لم أعد أُرجئ التوجّه لمستودعات عقلي الصغير! فهناك مجمّع جرار الماء الزلال! لم أعد أستنكر تلكئي عند المفارق كي أُصغي لكركرة السلاف في الخوابي! فقد حلّلتُ استدارتي لنظام حركة السير العامّ المقاطع مقاطعة صريحة دروب الرخاء النفسيّ والثراء الروحيّ…
عصيان إيجابيّ باركته مستحدثة قانونًا خاصًّا أُجيز لنفسي به تبذير ما شئتُ من الوقت مراعاة لحكاياتي الخاصّة. وليس لي من هدف سوى تأمين بعض الحصانة المضادّة لأذى صواعق النقل والحروب… والثقافة! فاهتراء الثقافة في حاضرة التربية والتعليم قد ألمّ بي ألمًا شديدًا طال أمده حتى صار مزمنًا…
أثناء استراحة خلال الطريق تناولتُ قرص مهدئ سريع المفعول. على قاعدته استنسختُ من أُغنية “رزقلله عالعربيات” نثريّة تتناسب مع إيقاعها ونشرتُها… وقد مررتُ فيها سريعًا على كوكبة من المعلمين (الأحياء) الذين تركوا علاماتهم فينا شامات حميدة… ثمّ تواريت. (ثالج لا تعالج!). لكنّ المثل/ الحكمة “العلم في الصغر كالنقش في الحجر” يقدح في رأسي مذكّرًا بالفرق بين الشامات الحميدة والخبيثة!
جيوب محفظة ذاكرة مدرستي الأُولى مرصوصة رصًّا دقيقًا ومتجانسًا من الصوَر المتحرّكة في مسقط رأسي. في موقع استراتيجيّ بامتياز ثبّتُّ، قبل عامين، عدسة سحريّة تصوّر البعدين: السمعيّ والبصريّ، نتج عنها مجموعة ” صوَرمن البقيعة بالأبيض والأسوَد”.
الصوَر تلاحقني مطاردة حُزم الضوء أقدام العتم، فأعكف على تهذيبها وتبويبها بنِيّة إخراجها كتابًا يتجاهل التاريخ ولا يجهل الإنسان. عدسة المُراجع تبيّن ثغرات بصريّة تكشف عنها ومضات سمعيّة متلاحقة. هذه فراغات فاقعة يجب عليّ ملؤها مكتفية بما توفّر من وثائق… لن أستعير درّاجة ساعي البريد المخضرم المتمرّس بالنفاذ من البيوت والأزقّة والسطوح إلى مفارق العيون ولمّات جيران الحواكير والحقول… ليس بوسعي الاجتهاد لفعل هذا!
وإذ بحفيدي يفاجئني، يحرّضني ويدعوني لركوب درّاجته مذكّرًا بما كان مني قبل عشر سنوات، وقد استدرجتُه (والآخريْن) لتسلية الوقت المتعثّر بما يحلّي ويغذّي؛ رسم أشكال متناسقة على قاعدة المربّعات…_” وبالعلامة ثاني يوم إمي اشترتلنا ورق ملمتري! بلاط حمّامات منزله الجديد يذكّره، ويذكّرني بما سلّى والده وأعمامه الوقت من رسم على مربّعات الحساب، مناوبة مع مسح “أطلس العالم” مسحًا شتويًّا شاملًا من الغلاف للغلاف، أُسوة بجدّهم (أبي)! ” ستي، إحكي الصحيح، معقول كان معلم الرسم يعرف عن هذا البلاط قبل ستين سنه؟ معقول!؟
قرأتُ له هذه الصفحة من كتاب مدرستي الابتدائيّة، وقمتُ للتوّ لأملأ هذا الفراغ النافر بين صوَر الأبيض أسوَد. المدرسة قلعة مرّت بين الصوَر عرَضُا…ومن أعمدتها المعلّم الفاضل جمال علي أبو فاضل. ما كان معلّم الرسم يعرف. والأرجح أنّه كان يستشرف… فالمسألة، يا حبيبي، مسألة إحساس يوجّهه خيال فنّيّ خلّاق! هكذا تولد الابتكارات… وهكذا تزدهر…
قال: بتعرفوا البلاط المنمّش؟ هذا البلاط رح يتغيّر، وييجي محلّه بلاط مع رسمات! خذوا ورقة حساب وقلّدوا المرسوم عاللوح! رسم مربّعًا قسّمه لأربعة، وملأ رسمًا بالطبشور أربع الزوايا المتجاورة (في المركز)، رسم مثلها جانبًا، وملأها بنموذج آخر… وقد زعم أنّه سينقل أجمل وأدقّ الرسمات لمصنع البلاط، عن طريق صاحب! صدّقنا فأبدعنا؛ رسوماتنا ستكون نماذج!! بعد عشرات السنين صحّ زعمه!
لعلمكم أيّها المدرّسون الأفاضل، المعلّم جمال لم يكن معلّم الرسم. كان، رسميًّا، معلّم الزراعة والرياضة، وهما مصدرا الطاقة الحراريّة الأساسيّة لإدارة معمل التربية. لا أتذكّر إن كان مربي صفّ خاصّ. لكنّني أتذكّره المسؤول الأكثر انخراطًا في ورشة صيانة التربية الإنسانيّة؛ فهو منظّم العلاقة بين براعم الفلاحين، ورابط حبال المودّة بين اللياقة البدنيّة واللباقة الأخلاقيّة… فأن يُذكر مثله ويُزار واجب… (وفوجتُ أثناء زيارته أنّه في العام1949 قد علّم صفّ البستان!) “ما كان في معلمات”!).
لم تشعر البنات بالنفي إلى بُقع ظلّ الزيتون عندما تكون الألعاب الرياضيّة قاسية، كشدّ الحبل أو القفز العالي فوق الحواجز… عيناه تتنقّلان بين هؤلاء” القساة”، وجبال حبّ الزيتون المتساقط المدمول بالتراب. هذه لعبة” المدموله”، وهي نقيض ما يمارسه هؤلاء الرفاق. الرابحة واحدة، هي التي تجمع أكبر عدد من المدمول… ودون هذا صبر وتركيز وهدوء. من تغدرها قشّتها فتكشف عن أكثر من حبّة بتطلع برّا، تراقب في انتظار الجولة التالية…
حصّة الرياضة الشتويّة (الماطرة) نشاط يقوم على اثنين: رياضة عقليّة، وحزازير مسلّية. حصّة الزراعة الشتويّة (الماطرة) خلطة من الرسم الحرّ، ورسم من الطبيعة، ومنها أجزاء النبتة من الجذر حتى الثمرة!
غير بعيد عن المدرسة، فوق “العين البرّانيّه” دار عامرة بأهلها. يسكنها فيمن يسكنها المعلّم جمال. صالون بيته متحف للفنون الجميلة المخرّمة والمطرّزة وأشهرها المرسوم بقطبة ” الفلّاحي”. معرض يظهر فيه التحيّز للفراش والزهور المنسّقة، ولا تظهر فيه الأنامل التي تحرّكت بين هذه المنمنمات المربّعة!
بشاشة أميرة الصالون/ “هديه” أم فاضل تنتشر في المكان هبّات من الترحيب والتكريم… كلّ مَن تطرق بابها لاستعارة رسم تُستقبل نفس الاستقبال، حتى وإن كانت تلميذة مبتدئة!! نشر الجمال من طبعها. وانتشر، تلاقيه من الأطراف أشكال وألوان من مبدعات الإبر والخيطان. تحت كلّ عريشة وعند كلّ داخون فنّانة ترحّب وتُعير!
المعلمة أُجني (طُعمه) مربية المهارة اليدويّة تستعير من الجميع. لكنّها تميل لمتحف أمّ فاضل/زوجة زميلها! توزّع علينا الرسمات: أُنُقلوها عورق حساب ملوّنة بنفس الألوان، وبسرعة… وانتبهوا لازم نرجّعها نظيفه!
نظافة فكر وكفّ وخيال تركت أثرها فينا رغبة حقيقيّة بإيفاء المعلّم/ة ما يستحقّ من التكريم والتبجيل!
“عَلِمَ”، أي عرف. واسم الفاعل “عالم”… “علّمَ”، أي ترك علامة. واسم الفاعل “مُعَلِّم”! الفرق بين علّم ودرّس هو الفرق بين التنوير والتلقين.