قراءتها قَدَرك، شِئتَ أم أبَيتَ، عليك أن تتفرّغ لها من قراءاتك ومشاغلك الثقافيّة لتهيِّء لها.
كلّما توغّلنا في التّاريخ، وتاريخ الأدب، كلّما توغّل الأدب فينا، وصعَّب علينا انتقاء الجماليّة في العصر الأحدث، لأن المتقدّمين لم يتركوا بابًا في النفس البشرية وأحكام العلاقات وغير ذلك، إلا وطرقوه، حتّى تصطدم برواية “العِطر- 1985” للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، ورواية “عزازيل- 2008” للكاتب العربي المصري يوسف زيدان، مع التحفُّظ من مواقفه السياسيّة الرديئة، أو روايات ساراماغو على تنوّعها، فتقول: لا يزال الأدب العالمي ينبض ويفيض نوره ليُغرق حُلكة عوالمنا.
وها هي الأديبة العربيّة الفلسطينيّة، ابنة قرية المشهد الجليليّة، تُموضع روايتها الجديدة الأولى على إحداثيات نسيج الأدب العالمي الأجمل، إنها أغصان حسن، مؤلّفة رواية “أنثى ما فوق الخطيئة- 2021” اقرؤوها لو سمحتم..
لغة تنساب كعطر الياسمين في أرواحنا، وقضايا شائكة تتناولها بسلاسة، توجهها بوصلة الحضارة، تتخللها ثويرات اجتماعية هادئة تزلزل الجبال، تورّط شخصيّاتها برديكاليّة، وتترك لنفسها سلالم النجاة”. (انتهى المنشور)
وكلّ نقد جاد لا بد أن يحمل في طيّاته الايجاب والسلب المنصفين، وعادة ما نتحاشى السلب في نقد الإصدار الأوّل، شعرًا كان أم نثرًا، من باب فسح المجال للكاتب حتّى يلج عوالم النقد مسلّحًا بتجربة تراكميّة حتّى نتحاشى الإحباط، وهذا موقف ايجابي جيّد من أجل دفع مركب الثقافة إلى الأمام. ولكن، عندما تقرّر الكاتبة أن تلج هذا الحيّز الثقافي بهذه الهامة الإبداعيّة الشامخة، تضع النّقد أمام تحدٍّ يقول لكَ: “اكتب ما شئت”، لأن الخطوة الاولى تجاوزت مدى الخبرات التراكميّة، ويصبح لزامًا على النّاقد أن يتلقّف الدعوة. ومع هذا لن ابدأ بتناول الإهداء، فهو مؤجّل لتناسجه العضوي مع متن النَّص، كي لا نتجنّى وإن اختلفنا، وهذا ما تمليه مسؤوليّة التعاطي مع النّص.
ربما شذرة في البداية عن رُقي النقد في حضارتنا العربيّة الإسلاميّة، فها هو العلّامة اللغوي محمّد بن سلَّام الجمحي (139-231 هجري) يصنّف في كتابه “طبقات فحول الشعر” امرأ القيس على قمّة الطبقة الأولى من الشعراء متصدّرًا النّابغة الذبياني وزهير بن أبي سُلمى. وكذا فعل ابو زيد محمد بن ابي الخطّاب القرشي (المتوفي عام 170 او 171 هجري) في كتابه “جمهرة أشعار العرب”، وكذا فعل الخطيب التبريزي في “شرح المعلقات العشر. وبالإمكان القول أن هنالك شبه إجماع على مدى العصور أن امرأ القيس يتربع على عرش الشعراء العرب. ورغم هذا يتقدّم القاضي الباقلّاني (المتوفي عام 403 هجري) بأرقى النّقد لشعر امرئ القيس دون خوف من لومة لائم في كتابه “إعجاز القرآن” فيرشدنا ألى مواقع ضعف امرئ القيس بموازنته مع آخرين من الشعراء، أو لعدم كفاية صحّة التعبير من حيث هو، والأهم نزوله بلاغيًا عن مرتبة شرف المعنى في القرآن الكريم. وهذا النقد وهذه الموازنات لا تضع من قدر امرئ القيس، بل على العكس تكفيه فخرًا. وهذا الرُقيّ طال، على لسان آخرين، المتنبي وأبي نوّاس وأبي العلاء المعرّي وقمم أدبيّة أخرى، لم تنل منهم، بل على العكس من ذلك، بنقدهم ارتقى النّقد، وتطوّر الشعر والأدب عمومًا.
أما اليوم فالنّقد موازٍ للمجاملةِ، والنّقد العلمي الصادق قد يكلف النّاقد علاقته مع المبدعين فتسوء. فالنّقد الايجابي يجب أن يكون مبرّرًا علميًا، والنّقد السلبي يجب ان يكون مبرّرًا علميًا، حتى لو لم يكن مَوْضِع إجماع.
(2)
تستخدم الكاتبة في روايتها شخصيّة محوريّة أولى، ألا وهي راوية القصّة، وبهذا تنسلخ الكاتبة عن الرّاوية فتضمن لنفسها مساحة أوسع للخوض في اعماق القضايا والصراعات الدراميّة، فتتعاطى مع قضايا اجتماعيّة وانسانيّة شائكة من خلال تنامي شخوصها الطبيعي، وإن اصطدمت مع الأعراف والموروث، بحق أو بغير وجه حق، فإنها تجيد الانسحاب بواسطة سلالم الطوارئ والهروب دون أن ننالها، مُلبسة التهمة إن صحّ التعبير، على الشخوص. وقد نجحت باستخدام هذه التقنيّة في معظم الحالات، بعد ان تُدخل المتلقّي إلى حالة اشبه بتلقي سلسلة صدمات خفيفة تدريجيّة نشعر بهولها حين نصل إلى نهاية الرواية.
هذه تقنيّة متقدمة ذات ثلاثة محاور ساردة متداخلة، الكاتبة والراوية والشخوص، وثلاثة مستويات سرديّة متداخلة، السيرة الذاتيّة والسيرة الغيريّة والسيرة المُتخيّلة، وهي الأهم لانها تتجاوز الراوية والشخوص لتتدخّل الكاتبة بذريعة المخيال بمنهجيّة مدروسة لتجرّنا بذكاء بالغ إلى ساحتها دون أن نشعر بوجودها بعكس ما حاوله أريسطوفانِس في مسرحيّة “ليزستراتا” الإغريقيّة التي تتوجّه إلى المستوى الدماغي الزواحفي الغريزي الأزرق.
سرديّة عشق الرّاوية هي الأساس وتحرّكها الإرادة، فالبطلة الدرامية تتشكّل بإرادتها لتصطدم مع واقعها، وهي كفيفة، والتي تتلقف القصص القصيرة “النسوية” من حولها وتكتب عنها، كمقطوعات أو نثريات، مثل قصة هيام ال”مجرّد عشيقة” والتي تطلق على نفسها لقب “زيرة رجال” وعلاقتها بابي وليد الكفيف المتزوّج، نسرين والحصبة وفقدان البصر والرجل الهاتفي، وَجد وجيني والعلاقة المثليّة، وساندرا ابو غوش وعادل والختان الطوعي، وثريا ابنة شيخ البلدة والمحجّبة..
وبطلاتها نساء كفيفات، فتكون النثريات مجتمعة بمثابة المستوى السردي الثالث. وتختار الرّاوية قصّة إحداهن، الوحيدة غير الكفيفة، لتكون بطلة السرديّة المركزية بين النثريات، وهي “نيسان” والتي أضافت الى اسمها “شام”، لتكون سرديّة نيسان- شام هي المستوى السردي الثاني.
يحلو لي أن اشبّه السرديات ومستوياتها بضفيرة تُجدَل من ثلاث خصلات، تكون فيها سردية الرّاوية ضفيرة، وسردية نيسان ضفيرة، والنثريات مجتمعة ترفد الضفيرتين بثالثة توظّفها الكاتبة في غزوها المؤدلج القطنيّ لطبقات الإدراك الممتنعة لدى المتلقي، ثويرات اجتماعية وثقافيّة ونسويّة، تقع أحيانًا في مفاهيم غربيّة وتنجو في أحيان أخرى، نوافقها في بعضها ونرفض بعضها الآخر ونناقش ثالثًا، وكل هذا من إطار حضارتنا العربية الإسلاميّة، الأرقى عالميًا وأقولها بفخر ملء الشدقين.
فعلى سبيل المثال لإمكانيّة رفض النموذج: الظروف التي حوّلت نسرين إلى مدمنة “رجال الهاتف” بسبب ظروفها لا يجعل من النتيجة حل نسوي وذريعة لامرأة مقموعة، فلا علاقة لذلك بالنسوية بشكل يمتاز على الذكوريّة كموقف نضالي، فظروف مغايرة تجعل من رجل مدمنًا ومتعلقًا ب”فتاة هاتفيّة” دون أن يتبنى التيّار الفكري النسوي، ودون أن يكون هذا مبررًا لذكورية مفرطة! فالقضية تنحصر في اشباع حاجة غريزيّة ارتباطًا بتطور تكنولوجي كالهاتف الخليوي، الأمر الذي لم يتوفر قبل عشرات السنين. لكن أغصان تجيد توظيف هذه النثريّة، التي تصلح لهنا أو هناك، وأدلجتها في إطار مشروع الرواية الذي يسير كالنهر الهادر مع بقية النثريات في دعم الفكرة المركزيّة التي تقول بذكوريّة المجتمع كلون واحد ووحيد غير متنوّع، بحسب خطوط وملامح شخصيّات الرواية.
(3)
أما الشخصيّة المركزية الثانية في الرواية، والأولى بالنسبة لشخص الراوية في الرواية، فهي نَيسان، التي تتعارف على الراوية وتبدأ معها بغزل الرواية المركزية ليَلِجَا معًا حواريًا بعض العوالم، منها عالم النساء وصراعاتهن الذاتيّة والمجتمعيّة، كلٌّ على حِدة ومعًا ومجتمعًا.
تسأل نَيسانُ الراويةَ عن صورتها، ويبدو ان الصورة معلّقة على صفحة التواصل الاجتماعي التي تخص الراوية:
“- … والطفلة في الصورة ابنتك؟
-ههههه هي ليست ابنتي، انها ابنتي التي لن تكون لي يوما..
– لماذا تقولين هذا الكلام؟! ألست متزوّجة؟!
– لا.. أنا لن أتزوّج أبدا..! وقلت في نفسي: حمقاء تلك السيّدة، ألا تعرف أن المصابات بالعمى كناقصات الأثداء ومبتورات الشهوة الجنسيّة لا يتزوّجن أبدًا؟!”
فنرى الراوية تطرق موضوعًا عنيفًا قاهرًا بأسلوب لطيف يصفع المتلقّي ليصحو فيستزيد. ومع هذا تبدأ الرّاوية بسرديّة عشقها الإرادية التي سأطلق عليها لقب anti- Pygmalion ارتباطًا بأسطورة بيجماليون العربية- فينيقيّة التي أورد ذكرها الشاعر أوفيد الإغريقي.
فالراوية الكفيفة، رغم ظروفها، تشق طريقها نحو العلم، وتشقّ قلبها، مجازًا، نحو العشق فتفشل في الثانية رغم تحذيرات وتجارب كلّ من حولها، كمن يهرب “أوديبيًا” من قدره نحو تحقيق هذا القدر، معتقدًا بحريّة إرادته فيقع صريعًا لبراثن هذا القدر في حضن الإرادة الحرّة! لكنها ترفض إلّا أن تصيغ ذاتها بذاتها، لا ترتضي أن ينحتها فنّان مثل بيجماليون، إنّها بطل درامي ضد- بيجماليوني. وتفشل في النهاية أمام منظومة ذكوريّة، لكنها تحتفظ بشرف المحاولة. إنها حرب ضد المنظومة الذكوريّة. ويبقى السؤال: هل حقًا المنظومة ذكوريّة ظالمة إلى هذا الحد من السوداويّة، أم هنالك فسحة أمل لقراءات مغايرة ومجانبة وموازية، قراءات اجتماعيّة- اقتصاديّة- سياسيّة- فيزيولوجيّة أخرى؟
لكنّ الرّاوية تأبى أن تستسلم للقدر المخطوط، فتحاول مشاكسة كاتبة الرواية بسرديّة نيسان- شام، حتّى تثبت لها أن قدر المرأة واحد سوداوي، لا شأن له بفقدان حاسّة البصر، والرجل هو الرجل بمعزل عن ثقافته ودينه وظروفه. فنيسان- شام هي البطلة الوحيدة المبصرة، وتملك إرادة أن تتعالى على واقعها المفروض عليها، فتستسلم أو تقع في شباك محامٍ “نحّات- بيجماليون- مراد” يشكّلها كما يشاء، كما تظن أنها تشاء! وهي بهذا الجانب بيجماليونيّة بامتياز، فهل تبقى كذلك حتّى النهاية؟ إنّ من يؤنسن منحوتته لا يتخلّص من عقدة استقلالية ونديّة المنحوتة، فلا يستطيع أن يتزوّجها، ولا يستطيع أن يُطلِقها لحال سبيلها أو لرجل غيره، فيضع منحوتته المتأنسنة في الحال العبثي حتّى تتخذ قرارها بالهرب، فلا يشعر بالدونيّة رغم ألمه المفترض. فتقول نيسان- شام صفحة 197: “ما الذي فعلتُهُ خلال كلّ تلك السنوات؟! ما كنتُ أنا، كُنتُها كما شاء هو. هربت من بيت أبي أنشد الحريّة في كنف مراد ولكني في الحقيقة كنتُ أفقدها وأمضي إلى سجني بمشيئتي”.
أما شخوص الرواية من الرجال، وإن وُجِد مثلهم في الواقع، إلا أنه حتمًا ليسوا بالنماذج الوحيدة، وغيرهم من يوصف بالرُقِيّ، لكن اختيار الكاتبة المؤدلج كان أحاديًا سلبيًا، في مقابل الاختيار النسوي الذي كان أحاديًا، وإن لم يكن سلبيًا دومًا فقد كانت لهنّ بلا شك مبرّرات لسلبيتهم.
حتّى شخصيّة ابو الوليد المتزوج والوالد الذي فقد بصره، والذي شكّلت شخصيته بملامح ايجابيّة إلى حدّ نسبيّ ما، فإنه يقوم بخيانات استباقيّة. وأما شخصيّة ناجي الملاح الزوج الدّاعم الذي ارتبطت به نيسان- شام فهو في النهاية، وإن شكّلته الكاتبة بملامح ايجابيّة، ليس برجل، بل عاجز جنسيًا. ووالد نيسان- شام الرابض للشر. ومراد الذي يبغي كل ما يريده حيوان من جسد امرأة. وعادل وغيره من الشخوص الفاعلة كلّها شخصيات سلبيّة مسلوبة وسالبة للإرادات، دون محاولة من الكاتبة الإطلال من كوّة على سيكولوجيّة الرجل الضعيف الخائف المهزوم، السيكولوجيّة الدفاعيّة وربما الاستباقيّة دون التغاضي عن سلبيات المجتمع والحالات القمعيّة، خصوصًا ضد المرأة.
تشن الروائية المبدعة أغصان حسن معركة استنزاف طويلة الأمد بأدوات إبداعيّة غير مرئية، ببراعة، بذكاء، بجماليّة، حاولتُ في هذا البحث سبر غورها. وبرأيي فإن هذه الروايّة تتربّع، ربما مع غيرها، على قمة الإبداع الروائي الفلسطيني والعربي عمومًا، بغض الطرف عن بعض المضامين، أو حتّى فليكن، فهي حالة ابداعيّة فُضلى لإثارة النقاش.. ويجب أن تُدَرَّس في المدارس والجامعات.
ألقيت القراءة في ندوة المشهد حول الكتاب
16.8.2024