لغة الكاتبة فضحت توجهاتها المسيئة للعندليب والثورة (تعقيب على مقال سارة قريرة “عبد الحليم حافظ، العندليب الناصري الأسمر”) – زياد شليوط

قرأت في صحيفة “الاتحاد” الحيفاوية المقال المشار إليه أعلاه، في عددها يوم الثلاثاء الموافق 26 تموز 2014، وقد شدني عنوانه وفرحت بأن أحدا ما زال يذكر عبد الحليم بأغانيه الوطنية، خاصة من الجيل الشاب. وبعد انتهائي من قراءة المقال شعرت بغصة جعلتني أعيد قراءة المقال ثانية، وفعلا بعد القراءة الثانية وجدت فيه الكثير من المغالطات والإساءات التي لا يمكن تجاوزها دون رد واضح ودامغ. وقبل ذلك ذهبت لأتعرف على كاتبة المقال في الانترنت، وقد تم تعريفها بأنها رئيسة تحرير موقع “أوريان 21” وأنها أكاديمية تونسية شابة درست الأدب الفرنسي وتعمل صحفية.

تفتتح سارة المقال باستعراض بعض المشاهد التي تذكرها بعبد الحليم واختارت الكاتبة، “مشاهد لأشهر عطلة صيف في تاريخ السينما المصرية في فيلم “أبي فوق الشجرة” (1969)، ومقاطع حفلاته وطريقة تواصله مع الجمهور (و”الخناقة” على المسرح أثناء أدائه لقصيدة نزار قباني “قارئة الفنجان”). وذكرت أيضا علاقته بسعاد حسني ومرض البلهارسيا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ألم تجد الكاتبة سوى تلكالمشاهد لتذكرها بعبد الحليم، تلك المشاهد البعيدة عن عنوان ومضمون مقالها، ولم أفهم حقيقة العلاقة بين ما ذكرته في مقدمة المقال وعنوانه!

بعد ذلك تبدأ الكاتبة الحديث عن “ابن الثورة”، لكنها ومن خلال المفردات التي تستخدمها تكشف عن توجهاتها تجاه ثورة 23 يوليو حيث تنعتها بـ”ثورة الضباط الأحرار” (وقد وضعت الكاتبة المزدوجين من عندها)،وتارة على أنها “انقلاب جزء من الجيش في 23 يوليو/ تموز1952 على الملك فاروق”. والعبارة الثانية لم تضعها بين مزدوجين، مما يكشف للقاريء الحصيف وجهة نظر الكاتبة تجاه الثورة، فهي لم تنعتها بثورة الشعب و/أو الجيش انما “جزء من الجيش”! وتجاهلت أن كل الجيش المصري وفي أعقابه الشعب كله لم يعترضا على الثورة فحسب، إنما عبّرا عن تأييدهما الجارف لها، فكانت ثورة تجسد مطالب الشعب وإرادته، كما أكد قائدها عبد الناصر، الذي قال في “الميثاق”: ” إن أعظم ما في ثورة 23 يوليو سنة 1952 أن القوات التي خرجت من الجيش لتنفيذها، لم تكن هي صانعة الثورة، وإنما كانت أداة شعبية لها”.

بعد ذلك تنتقل الكاتبة لاستعراض بعض أغاني عبد الحليم الوطنية التي تؤرخ لثورة يوليو، وتتوقف عند أغنية “حكاية شعب” والتي يمكن اعتبارها من أهم الأغاني لأنها تحكي قصة “السد العالي” وما وراء السد من تأميم القنال ردا على الصلف الغربي بمنع مصر من استدانة قرض من البنك العالمي لبناء السد. وهنا تدعي الكاتبة إما جهلا أو تجاهلا أن عبد الحليم “صار يخطب في الجماهير، وها هو يقاطع المجموعة الصوتية ليتحدث إلى الجمهور..” إن ما أوردته الكاتبة لا يمكن أن يعتبر إلا تسخيفا للأغنية واستهزاء بما قدمه عبد الحليم من أسلوب جديد ويتناسق مع المناسبة وقصة الأغنية، وكان هذا الأسلوب جديدا وخارجا عن المألوف، بأن يبدأ المطرب أغنيته بالحديث المباشر إلى الجمهور الذي تفاعل معه ومع توجهه. فهل حقا “قاطع” عبد الحليم المجموعة، أم أن هذا المقطع جاء متلاحما مع مضمون الأغنية التي تعتبر “حكاية شعب” كما أطلق عليها، فيقول عبد الحليم مخاطبا الجمهور (وليس خطيبا) “الحكاية مش حكاية سد.. حكاية الكفاح اللي ورا السد..حكاية شعب للزحف المقدس قام وثار”، والغريب أن الكاتبة أوردت كلمة “صار” بدل “ثار” في اقتباسها.

وتعود الكاتبة لتستهزيء بأغنية أخرى وهي “مطالب شعب” فتصف مقدمة الأغنية قائلة “يفسح حليم المجال لناصر” وتقصد المقاطع الصوتية للزعيم عبد الناصر من خطب مختلفة، وتواصل “ناهيك عن الشعارات التي ترفعها الفرقة الصوتية وكأن الحفلة باتت عرضا عسكريا”. فأي هراء هذا الذي تكتبه سارة، وهل تقدم قراءة لأغاني عبد الحليم الوطنية فعلا،أم تهدف إلى التعريض بها والانتقاص من قيمتها؟ ولا تخجل من القول عن أداء أغنية “يا أهلا بالمعارك” بأن حليم “يغني متفائلا وساخرا في نفس الوقت”، ولا تأتي بأي دليل على ذلك، وكيف اكتشفت أن حليم أدى الأغنية بشكل ساخر؟ لا ندري.

وعندما تتحدث الكاتبة عن أغنية “عدى النهار” التي كتبها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وأداها عبد الحليم بعد نكسة 1967، تعتبر “المقدمة الموسيقية الحزينة لهذا اللحن، هي الأجمل من بين كل الأغاني الناصرية التي أداها العندليب”. هذا الحكم يدل على توجهات الكاتبة التي أكثر ما أعجبها من أغاني عبد الحليم الوطنية هذه الأغنية، بينما تجاهلتعشرات الأغاني التي تحدثت عن إنجازات الثورة وتحدياتها ومبادئها.وإذا ما أردنا ايراد شهادة عقلانية مقابلة لما ذهبت إليه حول هذه الأغنية،نكتفي بما كتبه كمال رمزي في مجلة “أدب ونقد” المصرية (عدد سبتمبر 1986)، حيث يقول: “بعد المقدمة الموسيقية الهادئة، والتي يشوبها شيء من التوجس، يأتي صوت عبد الحليم الهامس، مجسدا، على نحو رمزي، وضع الوطن كله من خلال البلدة الريفية الصغيرة التي يتحدث عنها”.

وتصل ذروة اساءات الكاتبة في هذا المجال، عندما تتحدث عن فترة السادات فتكتب “يقال إن أنور السادات منع بث الأغاني الناصرية لعبد الحليم حافظ في السبعينات”. هذا كل ما تستنجه الكاتبة أنه “يقال”. أي أنها تشكك في منع السادات للأغاني الناصرية، وكأن ذلك ليس حقيقة تاريخية ومؤكدة في كل السجلات. وما بال الكاتبة لا تورد أدلتها المزعومة على تلك الواقعة؟ والأفظع من ذلك وصفها لأغاني الثورة بأنها “الأغاني الدعائية” كما أسمتها بكل وقاحة، وتواصل الكاتبة في ختام المقال بالتساؤل الخبيث حول اختيار عبد الحليم “هذا الطريق من باب الانتهازية” بعد كل السنوات التي مرت وبعد عشرات المقالات ومئات الشهادات عن علاقة عبد الحليم بالثورة وقائدها تطرح الكاتبة ذلك السؤال الخبيث والسام، وتلحقه بعبارة سيئة ومسيئة وخبيثة زاعمة بأنه “لم يحظ عبد الحليم حافظ أبدا بصداقة عبد الناصر الخاصة”، دون أن تفصح لنا عن مصادرها السرية لهذه المعلومة، متجاهلة أو جاهلة أن علاقة خاصة ربطت بينهما، وأكتفي بذكر حادثة واحدة وهي زيارة عبد الناصر لحليم في بيته بعدما علم بمرضه، وكذلك ما ذكره سامي شرف، مدير مكتب جمال عبد الناصر في كتاب ” عبد الناصر كيف حكم مصر؟” للكاتب عبد الله إمام بأن “عبد الناصر كان يحب عبد الحليم حافظ ويعتبره ابنا له”، فهل الابن لا يحظى بصداقة أبيه؟!

إن سارة كتبت مقالا بعنوان دسم، وضعت سمومها في مضمونه، وكان بامكاني التوسع في الرد والكتابة على ادعاءات أخرى، لكن مساحة المقال لا تسمح بذلك لذا أكتفي بما أوردته هنا، على أن أعود بتفاصيل أكثر إذا دعت الحاجة.  

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*