أجواء وأصداء… – عفيفة خميسة

 ثلاث مئة يوم مرّت ونوافذ نفوسنا وبيوتنا تتحيّن الفرص للتسلّل من الأجواء الدموية، حتى برد إحساسنا وانقطعت علاقتنا بالوقت! وخشيت أن أتجلّد بفعل النار والحديد… فانتفضت وانسحبتُ من شرفة الانتظار إلى قوقعة الطوارئ!

   “اندق باب البيت”! مَن تراه يكون هذا الطارق؟! على بُعد النداء سمعتُ، يومذاك، طنينًا جبليًّا أثار شهيّتي للحسة عسل بريّ…

    يا للمفاجأة! هذه نحلة قفير اتحاد الكتّاب الفلسطينيين…العزيزة فوز فرنسيس، تتحدّى الأجواء، لا تبالي بالراجمات الصوتيّة المنبعثة من تليلات معليا الغربيّة! تخترق القبّة الحديديّة! وتمرّر لي نسخة الفصل من “شذى الكرمل”، وتمضي.    

   

نجحَتْ، فيما لم تنجح كروم الزيتون بشديد قاماتها وعلوّ هاماتها وعديد آلاف أقدامها، بتمرير سلال قليلة من ثمارها، إلّا بإذن مُصادَق عليه من المجلس المحليّ! لكنّنا أطفال زمان، ومثلنا أقلّ وأبسط الأشياء ترضينا وتفرحنا؛ نتخاطب بالعيون شاكرين: “الحمدلله ذقنا خير السنة” (المقطوف من الجُدُر)! ونوكِل لسجيّتنا مهمة ملاطفة الحظّ الذي منحنا مهلة لإعداد الخبز اللائق، استقبالًا وابتهاجًا بالموسم الجديد. لذوقة الزيت الجديد رهجة خاصّة، وأجواء تفوح منها رائحة القناعة! والقناعة مناعة يكتسبها الطاعمون بالزيت الطازج مع الخبز الطازج! ونشكر الله “الكهربا مش مقطوعه”! نخبز عالطنجرة أو نسخّن بالفرن!

   

نحن أبناء الأرض فلّاح برّ بها وعاهدها على الوفاء. ورث منها فرح العطاء، ومن خيرها تبادله “الله أطعمك كول واطعم”! في حالة الشحّ نقتسم الموجود… ويجود هذا المراس المتوارَث علينا بفرح يتعاظم ما دام يعمل بالمداورة عامًا بعد عام؛ الكلّ، بدون استثناء يذوق خير السنة من الزيت والزيتون الأخضر المرّ، والأسوَد الفالق نيعُه (مرصوص جديد) ولو بمقدار صحن! هذا الصحن حبة بركة لا تختلف، من حيث الجوهر، عن خمسة أرغفة عرس قانا الجليل!

   نحن أبناء هذه الأرض المتأصّلين في هواها، المنغرسين في ثراها حتى الركب، نملك الوكالة الحصريّة على ابتكار هذا التقليد الفريد… لنكون صنّاع حزام عاطفيّ اجتماعيّ أمنيّ؛ نعطي بلا مِنّة، ونكيل الشكر بمعيار المودّة. هذا منذ البدء كان، وسيبقى ما دام صغارنا يتناغمون معه، يهلّلون ويشاركون!

  “في البدء كانت الكلمة”. وعشيّة وصول “شذى الكرمل” كانت طلقة البداية من: “كلمتنا”! فطربتُ طربًا كاد أن يفسد طعم العسل! وثبة الشذى إلى الأمام بانطلاقة جريئة تحمل مبضعًا يمسّ بالحرام، ولو بالترميز الخجول وغير المباشر. خطوة مباركة، ونافذة تفتح على الأبعاد العميقة المتسبّبة بتورّم العنف! ما أمرّ الحقيقة حين تكون قدَرًا جماعيًا! فرشتها افتتاحيّة لصبح آخر، وقهوة متأهّبة أُخرى تترقّب دويّ طلقة أُخرى، وأكثر من راجمة التحذير: إلتزموا الملاجئ أو الغُرف الآمنة! وأخوك مجبر على السير بمحاذاة مخاوفه، بطل إذا تمكّن من كسر غمّة الأجواء المدلهمّة.

  “قال: السماءُ كئيبةٌ، فتجهّما!      قلتُ: ابتسم! يكفي التجهّم في السما!”

رجّفت الطلقة الأولى صبح البيت حتى كادت أن تهتزّ أركانه! “إلى الملاجئ!” فجاوبها في الحال وديع الصافي” جبالنا حدّ السما بتلوح… جبالنا شقّ الصبح بكّير طلّة عرايس نور طلّتها…” لن ألتزم غرفة “آمنة” حبيسة ضوء اصطناعيّ! “آمنة”! وهل في بيوتنا غُرف آمَن من جبال عشقنا نور الحريّة؟ هل بيوتنا، وبيتنا تحديدًا فضاء آمن وكلّ الجيران، ومن بعد بعدهم يمكنهم تصديعه بركلة؟ ثمّ إنّ بيتنا هذا يبعد عن أقرب ملجأ مسافة تكفي مرتعًا لرتل من الدبابات! هذا، فيما نحن ندبّ في البيت والحديقة نملتين تتعاونان على حمل حبة قمح…

  التزمتُ مقعدي… قطّبتُ شهيتي عن أيّ طرب خارج المجال الجويّ لجبالنا، أرضنا وزيتوننا… فإنّ طربًا في الإيد ولا عشرة على الورق!

   بعد حين سيقفل العام أيلولًا، ويفتح أبواب صدره لتشرين آخر… وتطلق كروم الزيتون رُسُلها بدعوة رسميّة لتعاليل وأعراس القطاف… عيون الزيتون غمّازات لها مع الإغراء تاريخ!! واحتكاك الريح بأطرافه فيه من الإثارة ما يحتجزنا في الشرفة إيّاها، في انتظار حمائم التبشير ترافقها زغاريد التأذين لموسم زيتونيّ جديد… فهل سنتمكّن من التلبية؟

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*